الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

وتبخرت الأغلبية ..!!



يعيش الشعب الموريتاني ـ وبكل مكوناته و أطيافه ـ أياما صعبة تطبعها الحيرة والقلق، ويتساوى في تلك الحيرة النخب والعامة، المدنيون والعساكر، المعارضون والموالون، الفقراء و الأغنياء.
ومع أنه لم يسلم أي طرف من هذه الحيرة، إلا أن نصيب "الأغلبية الداعمة" من هذه الحيرة، كان هو النصيب الأكبر، وفي ذلك ما يستحق أن نتوقف عنده، وأن نأخذ منه العبرة، وليت كل رئيس يحكم هذه البلاد يأخذ أيضا منه العبرة.
فمشكلة الأغلبية الداعمة هي أنها لم تمر ـ في كل تاريخها ـ بحالة كهذه، فلا الرئيس عاد من رحلة العلاج لتبسط له السجاد الأحمر، ولتملأ له سماء الوطن وأرضه باللافتات وبالتصفيق، وبالزغاريد، وبمبادرات التهنئة والمساندة.
وفي المقابل فلا عساكر قادوا انقلابا عليه، فَيُخرج بذلك الأغلبية الداعمة من حيرتها، فتنقلب ـ هي بدورها ـ على الرئيس، وتنحل بذلك عُقد ألسنتها، فتبدأ بسب وشتم "النظام البائد"، وتُسارع  ـ من بعد ذلك ـ في إطلاق مبادرات التأييد والمساندة للحاكم الجديد.
إن الأغلبية حائرة ومرتبكة الآن لأن الوقت ليس وقت تصفيق، ولا وقت زغاريد، والأغلبية الداعمة لا تعرف ولا تتقن شيئا غير التصفيق والزغاريد.
لقد أصيبت الأغلبية في مقتل، يوم أصيب الرئيس، فمرضت بمرضه، واختفت باختفائه، وسيظل ذلك هو حالها حتى يشفى الرئيس، أو يُنقلب عليه، فتُخرج ـ عندئذ ـ زينتها، كل زينتها، وتُطلق مبادراتها، وتعود للتصفيق بأياديها وبأرجلها، للرئيس العائد من رحلة العلاج، أو للرئيس الجديد. وبالتأكيد فلا يهم الأغلبية أي الرئيسين صفقت له وزغردت، فالمهم بالنسبة لها هو أن تجد فقط رئيسا تصفق له، حتى تخرج من هذه الحيرة الشديدة التي تتخبط فيها.
إن مناضلي الأغلبية لم يُخلقوا إطلاقا لمواساة الرؤساء في لحظات ضعفهم، وإنما خُلقوا  لشيء واحد: وهو دعم الرؤساء في فترات قوتهم. هكذا تقول كل سير "مناضلي الأغلبيات" بدءا بأول أغلبية، وليس انتهاءً بأغلبية الرئيس المصاب.
هم هكذا خُلِقوا..هم هكذا وُلِدوا ..هم هكذا عاشوا..وهم هكذا سيموتون، إذا لم يتعظوا، أو إذا لم يتعظ الرؤساء الذين يظهرون دائما رغبة واستعدادا لأن تلتف حولهم مثل هذه الأغلبيات البائسة التي تغيب دائما عند الشدائد والمحن.
إن ما تعيشه الأغلبية اليوم جعلنا نتساءل : هل كانت الأغلبية موجودة أصلا؟ أم هل هي مجرد إشاعة كاذبة صدقها الرئيس الحاكم، وصدقها الناس برهة من الزمن، كما يصدقون مؤقتا الإشاعات الأخرى، والتي تكاثرت و تناسلت في الأيام الأخيرة، بشكل غير مألوف وغير مسبوق؟
فهل كان حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" مجرد إشاعة صدقها الرئيس المصاب، وصدقها معه بعض السذج، وذلك من قبل أن يكتشفوا ـ في لحظة حرجة وعصيبة ـ بأن أغلبيتهم الداعمة كانت مجرد إشاعة كاذبة، كإشاعة " الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي"، والذي كان أطول الإشاعات السياسية عمرا، بعد أن عُمِّرَ طويلا حتى كاد أن يبلغ عامه الخامس عشر، أو كإشاعة "عادل" الذي مات من قبل الفطام.
كان يُقال لنا بأن هناك ستمائة ألف "مناضل" ينتسبون للاتحاد من أجل الجمهورية، فأين اختفت الستمائة ألف مناضل؟ فهل ابتلعتهم الأرض فجأة، أم تبخروا في السماء؟ وأين هم عشرات الوزراء والوزراء السابقين؟ وأين هم مئات الدكاترة وآلاف الموظفين السامين؟ وأين هم العلماء والفقهاء؟ وأين هم النساء؟ وأين هي عشرات المقرات الفخمة؟ وأين هي الاتحادات الجهوية في المدن وفي القرى وفي الأرياف؟ وأين اتحادية "انبيكت لحواش"؟ وأين اتحادية "الشامي"؟  وأين هم الشباب الذين استقبلهم الرئيس في القصر أكثر من مرة؟ وأين الغد؟ وأين العصر؟ وأين الحراك الشبابي؟  وأين هم عجائز الأعماق؟ وأين هم  مئات المخنثين؟
فهل ابتلعت الأرض فجأة كل هذه الخلائق؟ وكيف عجز كل هذا الخلق الكثير في تنظيم وقفة مواساة واحدة، أو تنظيم مسيرة تعاطف واحدة مع الرئيس المريض؟
ولماذا لجأ "اتحاد الموتى الأحياء" إلى سرقة صور مسيرة نظمها أفراد قلة غير حزبيين أمام قصر المؤتمرات في ليلة سبت الإشاعات؟ ولماذا أرسل تلك الصور للمواقع المحلية بعد أن أرفقها ببيانات بائسة ويائسة، وكأنها أنشطة حزبية من إبداعاته ؟
أعتقد بأن مشكلة الاتحاد من أجل الجمهورية، هي الحيرة التي يتخبط فيها الآن، حيث أنه لم يتبين له ـ حتى الآن ـ  الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والذي لن يتبين له إلا إذا عاد الرئيس من رحلة علاجه، أو حل رئيس جديد محله.
ختاما، يمكننا القول بأن أشد الرؤساء معاناة هو ذلك الرئيس  الذي يجد نفسه في لحظة ضعف إنساني، وليس له من نصير ولا داعم إلا حكومة كرتونية، أو إعلام رسمي، أو أغلبية تبخرت في الجو، أو ابتلعتها الأرض في اللحظة نفسها التي شعر هو فيها بالضعف.
شفى الله الرئيس، وحفظ الله موريتانيا من كل سوء، ومن كل انقلاب عسكري جديد، وأرشد نخبها السياسية إلى حلول دستورية وتوافقية تؤسس لديمقراطية حقيقية لا دخل للعسكر فيها.
تصبحون وقد دفنتم الاتحاد من أجل الجمهورية في المقبرة.. 

همسة في أذن الوزير,,,

يا وزير الإعلام السابق عليك أن تعلم بأنك قد أخطأت كثيرا يوم بالغت في الدفاع عن الجنرال وعن انقلابه، وهو ما دفعك حينها لأن تصف الرئيس المُنقلَب عليه، وهو شيخ بعمر أبيك، بالكذاب.
و عليك أن تعلم أيضا بأنك اليوم تخطئ كثيرا بالتشفي في رئيس يعاني على فراش المرض، لم تتورع عن شتمه في مثل هذا الظرف، بل وأعلنت عن موته السريري.
يا وزير إن الطريق الذي سلكت يوم انقلاب الجنرال لم يكن هو الطريق الأفضل، والطريق
 الذي تسلكه الآن هو أيضا ليس بالطريق الأفضل.
يا وزير أتعرف أهم شيء نحتاج له في هذا البلد؟
إننا نحتاج لرجال لهم مبادئ ولهم أخلاق ، رجال لهم مبادئ تمنعهم من الانحراف عن الطريق إذا ما تفرقت طريق المصلحة العامة وطريق المصلحة الخاصة في اتجاهين متعاكسين كما حدث بالضبط معك أنت بعد انقلاب 6 أغسطس 2008، ولهم أيضا من الأخلاق ما يمنعهم من الانحراف بالصراعات السياسية إلى صراعات توجهها الأحقاد والمصالح الخاصة أكثر مما توجهها المصلحة العامة.
يا وزير أتدري ما الذي كان عليك أن تفعله يوم انقلاب الجنرال؟ ببساطة كان عليك أن تعارض ذلك الانقلاب بدلا من قبول الوزارة.
يا وزير أتدري ما الذي عليك أن تفعله الآن؟ ببساطة عليك أن تعارض الرئيس المصاب هو ونظامه، تعارضهما بقوة، ولكن بأخلاق أيضا.
المؤلم يا وزير هو أنك لم تفعل أيا من الأمرين، فلا أنت عارضت الجنرال يوم انقلابه، ولا أنت تعارضه الآن بأخلاق.

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

ديلول وتيبه يجيبان


في محاولة مني لفهم ما يجري في البلد، فقد قررت ابتداءً من اليوم أن استعين بشخصيتين تراثيتين معروفتين، إحداهما عُرفت عند الموريتانيين بذكائها وبحكمتها، أما الثانية فقد عُرفت بغبائها وبسذاجتها.
وسأختار في كل مرة سؤالا من الأسئلة التي تشغل بال الموريتانيين، وسأطرحه على الشخصيتين كل على حدة، وبعد ذلك سأحاول أن أقدم لكم إجابتين على السؤال المطروح، وكل إجابة ستكون على لسان إحدى الشخصيتين المذكورتين:
سؤال اليوم : هل توجد في موريتانيا أغلبية داعمة للرئيس؟
جواب تَيْبَه: بالتأكيد توجد في موريتانيا أغلبية داعمة للرئيس، إنها أغلبية داعمة فعلا، ودعمها قد تجاوز حدود إدراككم أنت العقلاء، إنه دعم لا يمكن أن يستوعبه ويدركه إلا الأغبياء من أمثالي.
إن دعم الأغلبية بلغ مستويات فوق حدود تصور العقلاء، فالأغلبية تمرض بمرض الرئيس، وتشفى بشفائه، وتختفي باختفائه، وستعود للظهور بظهوره. فهل هناك دعم أروع من هذا: أن تختفي عن الأنظار حتى يعتقد الناس أن الأرض قد ابتلعتك باختفاء الرئيس الذي تدعم، وأن تظهر لهم وتملأ الأرض وكأنك ما اختفيت يوما في أول لحظة يظهر فيها ذلك الرئيس الذي تدعم.
جواب ديلول: سأجيبك انطلاقا من واقعكم اليوم، والذي تسيطر عليها الإشاعات، دعني أقول لك هذه : إن الأغلبية هي مجرد إشاعة صدقها الناس كما صدقوا الإشاعات الكثيرة التي ظهرت يوم السبت الماضي.
الأغلبية إشاعة، وحزب "الاتحاد من أجل الجمهورية" هو مجرد إشاعة أيضا، ولكن الفرق بين هذه الإشاعات وإشاعات السبت يتمثل فقط في عمر الإشاعة.
فهناك إشاعات تعمر طويلا، وهناك إشاعات تموت في وقت مبكر، وحتى الإشاعات المتعلقة بالأغلبيات وبالأحزاب الحاكمة فهي أيضا تختلف في أعمارها، فإشاعة " الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي" عُمِّرَتْ طويلا حتى كادت أن تبلغ عامها الخامس عشر، أما إشاعة "عادل" فقد ماتت من قبل الفطام، وهاهي إشاعة "الاتحاد من أجل الجمهورية" تدخل اليوم في غيبوبة، ولا أدري إن كانت ستستفيق من هذه الغيبوبة، أم أنها ستكون بمثابة غيبوبة الاحتضار. 

الأحد، 28 أكتوبر 2012

من رصاصات السبت إلى شائعات السبت!!



لم يكن مساء السبت الموافق 13 أكتوبر 2012 مساءً عاديا في حياة الموريتانيين، ولم يكن كذلك مساء السبت الموافق 27 أكتوبر 2012 مساءً عاديا، وبين المساءين عاش الشعب الموريتاني نصف شهر عصيب، كثرت فيه الأسئلة وغابت فيه الأجوبة، طغت فيه الشائعات والإشاعات واختفت فيه الحقيقة، كبرت فيه الحيرة واتسعت حتى غطت على ما سواها.
بعد رصاصات السبت، صمت البعض، وثرثر البعض الآخر، وكان لابد لصمت البعض، ولثرثرة البعض الآخر، أن يوصلنا إلى إشاعات أو إلى شائعات السبت، وكلا المصطلحين يمكن استخدامه هنا، فدرجة الصدق لا يمكن تحديدها في كل ما قيل مساء السبت الموافق 27 أكتوبر.
إن شائعات السبت 27 أكتوبر، لم تكن إلا نتيجة حتمية لطبيعة ردود الفعل الرسمية على رصاصات السبت 13 أكتوبر، خاصة منها ردود الفعل التي جاءت من طرف الحكومة، والحزب الحاكم، والإعلام الرسمي.
والحقيقة أنه لا عاقل في هذا البلد كان يتوقع من هذه الأطراف الثلاثة أن تكون ردود أفعالها على مستوى الحدث، وذلك لأنها ـ وببساطة شديدة ـ لم تتعود إلا على التصفيق بالأيادي و الأرجل في أوقات اليسر، أوالزغاريد عند توزيع الغنائم. أما في أوقات العسر، وفي أوقات الشدة، فإن تلك الأطراف لا تعرف إطلاقا كيف تتصرف.
لا أحد كان يتوقع من تلك الأطراف الثلاثة ردود فعل ذكية ومناسبة على رصاصات السبت، لأنها ليست مؤهلة أصلا لاتخاذ مثل تلك الردود، ولكن في المقابل لا أحد كان يتوقع من تلك الأطراف أن تتخذ مواقف سلبية جدا، وأكثر خطورة على الرئيس الذي تزعم أنها تسانده، من مواقف المعارضة التي كانت تطالب برحيله.
دعونا نعود قليلا إلى ردود أفعال هذه الأطراف الثلاثة بعد رصاصات السبت 13 أكتوبر، لأن ذلك وحده هو الذي سيساعدنا في فهم ظهور هذا الكم الهائل من الشائعات مساء السبت 27 أكتوبر.
ففي مساء السبت 13 أكتوبر، تأخرت وسائل الإعلام الرسمية عن الحديث عن إطلاق النار على الرئيس، ولم عن تلك الحادثة إلا بعد أن تم تداولها كثيرا في المواقع المحلية.
ففي التلفزة مثلا تم تقديم الحادثة من خلال فاصل تم اقتطاعه بين سهرة شعرية على أنغام العود، وسهرة غنائية، فتم تقديم الحادثة من طرف وزير الاتصال بطريقة مربكة، في ليلة سمر وطرب تلفزيوني، وتم الحديث عن "النيران الصديقة" بطريقة أكثر إرباكا.
وفي اليوم الأول بعد الحادثة أطل علينا مسؤول الشؤون السياسية للحزب الحاكم ليتحدث عن الانتخابات، وكأن شيئا لم يكن، أو كأنه أراد أن يقول للمعارضة: لماذا تتخذون موقفا أخلاقيا من هذه الحادثة ما دمنا نحن الذين نمثل أغلبية الرئيس المصاب لم نتذكر الأخلاق في مثل هذا الوقت؟
أطلق الحزب الحاكم بعد ذلك إشاعات كثيرة عن عودة الرئيس القريبة، وعن الاستعدادات التي يقوم بها لاستقبال الرئيس، وكأنه أراد بذلك أن يُعَظِّم الصدمة لدى الموريتانيين لما يكتشفوا بأن الرئيس لا يستطيع العودة في مثل ذلك الظرف الذي تم تحديده.
أطلق أيضا الحزب الحاكم "إشاعة خطاب الأضحى"، وأكد الحزب بأن الرئيس سيتحدث في هذه المناسبة التي لم يتحدث فيها أي رئيس موريتاني من قبله، وهو ما تسبب في النهاية في ظهور الخطاب المكتوب، والذي زاد من قلق الموريتانيين على الرئيس، خصوصا أن الخطاب المكتوب لم يقرؤه وزير الإعلام، أو أي مسؤول حكومي رفيع، وإنما تم تقديمه من طرف مقدم نشرة الأخبار، كخبر ثالث في نشرة الثامنة التي تأخرت ليلتها بربع ساعة تقريبا.
ويذكر أيضا للتلفزة من باب جهودها الجبارة في تشجيع الشائعات، بأنها قدمت لقاءً حصريا في وقت أوشك فيه الجميع أن ينسى الرواية الرسمية لحادثة إطلاق النار على الرئيس، وفي وقت حاول البعض فيه أن يتغافل عمدا عن نقاط الضعف في تلك الرواية.
في مثل ذلك الوقت استضافت التلفزة العقيد والملازم، وقدمت لقاءها الحصري، وكأنها أرادت بذلك ـ من خلال التنسيق طبعا مع جهات عسكرية ـ  أن تشكك من جديد في الرواية الرسمية، وأن تجعلها تشكل موضوعا قديما جديدا لتندر الموريتانيين.
وظهر أيضا تناقض واضح بين المصادر الرسمية، فتحدث المستشار الإعلامي للرئيس عن خروج الرئيس من مستشفى بيرسي، بينما ظلت وسائل الإعلام الرسمية ( الوكالة، التلفزة، الإذاعة) تتحدث عن اتصالات ورسائل تصل إلى الرئيس في مقر إقامته بمستشفى بيرسي.
ومن بعد ذلك كله، جاءت موبقة العطلة المعوضة، والبيان الرئاسي، والذي لم يكن معهودا لدى الموريتانيين خصوصا أن يوم الأحد لم يكن هو اليوم الموالي لعيد الأضحى المبارك.
غابت الحكومة بشكل كامل، وغاب أي ناطق رسمي، وغابت أي متابعة لصحة الرئيس، وغابت التقارير أو اللقاءات الصحفية التي تتحدث عن الوضعية الصحية للرئيس، وعن تطورها. ولم يكن بإمكان الرئيس أن يقوم بتلك الأدوار بنفسه، ولم يكن بإمكانه أن يخاطب الموريتانيين كما خاطبهم في اليوم الموالي لإصابته، وبعد خمس ساعات فقط من العملية التي أجريت له في المستشفى العسكري.
وبالتأكيد غابت أيضا المقالات في الصحف والمواقع المحلية ، وغابت التصريحات الفردية لأنصار الرئيس، ولم يظهر من الثمانمائة ألف مناضل المنخرط في الاتحاد من أجل الجمهورية، أي مناضل واحد.
اختفوا فجأة، وكأنما قد ابتلعتهم الأرض بعد دقائق معدودة من إطلاق النار على الرئيس.
بالمختصر المفيد غابت الحكومة، وغابت الأغلبية، وغاب الإعلام الرسمي، لذلك فلم يكن أمام الشعب الموريتاني إلا أن يبحث عن مصادر أخرى للأخبار مما جعله يقع ضحية لإشاعات مواقع التواصل الاجتماعي، ولبعض المواقع التي تفتقد للمهنية، والتي لا تتحرى الصدق فيما تنشر.
شفى الله الرئيس، وحفظ الله موريتانيا من كل سوء، ومن كل انقلاب عسكري جديد، وأرشد نخبها السياسية إلى حلول دستورية وتوافقية تؤسس لديمقراطية حقيقية.
تصبحون على حقيقة مؤكدة.. 

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

رصاصات "اللقاء الحصري" على الرواية الرسمية!



بث التلفزيون الحكومي الليلة البارحة لقاءً حصريا مع الملازم الذي أطلق النار على الرئيس عن طريق الخطأ، وذلك بعد أن مر أسبوع كامل على  تلك الحادثة. وفي هذا اللقاء الحصري تم إطلاق رصاصات ـ بحسن نية، أو بسوئها على الأرجح ـ على الرواية الرسمية للحادثة، فكانت النتيجة أن أصيبت هذه الرواية ـ والتي ولدت بتشوهات خلقية ـ  بإصابات بالغة ستؤدي حتما إلى موتها المبكر عند غالبية الذين  تابعوا ذلك اللقاء الحصري.
كانت الرواية الرسمية ـ من قبل نيران اللقاء الحصري ـ هي الرواية الأكثر مصداقية عند الناس، وبالتأكيد فإن تلك المصداقية لم تكتسبها من نقاط قوة كانت تختزنها، وإنما اكتسبتها من كثرة نقاط الضعف في كل رواية من الروايات التي حاولت أن تنافس الرواية الرسمية، أو أن تكون بديلا لها.
والحقيقة أن الرواية الرسمية قد تم تقديمها ليلة الحادثة، من طرف وزير الاتصال بطريقة مربكة، وكأن الوزير أراد أن يغذي الشكوك حول مصداقية تلك الرواية لحظة ظهورها للعلن. ولما بدأت هذه الرواية تكتسب مصداقية، ولما بدأ المواطنون يقتنعون بها نظرا  لغياب أي مصداقية للروايات البديلة، جاء اللقاء الحصري وكأنه قد انزعج من تلك المصداقية التي جاءت صدفة، فأطلق نيرانه من جديد على الرواية الرسمية، ليعيد إليها الشكوك، وليكشف بذلك  أن وزير الاتصال ومؤسسات الإعلام الرسمي التابعة له هم من ألد خصوم الرواية الرسمية.
ولعل نقطة القوة الوحيدة التي كانت تختزنها الرواية الرسمية ـ إن كانت هناك من نقطة قوة تختزنها ـ هي أنها تركت لمُصَدِّقيها الحرية الكاملة في تخيل تفاصيل معقولة للحادث، ولكن بعد اللقاء الحصري لم يعد بإمكاننا ـ نحن من صدقنا الرواية الرسمية ـ أن نتخيل تفاصيل الحادث، وذلك لأن المعنيين قدموا لنا تفاصيل ساذجة ومتناقضة في لقائهم الحصري، فأحرجونا، وأحرجوا أنفسهم أمام كل المشككين في هذه الرواية.
وقبل أن أكشف عن بعض نقاط الضعف التي سجلتها خلال متابعة اللقاء الحصري، دعوني في البداية أحدثكم عن بعض الملاحظات العامة ذات الصلة باللقاء الحصري.
الملاحظة الأولى : لم يكن من المناسب أن يؤتى بملازم إلى التلفزيون الحكومي ليتحدث عن أخطائه المهنية أمام المدنيين والعسكريين على حد سواء.
الملاحظة الثانية : من المعروف أن الحديث في التلفزيون له رهبته، خصوصا إذا تعلق الأمر بضابط عسكري لم يتعود على التحدث أمام أي جمهور.
الملاحظة الثالثة : من المؤكد أن الملازم سيجد حرجا كبيرا في أن يتحدث عن الأخطاء التي ارتكبها  رئيس الجمهورية أثناء الحادثة.
الملاحظة الرابعة : إن الملازم سيركز في اللقاء على إثبات حسن نيته عند إطلاق النار أكثر من تركيزه على مصداقية الرواية الرسمية.
الملاحظة الخامسة : إن الحالة النفسية للملازم لن تكون معينة على دعم الرواية الرسمية أثناء حديث الملازم عن تفاصيلها.
لقد كان من الأفضل في حالة كهذه أن تتولى مديرية الاتصال والعلاقات العامة بالجيش مهمة الحديث عن الرواية الرسمية، وكان من الأفضل أن يتم ذلك من خلال بيان تنشره المديرية مباشرة بعد حادث إطلاق النار، على أن يحوي ذلك البيان إجابة على كل الأسئلة التي كان من المفترض أنها ستطرح، ومن قبل أن يتم طرحها.
ولكن ومادام قد حصل التقصير، فكان من اللازم لتلافي ذلك التقصير، أن يتولى مسؤول الاتصال بالجيش تصحيح ذلك الخطأ بنفسه، ودون أن يصحب معه الملازم.
وفي هذه الحالة كان من المفترض بمسؤول الاتصال وهو الناطق الرسمي بالجيش، وهو من يفترض به أيضا أن يكون قد تدرب على الحديث لوسائل الإعلام، أن يعقد مؤتمر صحفيا في قيادة الأركان يبين فيه تفاصيل إطلاق النار على موكب الرئيس، أو أن يطلب من التلفزة أن تستضيفه لوحده ليقدم توضيحا حول الحادث من خلال التلفزيون، إذا لم تكن قيادة الأركان تقبل بمؤتمر صحفي حول الحادثة.
بالعسكري الفصيح لقد كانت استضافة الملازم في التلفزيون خطأً فادحا، ولولا أني من الذين لا يحبون أن يتحدثوا عن الجيش كمؤسسة إلا بالحسنى، لفصلت كثيرا حول هذا الخطأ الفادح.
وبالعودة إلى اللقاء الحصري، فيمكن القول بأن توقيت هذا اللقاء خدم كثيرا المشككين في الرواية الرسمية، والذين كاد حماسهم أن يضعف في اليومين الأخيرين فبعث الله لهم التلفزة الحكومية ولقائها الحصري الذي أطلق رصاصات الرحمة على ما تبقى من  مصداقية للرواية الرسمية، وبعث من جديد الشكوك حول تلك الرواية.
لقد كانت التناقضات واضحة، وكانت نقاط الضعف كثيرة، أكثر من أن يتم حصرها، لذلك فسأكتفي بأربعة منها:
1ـ أن يقول الملازم بأنه استهدف عجلات السيارة  من 70 مترا فتغير الرصاصات مسارها في اتجاه الرئيس تحديدا، ولا تصيب أي واحدة منها مرافقه، فذلك مما يبعث الكثير من الشكوك.
كان الأولى بالملازم أن يقول صراحة ما كنت قد قلته أنا سابقا في قصة "الملازم والرئيس"، فيقول بأنه لم يستهدف عجلات السيارة إطلاقا، ولم يستهدف مرافق السائق، وإنما استهدف السائق بشكل مباشر وفوري، لأن الوقت كان ضيقا، ولأن شكوكه في من يقود السيارة قد بلغت ذروتها، فمثل ذلك القول هو وحده الذي كان بإمكانه أن يفسر أن يصاب الرئيس لوحده بمثل تلك الإصابات البالغة.
2 ـ  أن يتحدث الملازم في بداية الحادثة عن ضابط الصف الذي رافقه، عن رتبته، وعن اسمه، ثم ينساه نهائيا بعد ذلك، وكأن الأرض قد ابتلعته فذلك مما يثير الشكوك حول مصداقية الرواية الرسمية.
وأن يتحدث الملازم عن السرعة التي كانت تسير بها سيارة الرئيس، وعن بطئه هو في ردة الفعل، فذلك مما يثير الشكوك حول الرواية ( أثناء مرور السيارة بجنبي أطلقت الرصاص في الهواء، أخذت وضعية على ركبتي، ثم أخذت أطلق النار على العجلات، أثناء الوضعية كانت السيارة قد ابتعدت 70 مترا، كل مرة أتقدم معتقدا بأن السيارة ستتوقف، ثم أتقدم، أتقدم...)
وأن يقول الملازم أيضا بأنه قد أدار ظهره للسيارة الثانية، وأن يشغل نفسه بالحديث عن نوعية تلك السيارة، وكأن الحديث عن نوعيتها يخدم حجته فذلك أيضا مما يشكك في صدق ما قاله الملازم.
لقد حاولت أن أتخيل نفسي في السيارة الثانية، فتخيلت المشهد التالي : شاب يطلق الرصاص على سيارة الرئيس، التي كُلفت بحراستها، فما الذي عليَّ أن افعله في تلك اللحظات؟ بالتأكيد فإن أول ما سأفكر به هو أن  أدهس الشاب بسيارتي، أو أطلق عليه الرصاص لأن المسألة هنا تتعلق بأمن الرئيس.
3 ـ  هناك ارتباك شديد ظهر في حديث الملازم خصوصا في اللحظات الحرجة من الحادثة، والتي كان ينتظر الجميع أن يكون حديث الملازم عندها قويا ومقنعا ولا يقبل أي تأويل:
ـ ففي أول لقاء له مع سيارة الرئيس ظهر الارتباك في حديث الملازم فقال بأن السيارة توقفت ثم قال ـ بعد تدخل الصحفي ـ بأنها لم تتوقف، وإنما خففت من السرعة.
ـ فيما يخص العقوبة قال بأن التحقيق انتهى خلال نصف الساعة، وفي عين المكان، في حين أن العقيد قال بأن الملازم تم استدعاؤه إلى قيادة الأركان.
ـ عند لقائه بالسيارة الثالثة، تحدث الملازم مع من فيها، وكأنه يتحدث مع أصدقاء له  في رحلة استجمام على شاطئ المحيط..حديث بطيء مليء بتفاصيل غير مهمة. الغريب هنا أن الملازم سأل أصحاب السيارة الثالثة عن سلامة الرئيس، رغم أن من في تلك السيارة كان قد سأل الملازم للتو إن كان قد سمع رصاصا أطلق في المنطقة؟!!!
4 ـ لا يعقل وفي أكثر الدول احتراما للقانون أن لا يتجاوز التحقيق مع ضابط أطلق الرصاص على رئيس جمهورية، وأصابه بجروح بالغة، أكثر من نصف ساعة.
ولا يعقل أن يعود ذلك الضابط إلى العمل في سريته وكأن شيئا لم يكن، فحتى لو كان من أطلق النار على الرئيس بريئا 100% فإن التأثيرات النفسية لحادثة إطلاق النار على الرئيس، تكفي لوحدها لأن تمنع ذلك الضابط من العودة لمهامه من قبل أن يقضيَّ أياما بعيدا عن ثكنته، حتى يستعيد صحته وتوازنه النفسي بعد ارتكابه لذلك الفعل الشنيع.
يبقى أن أشير بأن نقد العقيد للملازم، في لقاء يشاهده الكثير من الناس، والقول على الملأ بأن الملازم قد ارتكب أخطاء مهنية عديدة، وبأنه لا يمتلك الخبرة لم يكن لائقا.
تصبحون بلا لقاءات حصرية..

الخميس، 18 أكتوبر 2012

؟



لن أتمكن لأسباب قاهرة من المشاركة في السلسلة البشرية التي ستنظمها حركة 25 فبراير في ضحى هذا اليوم، وهي السلسلة التي سترفع خلالها الحركة الكثير من نقاط الاستفهام. سترفع الحركة نقاط استفهام كثيرة تعبيرا عن نقاط استفهام أكثر تتزاحم في رأس كل موريتاني، وترتسم على شفتيه، منذ الإعلان عن حادثة الثالث عشر من أكتوبر.
ولقد اختارت الحركة أن ترفع نقاط الاستفهام دون أن تتحدث عن تلك النقاط، تاركة بذلك الفرصة لكل مواطن موريتاني أن يؤول نقاط الاستفهام كما يشاء، وبالطريقة التي يشاء. المهم أن الحركة تريد بوقفتها الصامتة هذه أن تلفت الانتباه إلى نقطة الاستفهام الكبيرة التي أصبحت تغطي كل شيء في سماء هذا البلد، منذ حادثة إطلاق النار على الرئيس.
خمسة أيام مرت على الحادثة، ومع ذلك فلا زالت نقاط الاستفهام تكبر يوما بعد يوم، ولا زالت الشائعات تنجب المزيد من الشائعات، والتي تنجب هي بدورها المزيد من الشائعات.
فهل تحولنا إلى بلد المليون شائعة وشائعة؟ وهل انتقلنا فجأة من بلد المليون شاعر إلى بلد المليون روائي؟ ولماذا يصر كل موريتاني على أن تكون له روايته الخاصة به عن حادثة الثالث عشر من أكتوبر؟ ولماذا تصر الجهات الرسمية ـ وهي الثرثارة بطبعها ـ على أن تستمر في صمتها الغريب؟ فهل هي تريد بذلك أن يظهر المزيد من القصص والروايات حول حادثة إطلاق النار على الرئيس؟ ألا يكفي الجهات الرسمية ما ظهر حتى الآن من روايات ومن قصص مثيرة؟
حقا لقد أبدعت حركة 25 فبراير في رفع نقطة استفهام كبيرة في مثل هذا الوقت الحرج الذي تتزاحم فيه نقاط الاستفهام في رأس كل موريتاني، ولعل من أبرز تلك النقاط المتزاحمة، يمكننا أن نذكر النقاط التالية:
لماذا استمرت وسائل الإعلام الرسمي في طربها وفي سمرها الأدبي بعد الإعلان عن هذه الحادثة الأولى من نوعها؟ ولماذا تأخر الإعلام الرسمي في ذكر أي خبر عن الحادثة؟ ولما لا يزال هذا الإعلام يرفض تقديم أي تفاصيل عن الحادثة؟
ولماذا جاءت الرواية الرسمية مرتبكة؟ ولماذا لم ترد الجهات الرسمية ـ حتى الآن ـ على الشكوك التي تثيرها روايتها الرسمية خاصة بعد أن أكدت بعض الجهات الطبية استحالة أن تكون الحادثة قد وقعت على بعد 35 كلم من العاصمة؟ فلم يكن منطقيا حسب تلك الجهات الطبية أن يصاب الرئيس بنزيف على بعد 35 كلم من العاصمة ثم يأتي إلى المستشفي العسكري وهو يمشي على قدميه؟ فالطبيعي حسب تلك الجهات أن يدخل الرئيس في غيبوبة بعد دقائق قليلة من الإصابة.
ولماذا لم ترد الجهات الرسمية بعد أن ثبت بأن الشخص الذي قيل بأنه كان مع الرئيس لحظة الحادثة قد تأكد بأنه كان على بعد مئات الكيلومترات من مكان الحادثة لحظة وقوعها؟
ولماذا لم يظهر بعد الحادثة إلا القادة العسكريين؟ فلماذا لم يظهر وزير الصحة مثلا وهو المعني أولا بمرض الرئيس؟ ولماذا لم يظهر حتى الآن المجلس الدستوري ليتحدث عن الجانب الدستوري للحادثة؟ وهل هو مجرد عجز مؤقت لا يستدعي أي ترتيبات دستورية؟ ولماذا لم يحدثنا الإعلام الرسمي عن مرض الشخصية الثانية أي رئيس مجلس الشيوخ، والذي يتعالج هو بدوره في فرنسا؟ ولماذا لم يظهر أي دور للسلطة القضائية؟  ولماذا لم يظهر المدعي العام ، ولماذا لم يزر مكان الحادثة؟ ولماذا لم يحقق فيها؟ ولماذا نُقل الرئيس إلى مستشفى عسكري لا يجوز للأطباء فيه أن يتحدثوا عن حالة المريض إلا لقائده العسكري مع العلم بأن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ ولماذا ظهرت نقاط التفتيش بشكل مفاجئ قبل الحادثة؟ ولماذا اختفت تلك النقاط  بعد الحادثة؟ ولماذا ظهرت من جديد؟  ولماذا تعاطفت كل الطوائف السياسية مع الرئيس، على الأقل إنسانيا ، باستثناء الحزب الحاكم الذي شغله البحث عن موعد للانتخابات عن متابعة صحة الرئيس؟
ولماذا يستقبل قائد الأركان سفير دولة قطر؟ فَلِم لم يستقبله وزير الخارجية أو الوزير الأول؟ وبالمناسبة فلماذا لم يتعاطف معنا أي من المشاركين في قمة الفرانكفونية رغم أن وزير الخارجية كان موجودا هناك لحظة الحادثة، ومن المفترض أن يكون قد أبلغ المشاركين عن الحادث والذي كان نتيجة لرصاصات خاطئة حسب الرواية الرسمية مما يجعله غير سياسي ومما يجعل التعاطف أولى؟ ولماذا لم تتعاطف معنا إلا تونس والجزائر من بين كل الدول العربية؟ ومن الذي يدير شؤون البلد الآن؟ وهل سيكون ما بعد الثالث عشر من أكتوبر ـ وهذه هي نقطة الاستفهام الكبيرة والأكثر أهمية ـ مختلفا عما قبله؟
تصبحون على أجوبة...

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

الرئيس والملازم/ قصة قصيرة.

لف على رأسه عمامة زرقاء، وغطى عينيه بنظارات سوداء، ثم جلس خلف مقود سيارة (v8) السوداء، وأدار المحرك، في اتجاه العاصمة، كان يريد أن يصل في أسرع وقت إلى العاصمة، وذلك بعد أن قضى يوما رائعا في مزرعته، أو محميته كما يسميها البعض.
شعر بسعادة غريبة في تلك اللحظات، وهي سعادة يعلم بأنها ستهجره، ولن تظهر من جديد إلا بعد أن يعود في نهاية الأسبوع القادم إلى مزرعته، إن هو تمكن من العودة إليها، فالأيام القادمة كان يعلم بأنها ستكون حبلى بالهموم والأحداث، وقد لا تسمج له بالعودة قريبا إلى مزرعته.
كان على يقين بأن الأسبوع القادم لن يكون مريحا على الإطلاق، فالمعارضة ستستأنف أنشطها، والمعاهدة ستتحدث عن مبادرتها، أما هو وأغلبيته الداعمة فسيتظاهرون بالانشغال بتحديد موعد للانتخابات القادمة.
وكان يعلم بأن هموم الأسبوع القادم لن تكون هموما سياسية فقط، فهناك أيضا أزمة مالي، تلك الأزمة التي أصبح لابد من اتخاذ قرار حاسم للتعامل معها، بعد أن استنفدت كل النقاشات المرتبطة بها.
وإذا كان من الصحيح بأنه لم يذق طعما للراحة منذ أن قرر ذات أربعاء من أغسطس أن يقود انقلابه الثاني، فالأيام التي أعقبت ذلك الأربعاء المثير كانت كلها حبلى بالهموم والمشاكل، فمن الصحيح أيضا أن الأسبوع القادم ستكون همومه من نوع خاص، لذلك فقد قرر أن يتزود لتلك الهموم بسرقة ما يمكن أن يسرقه من سعادة وفرح، خلال عطلته الأسبوعية.
وكانت وسيلته لذلك هي أن يمارس بعض هوايته التي أصبح يجد صعوبة كبيرة في ممارستها منذ أن أصبح رئيسا للبلاد.
وكان من بين هواياته الغريبة والخطيرة أيضا، والتي طالما نصحه المخلصون بضرورة تركها، هي أنه كان يحب دائما أن يبتعد عن حراسه، وأن يسوق سيارته بنفسه. وكم هو غريب أن تكون هواية رجل الأمن الذي سهر على أمن الرؤساء هي أن يبتعد عن رجال أمنه بعد أن أصبح هو رئيسا.
ورغم أنه كان يعلم ـ أكثر من غيره ـ بأن هذه الهواية لا تخلو من مخاطر، إلا أنه مع ذلك لم يستطع أن يتخلى عنها.
وكان يحلو له أن يمارس هذه الهواية على الطريق الرابط بين مزرعته والعاصمة، ذلك الطريق الذي يشعره دائما بأمن وأمان لا يحس بهما في أي مكان آخر، إنه ذلك الأمان الذي يخصك به مكان دون آخر لأسباب مرتبطة أساسا بالألفة.
ابتعدت سيارة (v8) السوداء عن السيارة المرافقة بحجة تجنب الغبار، وأخذت تبتلع الطريق بسرعة مجنونة، وبتلقائية عجيبة، أما سائقها فقد انشغل بحديث ممتع مع ابن عمه وصديقه، كان يحدثه بعفوية كان يعلم بأنه سيتركها بعد لحظات مع كل الأشياء الجميلة التي سيضطر لتركها أمام أسوار القصر الرئاسي عندما يفتح له الحراس أبواب ذلك القصر.
++++++++++
ترك الملازم فرقته بعد يوم تدريبي شاق، كان هو أيضا يريد أن يسرق لحظة سعادة بعد يوم كئيب لن يكون ـ بالتأكيد ـ أكثر كآبة من الأيام القادمة.
كان يعلم بأنه يمكن أن يُستدعى ـ هو وفرقته ـ في أي لحظة، وكان يعلم بأنه يمكن أن يطلب منه أن يسافر إلى الشمال المالي، وكان يعلم كذلك بأنه قد لا يعود أبدا من تلك الرحلة.
وكان كل شيء بالنسبة له يوحي بأن موعد السفر إلى الشمال المالي  قد اقترب، فاجتماعات العسكريين والسياسيين في المنطقة قد استنفدت، حتى العاصمة فقد تحول ليلها إلى نقاط تفتيش بحثا عن قادم مفترض، جاء من ذلك الشمال، جاء ولا يحمل معه من الهدايا سوى أكفان، كان على استعداد لأن يهديها لأول بريء يصادفه على قارعة أي طريق.
وبعد يوم تدريبي شاق، ترك ثكنته العسكرية قبيل غروب الشمس، واستدعى أحد الجنود ليصحبه في رحلة  كان يبحث من خلالها عن لحظة راحة شاردة، كان يعلم بأنه لن يصادفها على تلك الأرض الجرداء التي كانت توجد بها الثكنة.
ومع ذلك فقد قرر أن يبحث عن تلك اللحظة الشاردة، فمن يدري فربما يجدها عند بائع لبن الإبل في المنطقة؟
  أصر الملازم على أن يترك في الثكنة كل شيء يذكره بالحياة العسكرية باستثناء سلاحه طبعا، لذلك فقد استخدم  في رحلته  "السياحية" سيارته المدنية، وهي سيارة من نوع (تويوتا آنفسيس)، ولكي ينسى الثكنة وهمومها قرر أيضا أن يتخلص من بدلته العسكرية، وأن يكتفي بالتيشرت الأبيض، أما رفيقه في الرحلة فقد كان يرتدي "جلابية" بيضاء، ويلف رأسه بعمامة بيضاء، لم تخف لحيته الكثة.
انشغل الملازم الذي كان يسوق سيارة ( الآنفاسيس) بحديث عابر مع رفيقه في رحلته إلى بائع اللبن المجاور لثكنته، والتي كان يعتقد بأنها ستظل مجرد رحلة عابرة كغيرها من رحلاته السابقة.
++++++++++
خيم سكون فظيع على المنطقة، وبدأت جحافل الظلام تتحرك برهبة لتلف المنطقة الجرداء بسواد رهيب، ولم يكن ليُسمع في ذلك السكون الرهيب سوى صوت السيارتين، ولم يكن ليكسر ذلك الظلام الدامس الذي لف المنطقة سوى الضوء المنبعث منهما.
 كانت كل سيارة من السيارتين تسير في اتجاه الأخرى، وكان كل سائق يقود سيارته إلى أمر قد قدر، لعبت فيه التفاصيل الصغيرة دور البطولة المطلقة.
كانت سيارة (v8) تسير بسرعة، عكس سيارة (الأنفاسيس) التي كانت تسير ببطء، وعند الساعة 19 : 47 دقيقة بالتحديد تقابلت السيارتان، وأطلقت كل واحدة منهما على الأخرى ضوءا كاشفا استغله السائقان ليلقي كل واحد منهما نظرة خاطفة على من بداخل السيارة الأخرى، وذلك من قبل أن يقرر كل واحد منهما ما الذي سيفعله في اللحظات القادمة.
قرر الملازم أن يعترض السيارة (v8)  التي تجاوزت الخطوط الحمراء لثكنته، وأن يوقفها عن الحركة حتى ولو تطلب منه الأمر أن يقتل السائق ورفيقه.
وبسرعة لافتة أوقف سيارته، ونصب مدفعه، ثم وضعه إصبعه على الزناد استعدادا لأي ردة فعل من سائق السيارة المتجهة إلى ثكنته بسرعة غير بريئة.
وفي تلك اللحظات القصيرة مرت بذاكرته عشرات المشاهد والصور، تذكر عشرات نقاط التفتيش في العاصمة، والتي لابد أنها كانت تبحث عن شيء ما، فهل ما كانت تبحث عنه نقاط التفتيش الليلية في العاصمة هو ذلك الشيء القادم إليه في تلك اللحظات وبسرعة مقلقة؟ وتذكر أيضا عشرات العمليات التي نفذها الإرهابيون عن طريق سيارات مفخخة، ثم قفزت به ذاكرته إلى المستقبل، وتحديدا إلى صبيحة اليوم التالي، حيث توقع أن يتحدث الناس عن عشرات الجنود الذين قتلوا من فرقته، وربما يتحدثون أيضا عن الملازم الساذج والمنشغل عن سلامة فرقته بشراء اللبن من عند أصحاب المشاريع، وبالتجول بسيارته المدنية.
بعد كل تلك الخواطر قرر الملازم بأنه لن يترك السيارة القادمة تعبر من قبل أن تتوقف أمامه ويفتشها، لن تعبر مهما كان الثمن، ومهما كانت الكلفة.
أما سائق (v8) فقد اتخذ قرارا معاكسا لقرار الملازم، لقد قرر أن لا يتوقف إطلاقا، لأن أسوأ قرار كان يمكن أن يتخذه في تلك اللحظات هو أن يتوقف لتلك السيارة المدنية المشبوهة التي ظهرت فجأة في طريقه، والني يقودها شاب ثلاثيني بتشرت أبيض، ويرافقه شاب آخر بجلابية بيضاء وبلحية كثة.
هو أيضا خطرت بذاكرته خواطر كثيرة في لحظات سريعة، فتذكر عشرات الرؤساء والقادة الذين تم اغتيالهم، وتذكر عشرات الانقلابات، وتذكر أيضا بعض خصومه الذين يتربصون به، وعلى رأسهم أولئك الذين يبسطون سيطرتهم على الشمال المالي.
أضاء من جديد أضواء سيارته الكاشفة ليتأكد من تفاصيل الكمين الذي انتصب فجأة في طريقه، أحس بخطورة الموقف، فهو لم تعد تفصله عن الكمين إلا مائة متر، وكانت سيارته لا تزال تسير بسرعة 160 كلم / للساعة.
كانت الخيارات أمامه محدودة جدا، فسيارة الحرس كانت تبعد عنه في تلك اللحظات بأربعة مائة متر، والعودة ليست ممكنة، أما التوقف لهؤلاء المسلحين الذين ظهروا فجأة في طريقه، فكان هو أسوأ قرار يمكن اتخاذه.
وبسرعة من تعود على اتخاذ قرارات صعبة في أوقات حرجة، قرر أن يلتف قليلا بسيارته، وأن يزيد السرعة حتى تصل إلى 180 كلم / للساعة، وليحصل بعد ذلك ما سيحصل.
هذا الانحراف المفاجئ للسيارة المريبة  زاد من شكوك الملازم فبدأ بإطلاق النار، وقرر أن يستهدف سائق السيارة بشكل مباشر، لأن الوقت كان قد تأخر كثيرا على استهداف عجلات السيارة. ذلك التصرف من الملازم زاد أيضا من شكوك الرئيس. والحقيقة أن الشكوك كانت تكبر وتتسع وتزداد بسرعة رهيبة بين سائقي السيارتين، لذلك فلم يكن في تلك اللحظات بإمكان أي واحد منهما أن يتخذ قرارا أصوب من القرار الذي اتخذه، حتى ولو كان كل واحد منهما سينكشف بعد لحظات قليلة بأن قراره الذي اتخذ لم يكن ـ بالتأكيد ـ هو القرار الأسلم.
ثلاثة عشر رصاصة أطلقها الملازم، على تمام الساعة الثامنة مساءً إلا ثلاثة عشر دقيقة، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من أكتوبر، وهي الرصاصات التي ستجبر الرئيس على البقاء ثلاثة عشر ساعة في المستشفى العسكري، من قبل أن يتمكن من التحدث إلى الموريتانيين عما حدث في تلك  الليلة الاستثنائية في تاريخ البلد.
إيضاح: لقد كنت من الذين صدقوا رواية "النيران الصديقة"رغم أن الطريقة التي قُدمت بها تلك الرواية كانت تبعث الكثير من الشكوك. صدقت تلك الرواية لأن الفرضيات الأخرى ( الحارس، الانقلاب، القاعدة) لم تكن مستقيمة، ولا منطقية في مجملها. وتصديقي لتلك الرواية، ومنذ أن أعلن عنها وزير الإعلام بطريقته المرتبكة هو الذي جعلني أكتب في صفحتي عن الحلقة المفقودة في الرواية الرسمية، وقد أثار ما كتبت في صفحتي عن الحلقة المفقودة أسئلة مشككة أخرى، وهي الأسئلة التي أردت أن أجيب عليها من خلال هذه القصة القصيرة التي أسعى من خلالها أن أنقل القارئ إلى الحالة النفسية التي كان يعيشها الرئيس والملازم لحظة الحادثة، والتي جعلتهما يتخذا قرارين صائبين إذا ما عدنا لأجواء اللحظة، خاطئين إذا ما تأملنا في النتائج التي ترتبت عليهما. 

الأحد، 14 أكتوبر 2012

عن حادثة إطلاق النار على الرئيس



في مثل هذه اللحظات العصيبة أود في البداية أن أعلن تضامني الكامل ووقوفي مع أسرة الرئيس، ومع كل الموريتانيين الذين لا يقبلون باستخدام العنف تحت أي ظرف من الظروف.وأسأل الله أن يشفي الرئيس، وأن يعيده إلى أرض الوطن وهو بصحة جيدة.
ومع أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن هذه الحادثة، ورغم أن المعلومات لا تزال شحيحة إلا أني مع ذلك ارتأيت أن أسجل بعض الملاحظات السريعة عن هذه الحادثة المفزعة والمقلقة أيضا.
1 ـ مرة أخرى يصدمني الإعلام الرسمي، ومرة أخرى أجدني في مثل هذه اللحظات التي يعيش فيها البلد حدثا عصيبا أبحث عن المعلومات في كل مكان، ودون أن أفكر ـ ولا للحظة ـ في البحث عنها من مصادر الإعلام الرسمي.
فأن يصل فارق توقيت نقل خبر إطلاق الرصاص على الرئيس إلى ثلاث ساعات، وأن لا تنشر الوكالة الموريتانية للأنباء الخبر إلا بعد ثلاث ساعات، وبعد أن يكون قد أصبح متداولا في البوادي، وفي موريتانيا الأعماق فذلك يعني أن إعلامنا الرسمي بائس، بائس.
وأن تواصل التلفزة الرسمية سمرها الأدبي وطربها ليلة إطلاق الرصاص على الرئيس فذلك يعني أن إعلامنا الرسمي بائس، بائس.
2 ـ إن أكثر الأوقات التي تظهر فيها مدى خطورة الاعتماد على فريق لا يتصرف إلا طبقا للأوامر، هي تلك اللحظات التي يكون فيها من يعطي الأوامر غير قادر على إعطاء الأوامر.
لقد أظهرت هذه الحادثة مدى الارتباك الذي وقعت فيه الحكومة والأغلبية الداعمة للرئيس، حيث غاب الجميع عن الأنظار في لحظة كان على جميع هؤلاء أن يظهروا لطمأنة الشعب الموريتاني.
لم يظهر إلا وزير الإعلام، وظهر بطريقة أربكت الشعب الموريتاني أكثر مما طمأنته،  فقد بدا الرجل مرتبكا، وتحدث بأسلوب غير مقنع، ولا مطمئن. وتحدث عن "نيران صديقة" وكأننا نعيش حربا مع عدو خارجي، بدلا من  استخدام مصطلح "إطلاق رصاص عن طريق الخطأ".
3 ـ في لحظات الحزن أحاول دائما أن أنقب عن الأشياء التي قد تخفف ذلك الحزن، وفي ليلة إطلاق الرصاص على الرئيس كان الشيء الوحيد الذي أفرحني هو أن الكثير ممن عرفتهم يعارضون الرئيس معارضة شديدة على صفحاتهم كانوا هم أول من أعلن التضامن والتعاطف مع الرئيس، وكانوا هم أول من تمنى له الشفاء.
صحيح أن البعض من أولئك لم يتمكن من إخفاء أحقاده إلا أن الغالبية سمت بمشاعرها وتناست كل مواقفها السياسية، ووقفت موقفا نبيلا يعكس نبلها.
ومن المفارقات أن الأنصار كانوا هم أبرز الغائبين على الأقل خلال الساعات الأولى من بعد الحادثة.
4 ـ تمنيت لو أن قادة الأحزاب ( خاصة أحزاب المعارضة) كانوا على مستوى نضج المعارضين العاديين الذين أعلنوا ـ وبتلقائية رائعة ـ تضامنهم مع الرئيس في مثل هذه اللحظة العصيبة. وتمنيت لو أن بعضهم قام  بزيارة المستشفى العسكري للاطمئنان على صحة الرئيس، حتى وإن كان يعلم بأنه لن يُسمح له بالدخول.
والموقف الرائع الذي اتخذه فضيلة الشيخ محمد الحسن الددو كان على الجميع أن يتعلم منه، فقد سارع الشيخ إلى زيارة الرئيس، رغم أنه لم يسمح له بالوصول إليه، وفي تلك الزيارة دلالات كثيرة تستحق أن يتوقف عندها المعارضون والموالون على حد سواء.
تصبحون على صحة جيدة للرئيس..

الأحد، 7 أكتوبر 2012

عفا الله عنك يا دكتور..!!



عفا الله عنك يا دكتور فَلِم قبلت بأن تكون ضيفا على برنامج الاتجاه المعاكس؟ ولم قبلت أن تسيء إلى نفسك، و إلى الشعب الموريتاني، وإلى كل العقلاء من القوميين العرب، بل وإلى كل العقلاء في العالم، بالدفاع عن رئيس باطش، متوحش، همجي، بائس، تائه، تافه يقتل الشيوخ والأطفال من أجل البقاء على كرسي ما كان  ليحلم بالجلوس عليه، لو لم يكن قد وُرِّث له؟.
لِمَ يا دكتور أظهرت الشعب الموريتاني لمشاهدي قناة الجزيرة ـ وهم الذين يعدون بالملايين ـ  وكأنه شعب يعشق ذبح الأطفال، ويتلذذ بسفك الدماء، ويفتخر بتدمير المآذن، ولا يتألم عندما يشاهد سوريا يعذب عذابا فظيعا لأنه لم يسجد لصورة أو تمثال هُبَل سوريا.
ألسنا ـ يا دكتورـ  شعبا مسالما نكره سفك الدماء؟ ألسنا شعبا مسلما يموت قبل موته عندما يشاهد مئذنة تدك، أو نُصُب دكتاتور يسجد له من دون الله؟
عفا الله عنك يا دكتور، لقد ظلمتنا كثيرا، وأسأت إلينا كثيرا، وأحرجتنا كثيرا أمام الشعب السوري البطل.
أعرف أنك يا دكتور ما كنت بِدْعا في ذلك، ولن تكون، فالجزيرة لا تفكر في ضيف موريتاني إلا إذا أعياها الحصول على مدافع عن نظام عربي بائس، لم يعد أحد من العقلاء في البلدان العربية الأخرى يقبل بالدفاع عنه، ويبدو أنه قد أعياها هذه المرة الحصول على ضيف يدافع عن نظام الإجرام في سوريا فبحثت في دفتر عناوينها عن ضيف موريتاني..فكنت أنت يا دكتور هو الضيف المختار.
عفا الله عنك يا دكتور، فالدكتاتور الذي تدافع عنه قد تخلى عنه الكثير من أركان نظامه، وتخلى عنه الأصدقاء والأقارب، حتى أخته الوحيدة تخلت عنه رغم أنها تشترك معه في الاسم (بشار وبشرى)، وفي التخصص (طبيب عيون، صيدلانية)، وفي العائلة ( الأب الواحد والأم الواحدة).
حقيقة لا أدري ـ يا دكتور ـ  ما الذي سحرك به بشار، حتى استطاع أن يقنعك بالدفاع عنه، وأن يجعل منك ومن حزبك  طابورا ثانيا خلف طابور "الصفويين الجدد"، والذين يعدون اليوم من أهم المدافعين عن دكتاتور سوريا.
 ألم تكن إيران ـ  وحتى وقت قريب ـ هي العدو الأول للأمة العربية؟  أليس "الفرس"  ـ وفق أدبيات البعث وبيانات الصواب ـ هم أكثر عداءً للعرب وللمسلمين من العدو الصهيوني، ومن أمريكا، ومن كل الأشرار على كوكبنا الأرضي، إن لم يكن من كل الأشرار في مجرتنا؟
فما الذي حدث في الأشهر الأخيرة يا دكتور؟ وهل تبدل الفُرس وأصبحوا غير الفرس الأعداء؟
أتذكر يا دكتور بأني كنت قد  كتبت  مقالا أثار غضب مناضلي حزبكم، وكان تحت عنوان " أين الصواب في بيانات حزب الصواب؟"، كتبته بعدما لاحظت أن حزب الصواب أصبح  يخصص جل وقته، وأغلب بياناته لتتبع رحلات أحمدي نجاد وللتنديد بها، وكأن كل مشاكلنا كموريتانيين وكعرب قد اختزلت في تلك الرحلات. فما الذي حدث بعد ذلك المقال لحزب الصواب حتى جمعه بأحمدي نجاد حب واحد، وعشق واحد، وليلى واحدة؟
الغريب في الأمر ـ يا دكتور ـ هو أنكم تقولون بأنكم بدفاعكم عن بشار إنما تقفون  ضد  أمريكا ومخططاتها في المنطقة، والحقيقة أنه ما أهلك هذه الأمة وضيعها إلا أولئك الذين يخاصمون أمريكا بألسنتهم، ويناصرونها بأفعالهم، وما أكثر مثل أولئك في صفوف قوميي الألفية الثالثة.
اسمعوا هذه يا دكتور: إن من يدعم أي دكتاتور عربي في زمننا هذا، هو أكبر عميل لأمريكا. فما الذي تريده لنا أمريكا غير أن نظل دولا ضعيفة؟ وما الذي يبقينا دولا ضعيفة غير أن نقبل بالخضوع لدكتاتوريين يديرون شؤون بلادنا بعقولهم الصغيرة، وبمزاجهم المتقلب؟
لقد سقطت نظرية المستبد العادل، وتبين أنها ما كانت إلا خرافة صدقها الناس برهة من الزمن، ولكنها لم تعد اليوم لتجد من يصدقها غير قلة من القوميين تعيش العقد الثاني من الألفية الثالثة  بعقلية الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
واسمعوا أيضا هذه يا دكتور : إن الرجعيين حقا هم أولئك الذين يريدوننا أن نُحْكَم في العام 2012  بعقلية الستينات والسبعينات، كما يحاول عبثا أن يفعل بشار.
ذلك زمن مضى يا دكتور، ولن يعود أبدا، والرجعي حقا هو الذي يريد للعرب أن يعودوا إلى ذلك الزمن، الذي تجاوزه العالم كله،  زمن "القائد الملهم" الذي يحق له أن يدمر بلدا بكامله  دون أن يتجرأ أي مواطن على محاسبته، وإن تجرأ أحدهم على قول كلمة في "القائد الملهم" أتهم في عروبته، وطبع على ناصيته بأنه عميل لأمريكا وإسرائيل.
لقد انتهى ـ يا دكتورـ  زمن القائد الأوحد الذي يسير شؤون البلاد بعقله الصغير، وبمزاجه العابث. ولقد بدأ ـ يا دكتور ـ زمن دولة المؤسسات، حتى وإن كان قد تأخر كثيرا في بلداننا العربية، لذلك فالرجعي حقا هو الذي يطبل لدولة الفرد، ويحن لها في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
أكاد أجزم  يا دكتور بأنه لو بُعِث عبد الناصر ـ وهو الزعيم الذي كان يهمه حقا أمر العرب ـ  في أيامنا هذه، لوصف ناصريي 2012، وكل قوميي 2012 بأنهم هم عملاء الاستعمار، وأنهم هم من يمثل حقا الرجعية في البلاد العربية.
وأكاد أجزم أيضا بأنه لو أتيح لعبد الناصر أن يحكم  مصر في هذه الفترة لما حكم بنفس الطريقة التي حكم بها في الخمسينات والستينات، بل أزعم أنه لو ظهر في أيامنا هذه لكان من أول المطالبين بدولة المؤسسات.
واعلم يا دكتور بأن هذا الزمن لم يعد  زمن الشعارات الجوفاء التي يرفعها الدكتاتوريون لخداع شعوبهم، ولبسط سلطانهم ونفوذهم، لم يعد هذا الزمن ذاك الزمن يا دكتور، فعيشوا الحاضر من فضلكم، و إلا فاذهبوا إلى المقابر وحدثوا الأموات بخطاب الستينات، وارفعوا لهم شعارات الستينات، ثم امنعوهم بعد ذلك من حرية إبداء الرأي، كما كان يفعل معهم القادة العرب، وكما يفعل بشار في أيامنا هذه.
كان حافظ الأسد رئيسا لسوريا، وكان قوميا بعثيا، وكان يرفع شعارات كبيرة. وكان صدام حسين رحمه الله رئيسا للعراق، وكان قوميا وبعثيا، وكان أيضا يرفع الكثير من الشعارات العظيمة، ولكن ـ  وفي هذه مفارقة كبيرة ـ  لم يحدث أن تخاصم رئيسان عربيان ملهمان كما تخاصم الرئيسان القوميان البعثيان، واللذان حكما في الفترة ذاتها أعظم دولتين عربيتين. كان بإمكان سوريا، كما كان بإمكان العراق ـ لو لم يبتليهما الله بقادة مستبدين ـ أن تكون كل واحدة منهما اليوم أكثر تقدما وقوة من دولة "الفرس" ومن دول "الأتراك"،  نفس الشيء ينطبق ـ بطبيعة الحال ـ على مصر، وعلى السودان، وعلى الجزائر.. إنها فاتورة الاستبداد التي لا زلنا حتى اليوم ندفع أقساطها المدمرة.
 فَلم تخاصم القائدان الملهمان واللذان كانا ينهلان من معين واحد؟ ولِمَ كبرت الأحقاد بين القائدين الملهمين؟ ألا يعني ذلك أن أحدهما ـ على الأقل ـ إنما كان يرفع تلك الشعارات العظيمة لصالحه الخاص لا لصالح الأمة العربية كما كان يدعي؟
فلو كان حافظ الأسد يدافع حقا عن القومية، ولو كان يمثل مزاج الشعب العربي السوري لما قبل إطلاقا أن يشارك جنوده مع الجنود الأمريكيين في حرب الخليج الأولى لتدمير العراق. كان حافظ الأسد لا يهمه إلا كرسيه، لذلك شارك في تدمير العراق.
ولو كانت مصلحة العرب والمسلمين هي المحرك الأول لتصرفات صدام حسين رحمه الله، لما انحرف صدام بحروبه و"بقادسياته" إلى إيران، وإلى الكويت من قبل أن يتوجه رأسا إلى فلسطين لتحريرها، وإلى إسرائيل لتدميرها، وهي التي دمرت المفاعل النووي العراقي، وأعطت لصدام حسين رحمه الله المبرر الكافي لتدمير نصفها الجنوبي، كما أعطت ـ من قبل ذلك ومن بعده ـ لحافظ الأسد ولابنه كل المبررات بعد أن احتلت أرضهما، ورقصت طائراتها ـ أكثر من مرة ـ  فوق قصريهما بشكل مستفز ومهين.
ولو كانت المصلحة العربية والإسلامية هي المحرك الأول لتصرفات صدام حسين لأدخر هذا القائد كل خيرات العراق العظيم، وكل قدراته للعدو الصهيوني، بدلا من تبديدها في حروب طائشة لم تستفد منها إلا أمريكا والعدو الصهيوني، وربما "العدو الفارسي".
والله ما ضيع هذه الأمة إلا الشعارات الجوفاء التي كان يرفعها مستبدون لا تهمهم إلا كراسيهم.
ومن المثير للاستفزاز بأن كل قائد عربي كان يقول بأن ما حل ببلده من دمار وخراب إنما كان بسبب دفاعه عن قضايا العرب، وخاصة عن قضيتهم الأولى: فلسطين. هذا كلام أسخف من أن نرد عليه.
دعنا ـ يا دكتورـ  نتحدث بعيدا عن العاطفة، ودعنا نطرح السؤال التالي: ما هي مواصفات النظام الذي تكرهه أمريكا حقا، والذي يقلقها حقا، والذي يهدد مصالحها حقا؟
كانت أمريكا وحتى وقت قريب تريد أن تُحدث فوضى خلاقة في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن أمريكا اكتشفت بأن تلك الفوضى الخلاقة، لن تسلم هي من أثارها السلبية رغم أنها ستحقق لها هدفا عظيما بالنسبة لها، وهو إعادة العرب والمسلمين مئات السنين إلى الوراء.
تعرف أمريكا بأن الشعوب العربية والإسلامية تكرهها بسبب ما ارتكبت من ظلم ضد العرب والمسلمين، وتعرف أمريكا بأنه كلما حدثت "فوضى خلاقة" في أي بلد عربي أو إسلامي، وغابت عنه السلطة، كلما أدى ذلك إلى تعرض مصالح أمريكا للخطر.
فغياب السلطة المركزية عن أي دولة عربية أو إسلامية سيجعل مجموعات من شعب تلك الدولة تفكر في تصفية الحساب مع أمريكا، بعد أن غابت السلطة التي كانت تلجم تلك المجموعات وتحول بينها وبين تصفية حسابها مع أمريكا، والأمثلة هنا أكثر من أن تحصر:  أفغانستان، الصومال، جنوب لبنان، العراق بعد احتلاله حيث تم قتل الآلاف من الأمريكيين. أما في ظل معاداة القادة العرب لأمريكا فلم يحدث أن تعرضت مصالح أمريكا لأي خطر حقيقي (لاحظوا أنه لم يقتل من الجنود الأمريكيين خلال حربي الخليج الأولى والثانية إلا العشرات، ولا حظوا أن حافظ وابنه بشار ليس في سجلهما أي جندي أمريكي واحد قتلوه).
لذلك فأمريكا اليوم لم تعد تسعى لإسقاط الأنظمة الحاكمة، لأن تلك الأنظمة هي وحدها التي بإمكانها أن تلجم شعوب المنطقة، وأن تحمي مصالح أمريكا في العالم، وبطبيعة الحال فإن أمريكا تفرق بين تلك الأنظمة، وترتبها حسب مدى استفادتها منها.
فهناك أنظمة تخدم أمريكا في السر والعلن، وهذه هي أفضل الأنظمة عند أمريكا، ومن أمثلتها (نظام حسني مبارك، نظام زين العابدين، ملوك وأمراء الخليج، وإن بدرجات متفاوتة طبعا).
وبعد هذه الطائفة تأتي أنظمة أخرى تناصب أمريكا  العداء في العلن، ولكنها تخدمها في السر (القذافي، علي عبد الله صالح).
أما الطائفة الثالثة، فهي أنظمة تناصب أمريكا العداء في العلن، وربما في السر أيضا، ولكن تلك الأنظمة ترتكب من الأخطاء داخل دولها التي تحكم ما يجعلها من حيث المحصلة النهائية أكثر خدمة لأمريكا من كل الأنظمة التي حصرناها في المجموعتين الأولى والثانية، وتضم الطائفة الثالثة : نظام صدام حسين رحمه الله الذي دمر العراق بشكل كامل، نظام البشير الذي قسم السودان، نظام بشار الذي يدمر الآن سوريا.
ويمكن القول بأن كل هذه الأنظمة كانت تخدم أمريكا، بطريقة أو بأخرى، ولكن النظام الذي تخشاه أمريكا حقا، فهو ذلك النظام الذي يفرزه المزاج الشعبي الكاره لأمريكا بالفطرة، أي أنها تخاف من كل نظام عربي منتخب من طرف شعبه، وبالتالي له القدرة إلا أن يقود ذلك الشعب لما فيه مصلحة العرب والمسلمين، أي إلى تنمية حقيقية، وإلى مواجهة ـ ذات نتائج ملموسة ـ مع العدو الصهيوني، ومع داعمه الأول أي أمريكا.
إن أي رئيس عربي أو إسلامي يريد أن يخدم القضية الأولى للعرب وللمسلمين عليه أولا، وثانيا، وثالثا أن يتصالح مع شعبه، وأن يحدث تنمية حقيقية في بلده، لأنه لا يمكن أن ننصر فلسطين بشعوب عربية مهدورة الكرامة، وخائفة من الدكتاتوريات التي تقودها أكثر من خوفها من العدو الصهيوني ومن أمريكا.
وفي الأخير، فأعلم ـ يا دكتور ـ بأن أمريكا تفضل ألف بشار يصرخ في الصباح وفي المساء بألف شعار معادي لها، عن رئيس سوري يمكن أن يظهر مستقبلا، إن نجحت الثورة السورية، رئيس ينتخبه الشعب السوري، لأن مثل ذلك الرئيس هو الذي يهدد حقا مصالح أمريكا وأمن إسرائيل..
تصبحون وأنتم قوميون حقا...
ملاحظة : نشرت أجزاءً من هذا  المقال على صفحتي الشخصية، ومن قبل أن يكتمل، كرد سريع على حلقة الاتجاه المعاكس، ولقد كان العنوان الأصلي للمقال:  تعليق على حلقة لم أشاهدها.