السبت، 28 أكتوبر 2023

طوفان الأقصى ومجزرة الشعارات الجوفاء!

 


لم تقتصر معركة طوفان الأقصى على توجيه ضربات موجعة لجيش العدو الصهيوني، كان من نتائجها سقوط عدد غير مسبوق من القتلى والجرحى وأسر عدد كبير من جنود العدو خلال ساعات معدودة من صبيحة يوم سبت عظيم صادف السابع من أكتوبر من العام 2023، لم تقتصر معركة طوفان الأقصى على ذلك، بل إنها بالإضافة إلى ذلك أصابت جيشا من شعارات الغرب الجوفاء في مقتل، وأحدثت مجزرة كبيرة في صفوف تلك الشعارات الزائفة التي كان يتغنى بها الغرب خلال العقود الماضية.

نعم هناك شعارات عديدة أصيبت في مقتل، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية من معركة طوفان الأقصى، وكان على رأسها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و "القانون الدولي " و"العالم الحر" و"العالم المتحضر" و"حرية الإعلام " و "الضمير العالمي" إلى غير ذلك من سلسلة طويلة من الشعارات الجوفاء، والتي ظلت مصداقيتها تتآكل عاما بعد عام خلال العقود الماضية إلى أن تلقت الضربة القاضية خلال معركة طوفان الأقصى.

تُدَمرُ المدن، ويُقتل الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، وتُقصف المساجد والمستشفيات والمدارس والمخابز، ويُمنع الطعام عن الجوعى والماء عن العطشى والدواء عن المرضى والجرحى، والوقود عن سيارات الإسعاف، ويُقطع الاتصال بشكل كامل حتى لا يُسمع نداء استغاثة، ويَستنتجُ "العالم المتحضر" من كل هذه المجازر الوحشية أن حماس منظمة إرهابية، وأن العدو الصهيوني له الحق ـ كل الحق ـ في قتل المزيد من الأطفال والشيوخ والنساء "دفاعا عن نفسه".

لقد انكشف زيف الشعارات التي يرفعها الغرب منذ مدة طويلة، ولكن مع ذلك ظل الغرب قادرا على أن يتغنى بتلك الشعارات، وكان يجد دائما في عالمنا العربي والإسلامي من يطربه ذلك الغناء، ولكن مع معركة طوفان الأقصى فإن الأمور ستتغير، ولا أظن أن ساذجا مهما بلغت سذاجته، أو طيبا مهما بلغت طيبته، سيصدق بعد معركة طوفان الأقصى تلك الشعارات الجوفاء، أو سيَطربُ لسماعها حتى وإن أُعيدَ تلحينُها من جديد كما كان يَحدثُ في الماضي.

لقد أكدت لنا معركة طوفان الأقصى أن الإنسان الذي يُغَني الغربُ بحقوقه هو الإنسان الغربي المسيحي أو اليهودي أو الملحد، أما الإنسان المسلم فلا حقوق له، ويستباح قتله في كل حين، وسيجد من يقتله تعاطفا كبيرا من قادة "العالم المتحضر".

لم تكشف معركة طوفان الأقصى الغطاء عن زيف تلك الشعارات الغربية فقط، بل إنها كشفت الغطاء أيضا عن زيف شعارات أخرى كان يرفعها العدو متباهيا، وكانت تصدقها الغالبية منا، ومن تلك الشعارات أن جيشَ العدو لا يقهر، وأن مخابراتِه لا تُخترقُ، وأن جدارَهُ العازلَ لا يُمكن أن تُفتح فيه ثَغرة.

لقد أظهرت معركة طوفان الأقصى المباركة أن مخابراتِ العدو يمكن أن تَخترقَها المقاومةُ، بل وتُحَيدَها، وأن جيشَ العَدو يُمكن أن تُكبِدَهُ المقاومةُ ـ لا الجيوش العربية ـ خسائرَ فادحةً خلال ساعاتٍ قليلة، وأن الجدارَ العازلَ يُمكنُ أن تُجرَف أجزاءٌ منه بالجَرافات، وفي وضح النهار.

خلاصة القول هي أن معركة طوفان الأقصى أَحدثت مجزرةً كبيرةً في شعاراتِ الغرب التي ظل يَخدعُنا بها لعقود طويلة، وأحدثت كذلك مجزرة أُخرى في شعاراتِ العَدو التي ظل يُخيفُنا بها لعقود طويلة، ونحن بعد السابعِ من أكتوبر من العام 2023 لن نكون كما كُنا من قَبله، فمن اليوم لن يكون بإمكان الغَرب أن يَخدعَنا بشعاراتِه الزائفة، ولن يَكون بإمكانِ العَدو الصُهيوني أن يُخيفَنا بجيشِه الذي لا يُهزَم، ولا بمخابراتِه التي لا تُخترق.

 حفظ الله فلسطين..


الخميس، 26 أكتوبر 2023

إلى وزير الخارجية المصري


طالعتُ تصريحا لكم تداولته المنصات الإخبارية بشكل واسع، جاء فيه أنكم قلتم: "الصمتُ والاكتفاء بتوجيه المناشدات الجوفاء يعتبران مشاركة في ما يُقترف من جرائم".

هذا قولٌ صحيحٌ لا لبس فيه، والشارع العربي من المحيط إلى الخليج يتفق معكم ويؤيدكم في قولكم هذا، وبنسبة 100%، ولكن يا معالي الوزير ألا ترون أن حكومتكم أولى من غيرها بالعمل بمضمون تصريحكم هذا؟

هذه بعض المقترحات البسيطة التي قد تنقل مصر الدولة العربية العظمى من دائرة الاكتفاء بالمناشدات الجوفاء، والمشاركة بالتالي في ما يُقترف من جرائم، إلى دائرة الأفعال الملموسة الداعمة للشعب الفلسطيني الذي يتعرض اليوم لواحدة من أبشع وأشنع وأفظع المجازر والجرائم في هذه الفاصلة العصيبة من تاريخ البشرية.

يمكن لمصر مثلا، ومن خلال وزارتكم يا معالي الوزير، أن:

  تطرد سفير دولة العدو الصهيوني من أراضيها؛

2 ـ تستدعي سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وتبلغهم تنديد الحكومة المصرية الشديد بموقفهم الداعم للعدو الصهيوني في جرائمه؛

3 ـ تفتح معبر رفح لمرور قوافل الدواء والغذاء إلى أهلنا في غزة، وليحدث بعد ذلك ما سيحدث. لم أطلب أن تقصفوا بعض مواقع العدو وتقولون إن ذلك كان نتيجة لأخطاء كما يفعل العدو معكم، والذي قصف حتى الآن موقعين مصريين عن طريق "الخطأ".

هذه بعض الأفعال الملموسة التي قد تنقل موقف مصر من دائرة "الاكتفاء بتوجيه المناشدات الجوفاء" إلى دائرة الحد الأدنى من الأفعال المنتظرة من دولة عربية كبيرة بحجم مصر في مثل هذا الظرف العصيب الذي يمر به أهلنا في فلسطين.

معالي الوزير

إذا كانت مصر بعظمتها غير قادرة على الانتقال من دائرة القول إلى دائرة الفعل لسبب أو لآخر، فإننا ندعوها على الأقل أن تزيد من مستوى حدة أقوالها،  وأن ترفع مستوى تلك الحدة إلى أعلى المستويات كأن تقول مثلا ـ وبأعلى صوت ـ إن حماس ليست منظمة إرهابية، وإنما هي حركة تحرر تدافع عن أرضها، فلماذا يقول رئيس تركيا ذلك من قبل أن يقوله رئيس مصر؟ أو تقول مثلا وبلسان عربي فصيح وصريح إن جيش العدو هو جيش إرهابي ومجرم وعنصري وقاتل، فلماذا تقول إيران ذلك، ولا تستطيع مصر قوله، وهي الأولى بقوله من أي دولة أخرى في العالم؟ أو تقول بلسان أخوي وإنساني متضامن إن العدو الصهيوني يرتكب "جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة"، فبأي منطق تسبقكم وزيرة اسبانية لمثل هذا القول يا معالي الوزير؟

ولماذا ينتظر الشارع العربي مواقف قوية تندد بجرائم العدو من إيران أو تركيا أو حتى من دول أخرى غير مسلمة في آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا، ولا ينتظرها من بلد عربي كبير بحجم مصر؟

للأسف الشديد لقد أصبح موقف العرب من القضية الفلسطينية باهتا ضعيفا، بل ومتخاذلا، إن لم أقل معاديا، وأصبحت هناك مواقف أكثر قوة يعول عليها الشارع العربي تأـتي من دول غير عربية، فإلى متى سيستمر هذا الحال؟

لقد تراجع الدور العربي في مجمله بتراجع مصر عن مواقفها التاريخية المعروفة من القضية الفلسطينية، فهل ستراجع مصر مواقفها وتستعيد دورها التاريخي ليستعيد العرب من خلفها دورهم المفترض والمنتظر مما يجري حاليا في فلسطين؟

  حفظ الله مصر..


الأربعاء، 25 أكتوبر 2023

تفادياً لفاجعة أخرى


في حدود الساعة السابعة والنصف من مساء الثلاثاء (17 أكتوبر 2023) وقع حادث سير أليم عند الكلم الــــ102 على طريق الأمل، وراح ضحيته داعية شهير وأربعة من أقاربه ورفقائه.

على بعد كيلومترين من موقع الحادث تتمركز سيارة إسعاف بشكل دائم (عند الكلم 100)، وقد أُشْعِرَ طاقمُها بالحادث بشكل شبه فوري، فتحركت بشكل فوري، ويُقدرُ الفارق الزمني بين لحظة وقوع الحادث ووصول سيارة الإسعاف إلى مكان حدوثه بخمس دقائق، ومع ذلك فقد وَجَدَ طاقمُ سيارةِ الإسعاف الركابَ الخمسةَ في السيارة التي تعرضت للحادث قد توفوا جميعا، وكانت الوفاة فورية بسبب قوة الاصطدام بين سيارة الضحايا والشاحنة المتعطلة على الطريق، والتي تُعَدُّ هي السبب المباشر في وقوع هذه الفاجعة الأليمة.

قبل ذلك، في يوم الاثنين 16 أكتوبر تعطلت الشاحنة التي تسببت في الحادث عند الكلم 102، ولم يضع سائقها المثلث التحذيري العاكس للضوء لتنبيه سالكي الطريق، والراجح أنه لم يحرص على اقتناء ذلك المثلث، فبقيت الشاحنة متعطلة في مكانها ليوم كامل، ومع حلول الظلام مساء الثلاثاء حدث ما كان محتملا في كل لحظة، حيث اصطدمت سيارة قادمة من الشرق بالشاحنة التي تصعب رؤيتها ليلا، خاصة إذا ما كانت هناك سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس وتشغل الأضواء الكاشفة، وهو ما كان، فوقعت الفاجعة  الأليمة : وفاة خمسة أشخاص بشكل فوري، وهم مجموع ركاب السيارة، وكان من بينهم الداعية المعروف انجيه ولد زروق، نسأل الله تعالى أن يتغمد الجميع بواسع رحمته.

خلال زيارتنا في حملة معا للحد من حوادث السير لموقع الفاجعة رصدنا ثلاث مركبات كبيرة (2 شاحنة + حافلة) متوقفة على الطريق في نقاط مختلفة، ولا تضع أي واحدة منها إشارة تحذيرية. لا أحد من سائقي هذه الشاحنات اتعظ من فاجعة الكلم 102، بل على العكس من ذلك فتصرف سائقي هذه الشاحنات ربما يوحي بأنهم يسعون فعلا إلى حصول حوادث مميتة أخرى.

كثيرةٌ هي حوادث السير التي تتسبب فيها "شاحنات الموت"، والتي نقصد بها الشاحنات المتعطلة أو المتوقفة لسبب أو لآخر على الطريق، وهناك أمثلة عديدة لا يتسع المقام لاستعراضها، وتفاديا لوقوع المزيد من هذا النوع من الحوادث المميتة فإننا في حملة معا للحد من حوادث السير نطالب السلطات المعنية بما يلي:

1 ـ إجبار جميع المركبات على اقتناء المثلث التحذيري العاكس للضوء، وخاصة الشاحنات، والتوقيف الفوري لأي شاحنة لا يوجد لدى سائقها هذا المثلث ومنعها من مواصلة الرحلة. 

وجَديرٌ بالاستغرابِ أن البعض يُنفقُ عشراتِ الملايين لشراء شاحنة، ثم بعد ذلك يعجز عن شراء مثلث تحذيري عاكس للضوء بألف أوقية قديمة!!!

2 ـ تشكيل دوريات متنقلة من الدرك أو أمن الطرق لرصد الشاحنات المتوقفة على الطرق، والتي لا تضع إشارات تحذيرية عند مسافات مناسبة (المسافة تتغير حسب طبيعة الطريق)، وإنزال أقسى العقوبات بسائقيها؛

3 ـ إنزال أقسى العقوبات بأي سائق شاحنة يتسبب في حادث من هذا النوع، وعدم التساهل معه تحت أي ظرف؛

4 ـ العمل مستقبلا على تسوية جوانب الطرق وجعلها مناسبة للتوقف، ففي ببعض المقاطع قد لا يجد صاحب السيارة المتعطلة مكانا يوقف فيه سيارته المتعطلة؛

5 ـ هناك مشكلة أخرى مرتبطة بالشاحنات يجب أن يُبحث لها عن حلول، فكثيرا ما تنقلب شاحنة وتسد الطريق فتوقف بذلك حركة السير لساعات طوال. وبناءً عليه يجب توفير آليات قادرة على التعامل مع هذه الحالات، على أن تكون هناك نقطة تدخل ثابتة عند منعرج "جوك"، والذي كثيرا ما تنقلب عنده شاحنات فتسد الطريق.



ذلك ما على السلطات المعنية أن تقوم به وعلى الفور، أما بخصوص المجتمع المدني، فإننا في حملة معا للحد من حوادث السير سنعمل ـ رغم عدم تعاون الجهات المعنية معنا ـ على برمجة أنشطة توعوية خاصة بسائقي الشاحنات، ونحن على استعداد لأن نزود السلطات المعنية بصور وأرقام الشاحنات التي تتوقف على الطرق دون وضع إشارات تحذيرية في حالة وصول تلك الصور إلينا من مناصري الحملة الذين يوجدون في أغلب الولايات، هذا في حالة ما إذا قررت السلطات المعنية أن تعاقب سائقي الشاحنات الذين يوقفون شاحناتهم على الطرق دون وضع مثلثات تحذيرية عاكسة للضوء.

حفظ الله موريتانيا..


الخميس، 19 أكتوبر 2023

المقاومة الفلسطينية: من المتاح إلى المستحيل!


هناك نصيحة ثمينة تصلح للجميع أفرادا كانوا أو مؤسسات أو حتى دول مفادها أنك إذا حاولتَ أن تشتغل في دائرة المتاح، فستجد مع الوقت بأن هذه الدائرة ستتسع أمامك شيئا فشيئا، ومع الإصرار وبذل المزيد من الجهد، فستجد أن اتساعها سيصل إلى ماكنتَ تعتقد عند الانطلاقة بأنه يدخل في دائرة المستحيل، وعندها ستجد بأنك أصبحت قادرا بالفعل على أن تطرق باب المستحيل.

وفي المقابل، فإن عدم استغلالك للمتاح حاليا، اعتقادا منك بأن دائرته أصغر من طموحك، ومن الحد الأدنى المطلوب، فإن ذلك سيؤدي مع الوقت إلى انكماش دائرة المتاح لديك، والتي ستظل تضيق وتضيق حتى تختفي تماما، وحينها ستجد بأنه لم يعد بإمكانك أن تؤثر، وأنه لم يعد متاحا لك إلا أن تبقى داخل دائرة العجز الكامل، تندب حظك، وتتفرج على ما يدور حولك من أحداث جسيمة دون أن يكون لك عليها أي تأثير.

هناك مثالان يمكن أن أقدمهما عن الحالتين، ولكني مع ذلك سأكتفي في هذا المقام بتقديم المثال الإيجابي المتعلق بمن يشتغل بعزيمة وإصرار في دائرة المتاح، ويظل يوسع تلك الدائرة ويسير بها في اتجاه ما قد نعتبره ضمن دائرة المستحيل، هذا إن كان للمستحيل دائرة أصلا.

إن خير مثال يمكن أن أقدمه هنا هو ما حققته المقاومة الفلسطينية بشكل عام وكتائب الشهيد عز الدين القسام بشكل خاص في الفترة ما بين يومين من أيام أكتوبر، صادف أـولهما يوم الجمعة 26 أكتوبر 2001، وصادف الثاني يوم السبت 7 أكتوبر 2023.

قبل عقدين وسنتين من الآن، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 26 أكتوبر 2001، وعلى تمام الساعة الثانية وعشر دقائق ظهرا أطلقت كتائب الشهيد عز الدين القسام أول عملية قصف صاروخي لها، وكانت عبر صواريخ القسام1، واستهدفت في تلك العملية مدينة سيدوروت. هذه العملية سبقتها محاولات فاشلة لإطلاق صواريخ بعضها لم يبتعد كثيرا عن قدمي مطلقيه، وقد أثارت هذه العملية وما تبعها من عمليات سخرية الكثيرين، ممن كان يتحدث حينها عن "الصواريخ العبثية".

بعد عملية القصف تلك أصدرت كتائب الشهيد عز الدين القسام "البيان الأول حول أول قصف بصواريخ القسام"، وقد جاء في هذا البيان: "نعاهد الله ثم نعاهدكم لنجعلن حياة الصهاينة جحيما لا يطاق، ولندخلن عليهم المستوطنات والمدن، ولنخرجهم من أرضنا صاغرين بعون الله تعالى، وندعوكم إلى الانحياز دوما إلى خيار الجهاد والمقاومة وعدم اليأس، ونعدكم أن نكون المخلصين دوما حتى نحرر كامل تراب فلسطين".

تلكم كانت فقرة من أول بيان عن أول عملية إطلاق للصواريخ في اتجاه العدو، وبعد تلك العملية بعقدين وسنتين، سيستيقظ العالم صبيحة السابع من أكتوبر 2023 على عملية طوفان الأقصى، والتي شكلت مفاجأة سارة للشعوب العربية والإسلامية، وصدمة كبيرة للعدو وحلفائه، وهي بالنسبة للجميع من قبل أن يراها، سواء من سرته أو من صدمته، تعتبر مما كان يدخل في دائرة المستحيل.

لا أحد مهما كانت سعة خياله، واتساع أحلامه، كان يتوقع أن تخلد المقاومة الفلسطينية خمسينية حرب 6 أكتوبر بحرب أكتوبر أخرى أكثر إيلاما للعدو من سابقتها.

لا أحد كان يتوقع أن يستيقظ ذات صبيحة سبت صادف يوم 7 أكتوبر من العام 2023 على هجوم بري وبحري وجوي تنفذه المقاومة الفلسطينية ضد العدو، وتستخدم فيه ما كان يصنف عند الكثيرين ـ وإلى وقت قريب ـ على أنه ألعاب أطفال.

إن ألعاب الأطفال لم تعد ألعاب الأطفال، وإن الصواريخ العبثية لم تعد عبثية، وذلك بعد أن أصبحت قادرة على أن تشغل العالم كله لمدة أسبوعين كاملين، وستشغله أكثر مستقبلا. 

وإن ما كان يصنف لدى الجميع من قبل السابع من أكتوبر 2023 على أنه يدخل في دائرة المستحيل، ها نحن نعيشه اليوم حقيقة جلية على أرض الواقع، وما قد نصنفه اليوم مستحيلا قد نعيشه غدا واقعا، إذا ما ظلت المقاومة صادقة في مقاومتها، تُعدُّ للعدو ما استطاعت أن تُعدَّ له من قوة بقدرات ذاتية ومحلية، وتوظف كل متاح لديها في سبيل تحرير فلسطين.

دعونا الآن نعد لبعض العبارات أو الكلمات المفتاحية التي جاءت في أول بيان عن أول عملية قصف بالصواريخ تنفذها كتائب الشهيد عز الدين القسام. 

لقد عاهدت كتائب الشهيد عز الدين القسام الله ثم عاهدتنا في بيانها الأول على أنها ستجعل حياة الصهاينة لا تطاق، لنطرح الآن السؤال: هل حياة الصهاينة اليوم مريحة؟ أترك لكم الجواب.

 ووعدتنا أيضا كتائب الشهيد عز الدين القسام في بيانها الأول أنها ستدخل على العدو في المستوطنات والمدن، فهل وفت كتائب الشهيد عز الدين القسام بهذا الوعد، وهل دخلت على العدو في مستوطناته؟ أترك لكم أيضا الجواب.

 ثم خُتِم البيان بهذا الوعد: "ولنخرجهم من أرضنا صاغرين بعون الله تعالى، وندعوكم إلى الانحياز دوما إلى خيار الجهاد والمقاومة وعدم اليأس، ونعدكم أن نكون المخلصين دوما حتى نحرر كامل تراب فلسطين".

إن أكثر ما استوقفني في هذه الفقرة الأخيرة هو أن بطولات المقاومة في طوفان الأقصى والردود الجبانة للعدو جعلت الكثير من الشعوب ينحاز للمقاومة، ويتخلص من اليأس والإحباط المتراكم لعقود، ويؤمن بأن هذا الجيل بالذات من المقاومة قادر على تحرير فلسطين كل فلسطين من الاحتلال الأكثر عنصرية والأشد إجراما في التاريخ الحديث.

ومهما يكن مسار هذه الحرب فإن النصر قد تحقق للمقاومة منذ اللحظات الأولى من صبيحة السابع من أكتوبر. نعم لقد انتصرت المقاومة رغم الجرائم التي يرتكبها العدو يوميا ضد الأطفال والنساء والشيوخ، والتي فاقت كل درجات التخيل.

إن الانتصارات الكبيرة تكون كلفتها دائما كبيرة، ونحن اليوم نعيش انتصارا كبيرا في زمن شحت فيه الانتصارات: كبرى كانت أو صغرى.

حفظ الله فلسطين..


الخميس، 5 أكتوبر 2023

استنتاجات صادمة وغير متوقعة!


يحكى فيما يحكى أن أبا ثريا كان يملك قصرا فخما، قرر ذات يوم أن يأخذ ابنه في رحلة إلى بلدة فقيرة في الريف لا يسكنها إلا الفقراء، وكان الأب يريد من تلك الرحلة أن ينبه ابنه إلى أنه يعيش في نعيم ورخاء حُرم منه الكثير من أطفال الفقراء. قضى الأب وابنه أياما في ضيافة أسرة فقيرة جدا كانت تسكن في مزرعة بالبلدة الفقيرة، وفي طريق العودة دار بين الأب والابن الحوار التالي:

الأب : كيف كانت الرحلة ؟ 

الابن : كانت رحلة رائعة

الأب : هل شاهدت يا ابني كيف يعيش أهل هذه البلدة، وكيف كانت تعيش الأسرة التي أقمنا عندها؟

الابن : نعم يا أبي لقد شاهدتُ كل ذلك، فالأسرة التي أقمنا عندها تملك أربعة كلاب ونحن لا نملك إلا كلبا واحدا، وهي تملك بركة ماء لا حدود لها ونحن في منزلنا لا نملك إلا حوض سباحة صغير، ونحن نضيء حديقتنا الصغيرة بمصابيح، أما هم فإنهم يضيئون حديقتهم ذات المساحة الواسعة بنجوم تتلألأ في السماء، وباحة منزلنا ضيقة في حين أن باحة منزلهم تمتد مع الأفق.

ظل الوالد يستمع لمقارنات الابن الغريبة دون أن يعلق عليها، وذلك من قبل أن يختم الابن حديثه بالاستنتاج التالي:

لقد عرفتُ يا أبي كم نحن فقراء، وكم هم أغنياء!!

(2)

يتراجع نفوذ فرنسا في إفريقيا، وتتراجع مكانتها، ولم تسلم لغتها من ذلك التراجع، ومن مظاهر ذلك التراجع خروج مالي والنيجر وبوركينافاسو من العباءة الفرنسية، بالنسبة لمالي فقد جعلت اللغة العربية إحدى لغاتها الرسمية في دستورها الجديد، وألغت رسمية اللغة الفرنسية، واحتفظت بها لغة عمل ربما في انتظار التخلص منها مستقبلا، وفي الجزائر والمغرب يتنامى التوجه لإبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية، وفيما يخص المغرب فإن الملك المغربي قد رفض بعد الزلزال الأخير الرد على مكالمة من الرئيس الفرنسي، كما رفض أيضا تسلم مساعدات من فرنسا، هذا فضلا عن عدم موافقته لزيارة ماكرون للمغرب.

ومن قبل ذلك كله تخلت رواندا عن الفرنسية وأبدلتها بالإنجليزية، ومنذ عامين انسحبت دولة الغابون من منظمة لفرانكفونية، والتحقت بمجموعة الكومنولث الناطقة بالإنجليزية.

في المقابل فإن عدد الناطقين باللغة العربية في ازدياد، واليوم تحتل اللغة العربية الرتبة الرابعة عالميا، والثانية إفريقيا.

وفي العام 2015 نشرت جريدة الاندبدنت البريطانية اعتمادا على دراسة صادرة عن المجلس الثقافي البريطاني تقريرا تحت عنوان: "انسوا الفرنسية والصينية ...العربية هي اللغة التي يجب تعلمها".

كنا نتوقع من معالي وزير الاقتصاد أن يقرأ كل هذه الأحداث قراءة موضوعية، وأن يقرر بناءً على تلك القراءة تعريب إجراءات الصفقات العمومية، وتعريب كل الوثائق والمراسلات الخاصة بوزارته، احتراما للدستور الموريتاني أولا، وانسجاما مع رغبة الممولين ثانيا، واسمحوا لي هنا أن افتح قوسا قصيرا لأبين إحدى مغالطات معالي الوزير في خرجته الأخيرة (سأخصص المقال القادم إن شاء الله للحديث بشكل مفصل عن مغالطات الوزير في تلك الخرجة).

إن أكثر من نصف تمويلات المشاريع في موريتانيا تأتي من خزينة الدولة، ومن المفترض أن تكون لغة إجراءات الصفقات العمومية بالنسبة للمشاريع التي تمولها الدولة الموريتانية هي اللغة الرسمية للبلد. أما التمويلات الخارجية، والتي تزيد قليلا على نسبة 40% من مجموع التمويلات، فإنها تنقسم إلى عدة أقسام، أهمها التمويلات الكبرى الخاصة بالبنية التحتية (الطرق ، المياه ..إلخ)، فهذه التمويلات تأتي من الصناديق العربية، وهي تفضل دائما أن تكون اللغة العربية هي لغة إجراءات الصفقات العمومية، بل إن بعض هذه الصناديق أصبح يفرض على القطاعات المستفيدة استخدام اللغة العربية في إجراءات الصفقات العمومية، وهو ما تستجيب له تلك القطاعات، والتي كانت ترفض الاستجابة لمقتضيات الدستور الموريتاني، ففرض عليها الممول أن تستجيب لمقتضيات دستورها!

تأتي في المرتبة الثانية بعد تمويلات الصناديق العربية تمويلات البنك الدولي، وهو بالمناسبة يشجع أن تكون لغة الصفقات العمومية في البلدان التي يمول فيها مشاريع هي اللغات الوطنية للبلدان المستفيدة، حرصا على الشفافية، ولذلك فقد تكفل بنفقات تعريب الوثائق النموذجية المستخدمة في إجراءات الصفقات العمومية في بلادنا. من بين ممولي المشاريع أيضا، يمكن أن نتحدث عن الصين، والتي يمكن القول بأنها تهتم بالعربية أكثر من الفرنسية. تبقى جهة التمويل الوحيدة التي تطلب استخدام اللغة الفرنسية هي الوكالة الفرنسية للتنمية والاتحاد الأوروبي، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن التمويلات القادمة من هذه الجهات لا تمثل إلا نسبة قليلة جدا من مجموع التمويلات، هذا فضلا عن كون المشاريع الممولة من طرفها لا تسعى لتحقيق أهداف تنموية فقط، بل إن لها أهدافا سياسية لا تخفى على أي متابع فطن، وهنا نغلق القوس القصير الذي فتحناه.

كنا نتوقع من معالي وزير الاقتصاد أن يقرأ الأحداث أعلاه قراءة موضوعية، وأن يدرك أن فرنسا ولغتها في تراجع، وأن يقرر بالتالي تعريب إجراءات الصفقات العمومية في بلادنا استجابة لمقتضيات الدستور أولا، وتلبية لرغبات أهم الممولين ثانيا، فإذا به بدلا من ذلك يستنتج من تراجع نفوذ فرنسا ولغتها، استنتاجا غريبا على طريقة الطفل الذي تحدثنا عن قصته في أول فقرة، مفاده أن اللغة العربية في تراجع، وأنه لا مجال لتعريب إجراءات الصفقات العمومية.

  

(3)

قبل أقل من 24 ساعة من اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، وتحديدا في يوم 23 فبراير 2022 ألغى معالي وزير الاقتصاد الحالي، وكان حينها وزيرا للطاقة والمعادن صفقة بتوريد المحروقات فازت بها شركة "أداكس"، وبأسعار مقبولة نسبيا، ليضطر بعد ثلاثة أسابيع فقط، وتحديدا في يوم 17 مارس 2022 أن يمنح نفس الصفقة لنفس الشركة، ولكن بزيادة 120 مليون دولار إضافية، أي ما يُقارب 45 مليار أوقية قديمة!!

قراءة معالي الوزير للأحداث التي سبقت حرب أوكرانيا بأربع وعشرين ساعة فقط هي التي جعلته يخرج باستنتاج مفاده أن الحرب لن تقع، وأن التموين بالمحروقات لن يشهد أي تقلبات، ويتخذ بالتالي قرارا سيئا وغير مدروس كلف خزينة الدولة 45 مليار أوقية قديمة في غمضة عين، وتسبب فيما بعد في أعلى زيادة في أسعار المحروقات السائلة في تاريخ البلد ( 115 أوقية قديمة بالنسبة للتر المازوت، و130 أوقية قديمة للتر البنزين، أي زيادة تقدر في مجملها بنسبة 30%).

وقراءة الوزير للأحداث المرتبطة بفرنسا ولغتها جعلته يخرج أيضا باستنتاج صادم وغير متوقع مفاده أن اللغة العربية في تراجع، وأنه لا مجال لتعريب إجراءات الصفقات العمومية، وهو ما سيترتب عليه احتفاظ الصفقات العمومية بلغة أجنبية، الشيء الذي سيجعل موريتانيا البلد الوحيد في هذا العالم الذي يمكن أن تطالع فيها إعلانا من وزارة سيادية توجد به عبارة صريحة تقول لا نقبل بالعروض المكتوبة بلغتنا الرسمية!

لقد دفعنا كلفة اقتصادية كبيرة، بل وكبيرة جدا، بسبب استنتاجات الوزير قبيل اشتعال الحرب في أوكرانيا، والتي تقول بأن الحرب لن تقع، ودفعنا كلفة معنوية أكبر بسبب استنتاجات الوزير التي تقول بتراجع اللغة العربية، وما يترتب على ذلك من عدم تعريبِ للغة الصفقات العمومية.

ليس لنا أمام هذا الواقع المؤلم، إلا أن ندعو الله أن يخفف عن الشعب الموريتاني أعباء استنتاجات وقرارات معالي الوزير.

حفظ الله موريتانيا..