ظهرت صورة لمعالي وزير التحول الرقمي خلال عطلته وهو جالس أمام عدد من الألواح في محظرة. قد يرى البعض هذه الصورة مجرد صورة ذكية ميزت الوزير عن غيره من الوزراء الذي نشروا خلال عطلهم صورا مكررة لم تستوقف أحدا، وقد يضيف هؤلاء هذه الصورة المميزة إلى خطوة أخرى سبقتها، ميزت عطلة الوزير عن غيرها من عطل بقية الوزراء، وذلك لما أعلن عن رفضه للاستقبالات الشعبية التقليدية، والتي تنافس عليها غيره من الوزراء.
حقا، لقد تميز وزير الرقمنة في عطلته عن غيره من الوزراء، وذلك برفضه للاستقبالات الشعبية، كما تميز أيضا بهذه الصورة، ولكن دلالات هذه الصورة لا تتوقف على ذلك التميز ، بل إنها في دلالاتها الأعمق تختزل معادلة استراتيجية، يمكن أن نعبر عنها من خلال هذا السؤال: كيف يمكن لموريتانيا أن تحول إرثها العلمي العريق إلى مورد اقتصادي عبر الرقمنة؟
إن المحظرة - وهي إبداع معرفي موريتاني أصيل- ليست مجرد مؤسسة تعليمية تقليدية، بل إنها تجسد رصيدا معرفيا ضخما شكّل هوية البلاد لقرون، ووهبها لقب بلاد شنقيط، ومنحها مكانة خاصة في العالمين العربي والإسلامي. هذه السمعة الطيبة التي منحتها لنا المحظرة في الماضي، تشكل اليوم ميزة تنافسية نادرة يمكن استثمارها في سياق الاقتصاد المعرفي المعاصر.
إن الجمع بين المحظرة والرقمنة يتيح فرصاً اقتصادية واعدة، من أبرزها:
1. تأسيس جامعة رقمية دولية للمحظرة الموريتانية من خلال إطلاق منصة افتراضية لتدريس العلوم الشرعية واللغة العربية، مفتوحة أمام عشرات الآلاف من الطلاب في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً في الدول غير المسلمة حيث يندر التعليم الشرعي الموثوق. في بعض هذه الدول قد يجد المسلم الحديث العهد بالإسلام نفسه في مأزق حقيقي، عندما يقوده سعيه لتعلم الإسلام إلى جماعات مسلحة أو إلى جماعات أخرى حرفت التصوف وأدخلت فيه طقوسا لا علاقة لها بالدين، ومن هنا تبرز أهمية تأسيس جامعة مؤتمنة، تعلم دين الإسلام عن بعد أو بشكل مباشر للمسلمين في شتى أنحاء العالم، وسمعة موريتانيا الطيبة في هذا المجال تتيح لها القيام بذلك الدور؛
2. إطلاق منصة تعليمية مرنة: تقدم برامج قصيرة ومتوسطة المدى برسوم اشتراك تنافسية، على غرار المنصات العالمية، على أن تعتمد هذه المنصة محتوى محظري موريتاني أصيل.
3. شراكات أكاديمية دولية: لتعزيز الثقة وتسويق "المنتج العلمي الموريتاني" في أسواق التعليم والمعرفة في العالمين العربي والإسلامي.
بهذا المعنى، فإن الألواح التقليدية التي ظهرت في الصورة أمام وزير التحول الرقمي، تمثل مخزوناً معرفياً قابلاً للتحويل إلى محتوى رقمي عالي القيمة. وعندما يتم استثماره عبر التقنيات الحديثة، فإنه سيحقق عائداً مزدوجاً: خدمة الدين واللغة من جهة، وتحقيق عائد اقتصادي مستدام للبلاد من جهة أخرى، أي أنه يجمع بين الدنيا والآخرة.
لقد نشر أجدادنا العلوم الشرعية في العالم العربي والإسلامي بوسائلهم التقليدية، واليوم يمكننا أن نواصل رسالتهم عبر الرقمنة، وهو ما سيمنح لموريتانيا موقعاً ريادياً في الاقتصاد المعرفي الإسلامي، ويعيد لها كذلك سمعتها الطيبة التي كانت تتمتع بها في الماضي عندما كانت تعرف ببلاد شنقيط، وعندما كان علماؤها الذين تعلموا في المحظرة، يعرفون بغزارة العلم وبنشره في بلاد المشرق العربي وغرب إفريقيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق