الخميس، 9 أكتوبر 2025

هذا فسادٌ لن نسكت عنه!


بدءًا، لا بد من التأكيد على أن الفساد هو الفساد، لا يُقبل منه وجه ولا يُبرَّر في أي حال، فليس هناك فساد يجوز السكوت عنه وآخر لا يجوز السكوت عنه. ومع ذلك، فقد توجد ظروف استثنائية أو اعتبارات شخصية تجعلنا ـ أحيانا ـ نُميّز بين فساد وفساد، وهذا هو  بالضبط ما حصل  معي عند مطالعة تقرير محكمة الحسابات الصادر مؤخرا.

فثمة نوع من الفساد ورد في هذا التقرير لا يمكنني، أنا بالذات، أن أسكت عنه، وأعني بذلك الفساد المرتبط بتسيير الصندوق الخاص للتضامن الاجتماعي ومكافحة فيروس كورونا المعروف اختصارا بصندوق كورونا.

لا يمكنني السكوت عن هذا الفساد لثلاثة أسباب وجيهة:

أولها: أن هذا الصندوق أُعلن عنه في ظرفٍ استثنائي بلغت فيه القلوبُ الحناجرَ خوفا من جائحة كورونا، تلك الجائحة التي شلَّت الحركة في العالم كله، وأغلقت الحدود، وأرعبت حتى الدول العظمى، فكيف بالدول الفقيرة الضعيفة؟

الفساد جريمة في كل وقت، ولا يُقبل تحت أي ظرف، غير أن ارتكابه في أوقات الأزمات والأوبئة والخوف الجماعي يُعدُّ أخطرَ، ويجعل الحديث عنه والمطالبة بمحاسبة الضالعين فيه أكثرَ وجوبا وأشد إلحاحا.

ثانيها: أن نهب المال العام جريمة لا تقبل تبريرا، ويتأكد الأمر أكثر حين تكون نسبة من هذا المال العام قد جُمِعت من تبرعات وهبات المواطنين.

إن موارد صندوق كورونا ليست كالمال العمومي الاعتيادي، رغم أن المال العمومي الاعتيادي لا يجوز المساس به. فالفرق هنا هو أن بعض المواطنين الفقراء تبرعوا للصندوق بمبالغ زهيدة لا يملكون غيرها؛ فمنهم من تبرَّع بمائتي أوقية قديمة فقط.

فإذا جاز – جدلا – التغاضي عن اختلاس مال عام متحصل من الإيرادات العادية، وهو ما لا يجوز في الأصل، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال السكوت عن نهب أموال تبرع بها مواطنون فقراء للمساهمة في مواجهة وباء عالمي أثار الخوف والذعر لدى الجميع.

ثالثها: وهذا سبب شخصي، وهو أني كنتُ عضوا في لجنة متابعة تسيير هذا الصندوق، وهذا مما يجعلني مسؤولا – بشكل أو بآخر – عن أمواله، حتى وإن لم تكن اللجنة ذات صلاحيات رقابية، إذ كانت تُقدَّم لها تقارير دورية كل شهرين، بما أُنفِق من موارد الصندوق، وتُطلب منها ملاحظات واقتراحات غير مُلزِمة للحكومة.

ولأنني كنتُ ممثلا للمجتمع المدني في هذه اللجنة، فقد شعرتُ بمسؤولية خاصة تجاه الشفافية في تسيير موارد هذا الصندوق، وحرصتُ على إطلاع الرأي العام على أوجه صرف موارده، وقد كتبتُ مقالا حينها بيّنتُ فيه بعض نفقات الصندوق، بعدما بالغ البعض في الحديث عن نهب شامل لأمواله، فتحدثوا حينها عن اختلاس أموال لا يمكن اختلاسها أصلا، كالإعانات التي وزعتها تآزر، وفواتير الماء والكهرباء التي سددها الصندوق عن بعض الفقراء، هذا فضلا عن الإعفاءات الضريبية.

وقد أوضحتُ في ذلك المقال أنه إذا كانت هناك نفقات لا يمكن نهب موارد الصندوق من خلالها، فهناك في المقابل بعض النفقات التي يمكن من خلالها نهب موارد الصندوق، كما هو الحال بالنسبة لنفقات وزارة الصحة، وقد قلتُ في هذا المقال، وبالحرف الواحد: "وصلت نفقات الصحة في مجموعها إلى 11.53 مليار أوقية قديمة، بالإضافة إلى نفقات قطاعات أخرى بلغت 0.93 مليار أوقية، ليصل المجموع إلى 12.46 مليار أوقية قديمة.

هذه النفقات يجب أن تبقى محل نظر، لأنها تتضمن العديد من الصفقات، ومن المعروف أن الصفقات في بلادنا هي المجال الأكثر شبهة لممارسة الفساد. ويؤكد ذلك أن الصندوق كان قد استعاد بعض الأموال من خلال عمليات تفتيش سابقة في بعض صفقات وزارة الصحة، وما تزال عمليات التفتيش هذه مستمرة، وتتولاها مفتشية الدولة ومحكمة الحسابات."

كنتُ أرى أن نفقات وزارة الصحة هي الأكثر إثارة للشبهات، ولذلك فقد كنتُ من أوائل من طالبوا في اللجنة باستدعاء وزير الصحة لأحد اجتماعاتها الدورية، وقد حضر بالفعل لأحد تلك الاجتماعات.

وقد تزامن حضوره مع نشر تفاصيل نفقات إحدى حملات التلقيح، وقدمتُ حينها ملاحظات على ما بدا لي من اختلالات في تلك النفقات، وهو ما أثار ضجة إعلامية وقتها، جعلت الوزير يعلِّق في المؤتمر الصحفي الموالي للحكومة على تلك الضجة، وقد حمَّلني المسؤولية في إثارتها.

صحيح أن لجنة المتابعة لم تكن لجنة رقابية، ولم يكن بوسع أعضائها القيام بتدقيق محاسبي، إذ تقتصر مهامها على تلقي التقارير وتقديم الملاحظات. لكن الصحيح أيضا أنها مسؤولة أخلاقيا عن أموال هذا الصندوق، ومن واجبها أن تقف ضد أي مظهر من مظاهر الفساد يمس موارده.

لم نكن، في اللجنة، نمتلك في السابق أدلة قاطعة على نهب موارد الصندوق، وإن كانت الشكوك قد ظلت قائمة. أما اليوم، وبعد صدور تقرير محكمة الحسابات، فقد صارت بين أيدينا أدلة واضحة على حدوث اختلاسات حقيقية. ولذلك، فعلينا أن نبذل كل ما نستطيع من جهد حتى يُحاسَب كل من تورط في هذا الفساد.

صحيح أن اللجنة لم تعد نشطة عمليا، حتى وإن لم تُحل رسميا، وكان آخر اجتماع لها في المأمورية الأولى، غير أن ذلك لا يُعفي أعضاءها من التحرك، كلٌّ من موقعه، لضمان محاسبة المسؤولين عن التجاوزات في موارد صندوق كورونا التي كشف عنها التقرير.

وبهذه المناسبة، فإني أدعو زملائي في لجنة المتابعة من ممثلي هيئة العلماء، والأحزاب السياسية، ومؤسسة المعارضة، والنقابات، والنواب، والجاليات، والصحافة إلى توحيد الجهود والقيام بما يلزم القيام. به حتى يُعاقَب كل من شارك في نهب موارد الصندوق.

وبمناسبة الحديث عن موارد الصندوق، أجدِّدُ في هذا المقام تقديم مقترح، كنت قد تقدّمتُ به عدة مرات داخل اللجنة، وهو المقترح المتعلق بتحويل ما تبقى من موارد صندوق كورونا، والتي تبلغ نحو 20 مليار أوقية قديمة، إلى صندوق خاص بالأزمات والكوارث، يتدخل بشكل فوري كلما واجهت البلاد أزمة أو كارثة تتطلب تعبئة موارد استثنائية وسريعة.

تعليق الوزير 👇

حفظ الله موريتانيا...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق