تابعتُ كغيري من المهتمين بالشأن العام النقاش الدائر حاليا حول مشروع الإعلان عن شراكة متوقعة بين بلادنا والاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة، وفي إطار هذا المشروع فمن المنتظر أن تُنظم مفوضة الشؤون الداخلية للاتحاد زيارة إلى بلادنا يوم 7 مارس 2024 رفقة وزير الداخلية الإسباني ووزيرة الدولة البلجيكية لشؤون اللجوء والهجرة، ومن الراجح أن يتم خلال هذه الزيارة ـ حسب خارطة الطريق ـ التوقيع على اتفاقية شراكة في مجال الهجرة. إن الحديث عن شراكة مع الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة يثير الكثير من المخاوف لدى الرأي العام الوطني، وتحتاج هذه المخاوف لجهد كبير من الحكومة لتبديدها، وسنستعرض في هذا المقال أبرز النقاط التي تثير تلك المخاوف.
1 ـ أن ملف الهجرة يعدُّ من الملفات الشائكة جدا والمعقدة جدا، ولذا فنقاش هذا النوع من الملفات يحتاج إلى مفاوضين محترفين يضعون المصلحة العليا للبلد فوق أي اعتبار، ومن خلال تجارب سابقة، فيمكن القول إن المفاوض الموريتاني قد يضع المصالح الخاصة والآنية فوق المصلحة العليا للبلد، ولنا في الاتفاقية مع "وود سايد" في عهد ولد الطايع، والاتفاقية مع "بولي هوندوغ" في عهد الرئيس السابق، خير مثالين على الخسائر التي قد تتكبدها بلادنا بسبب اتفاقيات من هذا النوع يبرمها مفاوضون غير محترفين يضعون المصلحة العليا للبلد في الرتبة الثانية؛
2 ـ أن الدول المعنية بملف الهجرة خارج الاتحاد الأوروبي تنقسم إلى قسمين : قسم يرفض توقيع اتفاقية من هذا النوع، وقسم وقع اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، ولكنه يتحدث في كثير من الأحيان عن عدم التزام الاتحاد ببنود الاتفاقية؛
3 ـ تركيز الاتحاد الأوروبي على حقوق الإنسان في أي اتفاقية من هذا النوع، والاتحاد الأوروبي عندما يتحدث عن "حقوق الإنسان" بمفهومه هو يكون من حقنا أن نقلق، ولعلكم تتذكرون مستوى الضغط الذي مارسته هيئات محسوبة على الاتحاد الأوروبي من أجل إطلاق سراح "كاتب المقال المسيء"، والذي يعتبر وفق القيم والمعايير الأوروبية مجرد مدون عبر عن رأيه، وله الحق ـ كل الحق ـ في ذلك. ولعلكم تدركون كذلك أن قيامة هذا الاتحاد تقوم عندما يمس من "حقوق" الشواذ وممارسي الفاحشة وكل أشكال الرذائل.
إن المهاجرين يأتوننا من بلاد شتى، فمنهم من يدين بغير دين الإسلام، ومنهم الملحد، ومنهم الشاذ، فأن يُمنح كل هؤلاء "حقوقهم الإنسانية" كما يراها الغرب، بموجب اتفاقية للهجرة، فإن ذلك سيعني ترويج الشذوذ والفحشاء والمنكر في بلادنا؛
4 ـ تأتي هذه الاتفاقية المتوقعة في وقت تشهد فيه بلادنا هجرة غير مسبوقة للشباب الموريتاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا ما استمرت هجرة الشباب الموريتاني مع تدفق مهاجري الدول الأخرى إلى داخل البلاد وتوطينهم ولو مؤقتا، وذلك في ظل عدد سكان قليل أصلا، فإن مثل ذلك سيؤدي في المحصلة النهائية إلى إخلال كبير بالتركيبة الديموغرافية للبلد؛
5 ـ من المعروف أن الموريتانيين الذين يهاجرون إلى بلدان أخرى نادرا ما يتدخلون في الشؤون الداخلية للبلدان التي يقيمون فيها، وذلك على العكس من بعض المهاجرين الذين يأتون إلى موريتانيا من دول الجوار، وكثيرا ما أصدرت وزارة الداخلية الموريتانية بيانات تؤكد فيها مشاركة أجانب في أعمال شغب داخل موريتانيا تحت غطاء سياسي، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك بيان لوزارة الداخلية أصدرته عقب احتجاجات 2011 ضد الإحصاء وأكدت من خلاله اعتقال أجانب شاركوا في المظاهرات وأعمال الشغب، وكذلك بيانها بعد الانتخابات الرئاسة 2019، والتي أعتقل فيها 100 أجنبي حسب وزارة الداخلية، وأخيرا بيانها المتعلق بالاحتجاجات التي أعقبت وفاة "عمر جوب".
إن توطين الأجانب ولو بشكل مؤقت، مع توفير الحماية القانونية لهم من طرف الاتحاد الأوروبي قد يتسبب مستقبلا في مشاركة المزيد من الأجانب في المزيد من الاحتجاجات التي قد تشهدها بلادنا من حين لآخر، وارتكابهم بالتالي للمزيد من أعمال الشغب، وربما يصل الأمر في نهاية المطاف إلى أن يحتج الأجانب أنفسهم طلبا للمزيد من الحقوق التي تكفلها لهم المواثيق والاتفاقيات الدولية؛
6 ـ تعاني المدن الكبرى في بلادنا من انتشار الجرائم وتنوعها، وقد وصل الأمر إلى مستويات مثيرة للقلق، ومن المؤكد أن استقبال المهاجرين وتوطينهم ـ ولو بشكل مؤقت ـ سيزيد من تفشي الجريمة وتطورها، وربما وصولها إلى مستويات تهدد كيان البلد واستقراره؛
7 ـ من المعروف كذلك أن الشباب الموريتاني يتقاعس عن الكثير من الأعمال ويتركها للأجانب، وهو ما قد يزيد من حضور اليد العاملة الأجنبية، وربما تصل نسبة حضورها إلى أرقام مقلقة بعد إبرام اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي حول الهجرة.
فعلى سبيل المثال فقد أصدرت إدارة الأمن الوطني يوم الجمعة الموافق 11 يناير 2022 "تعليمات صارمة" بخصوص تطبيق النصوص التنظيمية المتعلقة بحظر ممارسة النقل العمومي للأشخاص والبضائع على الأجانب، ولم تطبق هذه التعليمات الصارمة ولو ليوم واحد، وفي يوم الجمعة 19 يناير 2024 أصدرت إدارة الأمن الوطني قرارا ثانيا بحظر ممارسة النقل على الأجانب لتتراجع عنه بعد يومين من خلال إيجاز صحفي أكدت فيه السماح للأجانب بممارسة النقل، مثلهم في ذلك مثل المواطنين، إن كانوا يملكون رخصة سياقة خضراء.
إننا نجد الآن صعوبة كبيرة في منع الأجانب من ممارسة بعض الأعمال التي يفترض فيها أن تبقى حكرا للمواطنين، كما هو الحال في دول أخرى، فكيف سيكون حالنا مستقبلا بعد أن يتم تقييدنا باتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي حول حقوق الأجانب والمقيمين؟؛
8 ـ في ظل الحديث عن قرب تصدير الغاز وظهور ثروات أخرى في البلد، وفي ظل تدهور الأوضاع في بعض البلدان المجاورة، فإن بلادنا ستستقطب المزيد من المهاجرين، وهو ما سيجعل الأمور تزداد تعقيدا في ظل وجود اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي بإيوائهم؛
9 ـ إن المهاجرين إلى أوروبا يعتقدون أنهم ذاهبون إلى جنة الدنيا، وهم عندما يحرمون من الوصول إلى الجنة التي يحلمون بها من طرف جهة ثالثة سيزداد سخطهم على تلك الجهة الثالثة التي حرمتهم من الوصول إلى جنتهم، ولذا فهم سيطمحون إلى مقابل كبير يتناسب مع حجم الخسارة التي تكبدوها بعد حرمانهم من الجنة التي كانوا يحلمون بها، وعندما لا يجدون ذلك المقابل سيعبرون عن سخطهم بكل الأساليب، وربما يمارسون الشغب للتعبير عن ذلك السخط. ثم إنه علينا أن لا ننسى أنه توجد جاليات موريتانية في العديد من البلدان التي يهاجر بعض مواطنيها إلى بلادنا، وسخط هؤلاء قد يؤدي إلى ردود أفعال عنيفة ضد جالياتنا هناك؛
10 ـ ظهرت في الفترة الأخيرة في منصات التواصل الاجتماعي بعض الدعوات المتطرفة التي أطلقها بعض النشطاء الأفارقة، والتي يدَّعِي أصحابها أن سكان شمال إفريقيا هم مجرد وافدين، وأن عليهم العودة إلى الأماكن التي قدموا منها. صحيح أن هذه الدعوات متطرفة وقليل من يتبناها الآن، ولكنها قد تتنامى مستقبلا، وقد تتجه الأنظار إلى موريتانيا بعد تناميها، وذلك لأسباب عديدة لا أجد ضرورة لذكرها هنا، ولذا فإن استقبال وإيواء المزيد من المهاجرين ـ ولو بشكل مؤقت ـ قد يغذي مثل ذلك الطرح المتطرف؛
11 ـ صحيح أن الأوروبيين قد يعدون بأموال كبيرة مقابل توقيع اتفاقية حول الهجرة، ولكن السؤال المطروح : أليست هناك وسائل أخرى أقل مخاطر للحصول على أموال ضخمة بكلفة أقل؟ ألا يكفي مثلا أن نحارب الفساد بجدية للحصول على أموال ضخمة قد لا تقل في حجمها عن الأموال التي يعد بها الاتحاد الأوروبي مقابل توقيع اتفاقيات معه حول الهجرة؛
12 ـ ومما يزيد الأمور تعقيدا هو أن المجتمع المدني "الحقوقي" في موريتانيا، والذي يُفترض فيه أن يقف ضد أي اتفاقية من هذا النوع، هو مجتمع مدني يتحرك تبعا للمزاج الأوروبي، ولذا فقد تحرك بقوة دفاعا عن "كاتب المقال المسيء"، وتحرك كذلك في قضايا مشابهة، ولكنه يغيب اليوم ـ وبشكل شبه كامل ـ عن نصرة غزة، وذلك لكون هذا الملف ليس من الملفات التي يهتم بها الغرب.
إننا لا نتوقع أي تحرك للمجتمع المدني الموريتاني للمطالبة بتقديم توضيحات من طرف الحكومة بخصوص مشروع هذه الاتفاقية، والتي تثير المخاوف لدى الكثير من الموريتانيين.
ختاما
هذه هي أبرز النقاط التي تثير القلق لدى الكثير من الموريتانيين، وعلى الحكومة أن تقدم توضيحات حولها لطمأنة المواطنين، وذلك من قبل المجازفة بتوقيع أي اتفاقية من هذا النوع.
حفظ الله موريتانيا..