في عالم سريع التحول، لا شيء يختبر وعي الإنسان مثل قدرته على مراجعة مواقفه. فالثبات على الموقف رغم تغيّر الظروف ليس دليل نضج وشجاعة، ومراجعة المواقف قد تكون في بعض الأحيان دليل نضج وعمق في فهم الواقع.
1- أن تتغير مواقفك فذلك أمر مطلوب، أما أن لا تتغير تلك المواقف، فذلك يعني أنك تعاني من خلل ما، فالعالم من حولك يتغير، وأنت يفترض فيك أنك تزداد نضجا ووعيا بما يدور حولك من أحداث، فكيف لا تتغير مواقفك مع تغير الظروف من حولك؟
2- التغير المذموم هو أن تتغير مبادئك أو ما تحسبه ثوابت، أو يكون تغيرك بهدف تحقيق مصلحة خاصة على حساب المصلحة العامة. أما إذا كنتَ تدور مع المصلحة العامة حيث دارت، فأنت صاحب مواقف سليمة، حتى ولو تناقضت ظاهريا مواقفك من فترة إلى أخرى.
3- هل يُعقل مثلًا أن يظل موقف الواحد منا من "الربيع العربي" أو "الصيف العربي" – بلغة أخرى – ثابتا لا يتغير؟
لا يستطيع أي شخص ذي فطرة سليمة إلا أن يقف مع تلك الاحتجاجات الشعبية السلمية التي فجرها الشباب العربي في بداية الربيع العربي، والتي رفعت مطالب مشروعة وملحة في وجه دكتاتوريين ظلمة.
ولكن بعد مآلات الربيع العربي، وبغض النظر عن المسؤول عن الانحرافات التي عرفتها الثورات العربية، سواء كانت تلك الانحرافات وراءها حكومات، أو ثورات مضادة، أو تدخل خارجي، أو عدم نضج قادة تلك الثورات.. مهما كان السبب، فإن النتائج كانت في المجمل كارثية على كل الدول التي عاشت تلك الثورات.
اليوم، لم يعد بإمكان أي شخص سوي ذي فطرة سليمة أن يظل متحمسا للربيع العربي بعد مرور أكثر من عقد من الحروب والفتن وما تسببت فيه من تفكك للدول.
لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ولو عاد بي الزمن إلى الأعوام 2010 و2011 في فترة سلمية تلك الثورات، لاتخذتُ نفس الموقف الداعم لها، أما الآن، وبعد ما شاهدتُ من كوارث في الدول التي وصلتها رياح الربيع العربي، فليس بإمكاني أن أتخذ موقفا إيجابيًا منها، بل بالعكس، فموقفي الآن من الربيع العربي هو في منتهى السلبية.
وفي سياق هذا التغير في المواقف، لا يمكنني أن أتجاهل العنصر الأمني الذي بات حاضرا بقوة في تفكيري. وأنا أتابع منذ فترة ما يجري في مالي، وما يجري حاليا في السودان.
في الماضي، كنتُ أتخذ مواقفي دون أن يكون هاجس الأمن حاضرا بقوة مع أنه كان حاضرا دائما. أما اليوم، وأنا أتابع ما يجري في دول غير مستقرة، وخاصة ما يجري في السودان من فظائع، فلم يعد بإمكاني أن أتبنى أي موقف دون أن أفكر بعمق في انعكاساته على أمن واستقرار بلدي.
فأي موقف قد يؤدي إلى احتمال هز استقرار البلد ولو بنسبة 10%، لن أتخذه، حتى ولو كان هذا الموقف صائبا بنسبة 90%.
إن من أفظع ما شاهدتُ في الفاشر هو أن قاتل المدنيين العُزَّل يسجد شكرًا لله ويُكبّر بعد إطلاق الرصاص.
يقتل بفظاعة ويُسيء إلى الدين بوقاحة، وما علمتُ بجريمة أسوأ من الجمع بين قتل الأبرياء العُزَّل وتشويه الدين الإسلامي.
ختامًا،
هل يمكن القول إنني صاحب مواقف متناقضة لأن موقفي في العام 2025 من الثورات العربية يُناقض تمامًا موقفي منها في الأعوام 2010، 2011، 2012؟
وهل يمكن القول إنني صاحب مواقف متناقضة لأن موقفي اليوم لم يعد كموقفي بالأمس نظرا لقوة حضور عنصر الاستقرار في أي موقف اتخذه اليوم؟
هل أنا صاحب مواقف متناقضة، أم أن الحقيقة هي أن المواقف الناضجة هي التي تتغير بتغير المعطيات، وأن الثابت الوحيد في موقفي هو الحرص على المصلحة العامة وصيانة أمن واستقرار بلدي؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق