لمن لا يُقَدِّر نعمتي الأمن والاستقرار التي تعيشهما بلادنا ولله الحمد، فما عليه إلا أن يتأمل في الأحداث الجارية حاليا في مالي، وما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد الجار والشقيق، والذي تربطنا به حدود طويلة جدا تصل إلى2237 كلم.
لقد أنعم الله علينا في هذه البلاد بنعمة الأمن والاستقرار، وتلك
نعمة علينا أن نحافظ عليها بشكر الله أولا، ثم بخوض حرب جدية على الفساد
والمفسدين، فلا استقرار ولا أمن دائمين بدون حرب جدية على الفساد والمفسدين.
صحيحٌ أن هناك بعض السياسيين الذين يرفعون شعارات تتعلق بالعبودية
والإرث الإنساني باعتبارهما هما ما يهدد حاليا الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي،
وأننا إذا لم نجتمع عليهما ونتحاور حولهما مرة تلو الأخرى، فلا أمن ولا استقرار
للبلد، ولا نجاة له من التفكك والانقسام لا قدَّر الله.
وصحيحٌ كذلك أن أصوات هؤلاء كانت هي الأعلى في الماضي، وما تزال هي
الأعلى في الحاضر، لأسباب قد نتحدث عنها في مقام آخر، كل ذلك صحيح، ولكنه لن
يمنعنا من القول ـ وبأعلى صوت ـ بأن الخطر الأول الذي يهدد أمن هذه البلاد
واستقرارها هو خطر الفساد، ولا شيء أخطر إطلاقا من الفساد على استقرار البلد وأمنه،
وخطر الفساد سيأتي في الرتبة الأولى ـ وبفارق كبيرـ إذا ما رتبنا المخاطر التي
تهدد وحدة المجتمع وتماسكه في بلادنا.
لنقلها بصوت أعلى، لم يعد ضحايا الفساد، وأكثر من 80% من الشعب
الموريتاني من مختلف الأعراق والمكونات، هم من ضحايا الفساد، يمتلكون القدرة على
تحمل المزيد من آثار الفساد، ولم يعد بإمكان الفقير المريض أو الجائع أو العاطل عن
العمل أن يتحمل المزيد من الفقر والمرض والجوع، وهو يشاهد ثروات البلد تنهب، أو
يشاهد أكوام النقود ترمى في مناسبات اجتماعية، ويوثق رميها بالصوت والصورة، وينشر
كل ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي حتى يصل لكل فقير في مخبئه، فيشاهده أبناؤه
الجوعى أو المرضى أو العاطلين عن العمل، فهل تعتقدون أن هؤلاء سيتصرفون بشكل سليم
عندما تتكرر عليهم تلك المشاهد المستفزة بالعشي والإبكار؟
مشكلتنا الكبرى في هذه البلاد هي الفساد، ولا مشكلة أولى بالمواجهة
من الفساد، ومظاهر الفساد وآثاره هي التي يستغلها بعض السياسيين لخلق انقسام في
المجتمع، ولتأليب بعض المكونات والشرائح على بعضها الآخر، فيقولون لهذه المكونة أو لتلك الشريحة إنكم
تعانون بسبب فساد تلك المكونة أو الشريحة، وكأنهم يريدون بذلك أن يقولوا بأن ضحايا
الفساد هم من مكونات وشرائح محددة، وأن المفسدين ـ كل المفسدين ـ هم من مكونة أو
شريحة محددة، وهذا بطبيعة الحال قولٌ غير صحيح، فضحايا الفساد يوجدون في كل
المكونات الوطنية، والمفسدون يوجدون أيضا في كل المكونات والشرائح.
يمكنني أن أجزم بأن هذا الخطاب المفخخ لن يجد من يستمع إليه إذا ما
حاربنا الفساد بجدية وصرامة، وأن كل هذه الشعارات التي يسعى أصحابها لزرع الفتنة
والانقسام في المجتمع ستتبخر وتختفي، ولن تجد من يتغنى بها، إذا ما حورب الفساد في
هذه البلاد بجدية وصرامة وقوة.
ويمكنني أن أجزم كذلك أن هذا الخطاب التفكيكي المفخخ الذي يتغذى
على آثار الفساد، ويستغلها لإقناع بسطاء الناس، لن يختفي بالحوار، وأننا إذا ما
أجرينا عشرات الحوارات الوطنية المتتالية عن العبودية والإرث الإنساني، وأصدرنا
عشرات المجلدات من القوانين، وأطلقنا عشرات الهيئات لمحاربة مخلفات الاسترقاق ولطي
ملف الإرث الإنساني، ومنحنا مناصب سامية لكل من يرفع تلك الشعارات، وأعطيناهم من
تحت الطاولة ومن فوقها مبالغ مالية ضخمة، أقول يمكنني أن أجزم أننا لو فعلنا كل
ذلك، دون أن نحارب الفساد بقوة وصرامة وجدية، فلا شيء سيتغير، وسيظهر في العام 2030
والعام 2035 من يرفع تلك الشعارات بقوة، وسنضطر مرة أخرى لتنظيم حوارات وطنية
جديدة لمحاربة آثار الاسترقاق ولحل مشاكل الإرث الإنساني.
بكلمة واحدة، فلنحارب الفساد بقوة وصرامة وجدية، ونحن إذا ما فعلنا
ذلك، فإننا سنقضي تلقائيا على العديد من المشاكل التي تؤرقنا حاليا.
هذه هي قناعتي الشخصية، ومع ذلك فأنا لستُ ضد الحوار، بل على العكس
من ذلك فأنا من المرحبين به في أي وقت وتحت أي ظرف، وأعتقد أن الحوار القادم سيكون
مفيدا، إذا ما أضيفت للمواضيع التي سيناقشها ثلاثة ملفات أساسية تم تغييبها في وثيقة
خريطة الطريق، وهذه الملفات المغيبة هي:
1 ـ أن تكون هناك ورشة خاصة بوضع آليات فعالة لتفعيل كل القوانين
المعطلة، ولتنفيذ ما سيتم عليه الاتفاق لاحقا في الحوار المنتظر، فمن مشاكلنا
الكبرى في هذه البلاد أننا نصدر الكثير من القوانين الجيدة، وعندما نتحاور نتفق
على الكثير من التوصيات المهمة، ولكن تبقى المشكلة دائما في تنفيذ القوانين والعمل
بالتوصيات، فبالنسبة للفساد مثلا، والذي يعتبر من أخطر المشاكل التي تواجهنا، فنحن
نمتلك اليوم ترسانة قانونية جيدة، وخاصة بعد المصادقة على القوانين الثلاثة،
المتعلقة بمكافحة الفساد، والتصريح بالممتلكات، وسلطة مكافحة الفساد، ولا أظن أن
الذين سيناقشون هذا الملف في الحوار المنتظر سيضيفون الكثير إلى ما جاء في هذه
القوانين، وإلى ما تضمنته الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
المشكلة ـ وهذا ما علينا أن نستحضره دائما ـ لا تكمن في نقص
القوانين أو التوصيات، بل تكمن في الأساس في تنفيذ تلك القوانين والتوصيات، فكيف
لدولة لم تتمكن بعد أكثر من ثلث قرن من تفعيل مادة في دستورها تنص على أن للبلاد
لغة رسمية وحيدة، فكيف لتلك الدولة أن تنفذ قوانين أخرى أقل إلزامية من مواد
الدستور، أو تنفذ توصيات ستصدر عن الحوار المنتظر؟ كيف لها أن تنفذ تلك القوانين
والتوصيات وهي لم تتمكن ـ حتى الآن ـ من تفعيل مادة في دستورها المصادق عليه منذ
العام 1991، فحتى الآن، وهذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة على تعطيل هذه المادة، فما
زال رئيس أعلى هيئة دستورية في البلاد (المجلس الدستوري) يتحدث بلغة أجنبية في أهم
حدث وطني ( تنصيب رئيس الجمهورية المنتخب).
2 ـ أن تكون هناك ورشة خاصة بالهجرة غير النظامية، والتي يمكن
اعتبارها في ظل عدم الاستقرار المتصاعد في المنطقة، أنها أصبحت من حيث الخطورة
تأتي مباشرة بعد الفساد، ومع ذلك فقد غاب ملف الهجرة غير الشرعية عن المواضيع
المقترحة للنقاش في الحوار القادم.
من المؤكد أن منسق الحوار السيد موسى فال ليس هو من غيب هذا الملف
عن مواضيع الحوار التي ستناقش، فكل ما قام به منسق الحوار هو أنه أفرز المواضيع
التي تكرر طرحها في الردود التي وصلته، وأعادها إلى الجهات المعنية في وثيقة خارطة
الطريق المقترحة. إنه لمن المؤسف حقا أن طبقتنا السياسية ما زالت تعاني من خلل
كبير في ترتيب المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا، بل إن هذا الخلل وصل إلى
مستوى جعل بعض السياسيين لا يعتبر الهجرة غير النظامية مشكلة أصلا، بل أكثر من
ذلك، فبعضهم أصبح يتضامن ويدعم المهاجرين غير النظاميين على حساب المواطنين الموريتانيين، ولذا فقد شاهدنا في
الفترة الماضية من ينتقد بقوة الإجراءات الخجولة التي اتخذتها الحكومة للحد من
تدفق المهاجرين غير الشرعيين لبلادنا، ويُطالب بتوقيف تلك الإجراءات، وكأنه يُريد
أن تفتح بلادنا حدودها الواسعة لأكثر من 17 مليون شخص في المنطقة يتأهبون حاليا
للهجرة.
3 ـ من الملفات الشائكة التي لم تذكر في وثيقة خارطة الطريق، والتي
كان يجب أن يخصص لها محور مستقل، ملف المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالسياسة
والديمقراطية، وهذا ملف شائك ويستحق نقاشا معمقا في ظرفية سياسية هادئة كالتي نعيش
في أيامنا هذه.
إنني من الذين يرون بأن الانتقال من ديمقراطية تتحكم فيها المؤسسة
العسكرية إلى ديمقراطية مدنية خالصة، يحتاج لفترة انتقالية، يقودها رئيس له خلفية
عسكرية ولكنه يتصرف بعقلية مدنية، وفي اعتقادي الشخصي أن الفترة الحالية هي الأنسب
لذلك الانتقال، لو مُهد له بشكل جيد في الحوار القادم.
لقد كنتُ على قناعة تامة بأن موريتانيا لا يمكن أن يقودها بعد
العام 2019 إلا الرئيس الحالي، وأنه لو انتُخِب في العام 2019 رئيسٌ آخر غير محمد
الشيخ الغزواني - أيًّا كان ذلك الرئيس - لما سلمت بلادنا من سوء الأوضاع الأمنية
التي عرفتها بعض دول المنطقة، ولربما عشنا في هذه البلاد انقلابا جديدا ينضاف إلى
انقلابات كثيرة عرفتها بعض دول المنطقة في السنوات الخمس الأخيرة (انقلاب في مالي
أغسطس 2020، انقلاب في تشاد 2021، انقلاب في غينيا 2021، انقلاب في
بوركينافاسو2022، انقلاب في النيجر 2023، انقلاب في الغابون أغسطس 2023..) .
لقد كنا في العام 2019 بحاجة إلى رئيس قادر على تأمين التناوب السلمي على السلطة، وعلى تحصين
مأموريته من أي انزلاق أمني، وذلك في ظل وجود رغبة جادة للإخلال بذلك التناوب لدى
من يمتلك القدرة على الإخلال به، ويمكنني أن أجزم تحليليا أن ذلك التأمين والتحصين
لم يكونا ليتحققا إلا في ظل وجود رئيس منحدر من المؤسسة العسكرية، ولديه القدرة
على أن يحصن البلاد من أي انقلاب عسكري جديد.
أعلم جيدا أن البعض كان يُطالب في تلك الفترة بإبعاد العسكر عن
السلطة، وكلمة العسكر هي السائدة للأسف في الخطاب المعارض، ومع أن لتلك الرؤية
وجاهتها، إلا أنه علينا أن ندرك أن الرئيس أو القائد الناجح يمكن أن يكون مدنيا،
ويمكن أن يكون عسكريا، وكذلك الحال بالنسبة للقائد الفاشل، فيمكن أن يكون هو أيضا مدنيا، كما يمكن أن يكون عسكريا،
فنجاح القائد أو فشله ليسا مرتبطين بالضرورة بمدنيته أو عسكريته، ومع ذلك فهناك
فترات من تاريخ الدول قد يكون فيها حضور الخلفية العسكرية للقائد أولى، وهناك
فترات أخرى ـ وهي الأكثرـ يكون فيها حضور الخلفية المدنية للقائد أولى.
بالمناسبة، وهذه مفارقة تستحق أن تذكر في هذا المقام، فنحن عندما
نبحث اليوم عن الرئيس الأشهر في إفريقيا في هذه الحقبة من تاريخها، والذي استطاع
أن ينهض ببلده على كل المستويات، فسنجد أن ذلك الرئيس لم يكن عسكريا فقط، بل كان
قائد ميليشيا في واحدة من أبشع الحروب الأهلية في إفريقيا، وفي المقابل، فإننا
عندما نبحث عن الرئيس الذي خاض أخطر انقلاب مدني على المؤسسات الدستورية في بلده،
فسنجد أنه رئيس بالمواصفات المثالية حسب ما يُخَيَّل إلينا، فهذا الرئيس لا علاقة
له إطلاقا بالمؤسسة العسكرية، ولا يمكن أن يُنافسه رئيس آخر في "مدنيته"،
فهو أستاذ جامعي، خبير في القانون الدستوري، ووصل إلى السلطة عن طريق انتخابات حرة
نزيهة، وكانت حملته الانتخابية حملة مثالية اعتمدت على خطاب سياسي جذاب، ولم تنفق
فيها أموال طائلة، ومع ذلك فعندما وصل إلى السلطة تصرف بعسكرية، قد لا يتجرأ عليها
العسكريون عندما يصلون إلى الحكم على ظهر دبابة.
أختم بالقول بأن بلادنا كانت في العام 2019 بحاجة إلى رئيس له خلفية عسكرية، وستكون في العام 2029 أحوج إلى رئيس له خلفية مدنية، ولتحقيق ذلك، فنحن اليوم بحاجة إلى حوار وطني عميق ومسؤول، يناقش في هدوء العلاقة بين المؤسسة العسكرية والديمقراطية، تمهيدا لانتخاب رئيس مدني في العام 2029 من الأغلبية أو المعارضة، وذلك بعد أن نكون قد أكملنا الفترة الانتقالية بين الديمقراطية العسكرية والديمقراطية المدنية، في ظل حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهي الفترة التي امتدت أوستمتد لعشر سنوات، من العام 2019 إلى العام 2029.
حفظ الله موريتانيا..