لن أتحدث في هذا المقال عن عشرية الرئيس السابق، ما لها وما عليها،
فذلك موضوع أُشبع نقاشا وأصبح من الصعب جدا أن يؤتي فيه بالجديد. ما سأتحدث عنه
هنا سيقتصر فقط على تلك الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس السابق في حق نفسه،
والتي أوصلته في محصلتها النهائية إلى هذه الوضعية التي يعيشها اليوم. لن أناقش
هذه الأخطاء من منظار المصلحة العامة، وإنما سأناقشها من منظار المصلحة الخاصة
للرئيس السابق.
أخطاء كثيرة ارتكبها الرئيس السابق في حق نفسه خلال العشرية الماضية،
وسأكتفي منها بما تم ارتكابه من بعد البيان الرئاسي الشهير الذي صدر في منتصف
يناير 2019، والذي أوقف مبادرة النواب المطالبة بتمديد المأموريات.
(1)
بعد صدور ذلك البيان انتهى الشك والتردد، وأصبح من الواضح جدا بأن
الرئيس السابق سيترك السلطة من بعد أشهر قليلة، فماذا كان يجب عليه أن يفعل خلال
تلك الأشهر المتبقية من حكمه؟
كان عليه أن يتصرف في تلك الفترة تصرف الرئيس المودع الذي سيترك السلطة
بعد أشهر قليلة، وهو الشيء الذي يتطلب:
ـ تهدئة الأوضاع وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة
ـ إنهاء بعض الخصومات الشخصية، وخاصة منها تلك المتعلقة بخصومات مع
بعض رجال الأعمال
ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام فيما تبقى من أشهر قليلة،
ومحاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.
على العكس من ذلك، فسنجد بأن الرئيس السابق قد حرص في تلك الفترة على
أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد
من حجم الخروقات في تسييره للمال العام.
(2)
بعد الخروج من السلطة كانت المصلحة الخاصة للرئيس السابق تستوجب منه
أن يبتعد بشكل كامل عن الأضواء، وأن ينسحب بهدوء من المشهد السياسي، وأن يتجنب في
الوقت نفسه كل ما من شأنه أن يهز الثقة بصديقه محمد ولد الشيخ الغزواني والذي أصبح
رئيسا للبلاد منذ فاتح أغسطس 2019.
لقد بينتُ في مقالات عديدة لعل من أهمها ورقة كاشفة تحت عنوان
: " أي دور لولد عبد العزيز في المرحلة القادمة؟" بأن الرئيس السابق سيخرج
من السلطة بيدين فارغتين من أي ورقة ضاغطة يمكن أن يؤثر بها مستقبلا في مجريات
الأمور، ولن تبقى لديه إلا ورقة واحدة وهي الورقة المتمثلة في علاقته القوية
بصديقه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ولذا فكان عليه ـ ولمصلحته الخاصة ـ أن يحافظ على تلك العلاقة القوية. تم نشر هذا
المقال قبيل حفل التنصيب بأيام قليلة، وبعد التنصيب نشرتُ مقالات أخرى في نفس
الاتجاه، كانت تدعو الرئيس السابق إلى ضرورة الابتعاد عن واجهة الأحداث وعن دائرة
الضوء لأن مصلحته الخاصة في ذلك، وكانت تدعو مناصريه إلى عدم الزج به في معركة
خاسرة، وكان من بين تلك المقالات مقالا مخصصا لمناصريه، وكان تحت عنوان:"ومن
المناصرة ما قتل".
(3)
استمر الرئيس السابق في ارتكاب المزيد من الأخطاء في حق نفسه،
واستمر بعض من يرفعون شعار مناصرته بالدفع باسمه إلى واجهة الإعلام، وظلت الأمور
تسير في ذلك الاتجاه إلى أن قرر الرئيس السابق أن يرتكب الخطأ القاتل، وهو الخطأ
المتمثل في اجتماعه بلجنة تسيير حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وإصداره لبيان يمجد
فيه العشرية، ويحدد فيه موعدا لمؤتمر الحزب.
كان ذلك هو الخطأ القاتل، وقد كتبتُ عن ذلك الاجتماع، ووصفته
بالاجتماع القاتل، فهو بالفعل كان اجتماعا قاتلا،
ذلك أنه وضع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أمام خيارين لا ثالث لهما،
فإما أن يقبل بتحكم الرئيس السابق في شؤون البلاد من بعد مغادرته للسلطة، وذلك أمر
لا يحتمل أن يقبل به رئيس منتخب، يدعمه الجيش، وتلتف حوله الأغلبية، وتهادنه
المعارضة، وإما أن يثبت بأنه هو من يتحكم بالفعل في شؤون البلاد، وكان ذلك يقتضي كشف
الغطاء عن الرئيس السابق، وإظهاره للرأي العام وللشعب وحيدا بلا أنصار وبلا داعمين
في صفوف الأغلبية الحاكمة، وهو ما كان.
لقد رفع ذلك الخطأ القاتل (الاجتماع بلجنة تسيير الحزب) الحرج
عن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ولم يعد بالإمكان أن يوجه إليه اللوم ـ حتى
إذا ما تحدثنا بمنطق العلاقات الشخصية بين الرئيسين لا بمنطق الحكم ـ إذا ما قرر أن يرد بحزم وقوة على الرئيس السابق.
لقد كان اجتماع الرئيس السابق بلجنة تسيير الحزب بمثابة إعلان
حرب ضد الرئيس الحالي، فمن المعروف بأن الرئاسة لا يمكن أن يتقاسمها رئيسان، ومن
المعروف كذلك بأن الرئيس الحالي لم يكن يتدخل للرئيس السابق خلال فترة رئاسته، ولذلك
فقد كان ذلك الاجتماع بمثابة إعلان حرب، ولا أدري ما هي الأسباب التي جعلت الرئيس
السابق يُصدر مثل ذلك الإعلان، خاصة أنه كان من الواضح جدا بأن الخاسر الأكبر في
أي مواجهة بين الرئيسين سيكون الرئيس السابق، وأن الرابح سيكون الرئيس الحالي.
(4)
إن العلاقة بين الرئيسين السابق والحالي هي التي حرمت الرئيس
محمد ولد الشيخ الغزواني من الاستفادة مما كان يستفيد منه الرؤساء السابقون عند
وصولهم إلى الحكم. كان كل رئيس جديد يستفيد في مرحلته الأولى من انتقاد "النظام
البائد". هذه الفرصة لم تتح للرئيس الحالي بحكم علاقته بالرئيس السابق، ولكن
من بعد "الاجتماع القاتل"، ومن بعد تشكيل لجنة تحقيق برلمانية فقد أصبحت
هناك إمكانية للاستفادة من هذه الفرصة. كما يلاحظ أيضا بأن الرئيس محمد ولد الشيخ
الغزواني لم يتحدث خلال كل حملته الانتخابية عن محاربة الفساد، وربما يكون السبب
في ذلك هو أن أي حديث عن الفساد في الحملة الانتخابية سيكون بمثابة "إدانة
سياسية" للرئيس السابق. الآن أصبح بإمكان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن
يعلن حربا على الفساد، وقد شُكِلتْ في هذا الإطار لجنة برلمانية للتحقيق في العديد
من الملفات، ومن المؤكد بأن شعبية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ستزداد كلما
أظهر جدية في محاربة الفساد، وإن كل جدية في محاربة الفساد سيكون المتضرر الأول منها
هو الرئيس السابق، خاصة وأن وزيره الأول وكل أركان حكمه بدؤوا يكشفون للجنة
التحقيق البرلمانية الكثير من عمليات الفساد مع تحميل المسؤولية في ذلك للرئيس
السابق.
حفظ الله موريتانيا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق