يحكى فيما يحكى، أن طباخا حكيما كانت له ابنة واجهت في حياتها
العديد من المشاكل، وكانت كلما خرجت من مشكلة وقعت في مشكلة أخرى أشد عمقا وأكثر تعقيدا.
ذات
يوم شكت البنت لوالدها، من كثرة المصائب والمشاكل التي تواجهها في حياتها، فما كان
من الوالد إلا أن اصطحبها إلى المطبخ، ثم أخذ جزرة وبيضة وملعقة من البن، ووضع كل
ذلك في ماء يغلى على نار هادئة.
بعد مرور
وقت، التفت الطباخ الحكيم إلى ابنته، وطلب منها أن تتأمل ما حدث للجزرة والبيضة
وملعقة البن بعد أن تعرضت لنفس درجات الحرارة العالية.
أخذت
الفتاة تتأمل الجزرة والبيضة وملعقة البن، دون أن تلاحظ شيئا مذكورا، ولم تجد ما
تعلق به، سوى القول بأنها لاحظت أن البيضة أصبحت صلبة من الداخل، ولم تستطع قشرتها
أن تحمي أحها ومحها ( بياضها وصفارها) من تأثيرات الماء المغلي، وأن الجزرة التي
كانت صلبة بعض الشيء أصبحت رخوة بعض الشيء، أما البن فقد اختلط بالماء وامتزج به،
وغير من طعمه ولونه.
قال الطباخ
الحكيم لابنته بأنه رغم تعرض الجزرة والبيضة وحبات البن لنفس درجات الحرارة، أي
لنفس التهديدات والمخاطر الخارجية، إلا أن ردود أفعالها كانت مختلفة ومتباينة،
وهذا هو ما يحدث مع البشر في تعاملهم مع المشاكل.
فالبيضة
والتي قد تبدو لمن يراها من بعيد بأنها ذات قشرة قادرة على حمايتها من الداخل،
سرعان ما تُظهر العكس عندما تواجه حرارة الماء المغلي، فيبدأ داخلها يتأثر، فيزداد
قسوة. هناك الكثير من الناس كالبيضة، فعندما تراه من بعيد تعتقد في البداية بأن له
قشرة من التربية والثقافة والوعي تحميه، ولكن مع أول مواجهة للمخاطر والأزمات فإذا
به يتحول إلي شخص قاسي القلب وربما ناقم على المجتمع.
والجزرة
التي كانت تبدو متماسكة بعض الشيء ودون أن تكون لها قشرة تحميها من المخاطر، فلم
يكن غريبا أن تزداد لينا وضعفا بفعل حرارة الماء المغلي. هناك من الناس من يبدو
للوهلة الأولى متماسكا كالجزرة، ولكن لكونه لا يمتلك أصلا قشرة تحميه، فلا تربية
ولا ثقافة، فليس من الغريب أن يتحول مع أول أزمة أو مشكلة إلى شخص ضعيف غير قادر
على مواجهة ومجابهة الحياة.
أما حبات
البن الهشة في ظاهرها، فإنها تمكنت ـ على العكس من الجزرة والبيضة ـ من التأثير
على الماء المغلي وتغيير طعمه، فأعطته طعما خاصا، أي
أنها تمكنت من أن تؤثر عليه إيجابا بدلا من أن يؤثر عليها سلبا.
إن المشاكل والأزمات التي نواجهها في حياتنا قد
لا تكون سلبية دائما، إذا ما تعاملنا معها كما تتعامل حبات البن مع الماء المغلي،
فهذه المشاكل والأزمات قد تمنحنا فرصا ثمينة لتحقيق المزيد من النجاح، ولكم في سير
العظماء خير الأمثلة، فمن النادر جدا أن تجد شخصا ناجحا ومتميزا في أي مجال من
مجالات الحياة، إلا وقد واجهه الكثير من المشاكل والتحديات في بداية مشواره.
ففي أغلب الأحوال فإن طريق العظماء يكون أوله مليئا بالأشواك، ونهايته مليئة بالورد، في حين أن طرق الفاشلين تُنثر في بدايتها الورود ويبسط في أولها السجاد الأحمر، ولكنها تنتهي دائما بالأشواك والمطبات. وتشير السنة النبوية الشريفة لذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أي الناس أشد بلاءً
قَالَ : ”الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ“. رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن صحيح.
وقال الشافعي عندما سئل أيهما أفضل للعبد:
التمكين أم الابتلاء؟ فأجاب : ”لايمكن حتى يبتلى“ .
كما صح عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ ،
فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا...".
فإذا كان الناس كالمعادن، فإن المعادن تختلف في
ردود أفعالها عند تعرضها للنار، فالذهب يزداد لمعانا وبريقا، والزنك يذوب ويختفي، أما
الزئبق فإنه ينشر أبخرة سامة تضر كل ما حوله.
فمن الناس من هو كالزئبق ينشر أبخرة سامة تضر
الآخرين إذا ما تعرض لمشاكل وأزمات، ومنهم من هو كالزنك قد لا يضر الآخرين ولكنه يذوب
ويختفي ويصبح بلا أي تأثير إيجابي داخل مجتمعه، وقليل من الناس تمنحه المشاكل
والتحديات قدرة أكبر على النجاح، فهو كالذهب يزداد لمعانا وبريقا كلما زادت حرارة
النار التي يتعرض لها. فَلِمَ لا تكن أنت عزيزي القارئ من هذه الطائفة الأخيرة؟
إنه لن يكون بإمكاننا أن نستفيد من الفرص التي
تأتي مع المشاكل، ولا أن نستخرج المنح المخفية في طيات المحن والأزمات، إلا إذا
اقتنعتا بوجود تلك الفرص والمنح في كل ما نواجهه يوميا من مشاكل وتحديات. وكلمة
الأزمة في اللغة الصينية تتكون من رمزين: الرمز الأول يعني الأخطار، أما الرمز الثاني
فهو يعني الفرصة!
إن العظماء حقا والمتميزين حقا هم أولئك الذين
ينقبون عن الفرص والمنح التي تأتي مع المشاكل والتحديات والمحن، ولطلال أبو غزالة
تعبير جميل في هذا المجال، فهو يتحدث دائما عن "نعمة المعاناة"، ويقول
بأن تلك النعمة هي السر وراء نجاحه.
وطلال أبو غزالة لمن لا يعرفه هو صاحب واحدة من
كبريات المؤسسات المحاسبية في العالم، وهو صاحب أكبر مؤسسة في العالم للملكية
الفكرية، وأكبر مؤسسة في العالم لبناء القدرات، ومؤسساته لها أكثر من مائة فرع في
العالم. وقد ترأس أكثر من 14 مؤسسة تابعة للأمم المتحدة، منها فريق الأمم المتحدة
للتعليم؛ الاتحاد الدولي للمحاسبة؛ المنظمة العالمية للملكية الفكرية...إلخ
صاحب هذه النجاحات المتعددة كانت قد رمته سفينة
كلاجئ فلسطيني في قرية لبنانية تسمى الغازية، وكان ذلك منذ ما يزيد على سبعة عقود من
الزمن، وكان عمره حينها عشر سنوات، وكانت أقرب مدرسة من القرية التي استقرت بها
عائلته توجد في صيدا، وتحتاج من أجل
الوصول إليها لساعتين من السير على الأقدام. كان الطفل طلال أبو غزالة يقضي يوميا
أربع ساعات مشيا على الأقدام (ذهابا وإيابا)، وذلك لمدة عشر سنوات قضاها في تلك
المدرسة. تلك المعاناة يصفها طلال أبو غزالة بأنها كانت نعمة، وهو يقول اليوم وبعد
أن تجاوز الثمانين من عمره بأنه إذا كان الأطباء ينصحون برياضة المشي، فبالنسبة له
فإنه يمتلك مخزونا من المشي (أربع ساعات من السير يوميا على الأقدام لعشر سنوات).
وعندما أراد طلال أبو
غزالة أن يواصل دراسته، واجهته معاناة أخرى كان يصفها بأنها نعمة، وهي أن هناك
منحة واحدة تمنحها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا) للطالب الأول في
الثانوية العامة في كل لبنان، فما كان منه إلا أن قرر أن يكون هو الطالب الأول في
لبنان، فكان له ما أراد، وذلك بعد أن اجتهد وأخذ يراجع دروسه ـ بجد وحماس ـ على
مصابيح أعمدة الشوارع، نظرا لغياب الكهرباء في منزل أهله.
لقد اعتبر طلال أبو غزالة المشاكل والتحديات التي
واجهته في حياته نعما وليست نقما، ومكنه ذلك من أن يحول تلك المشاكل والتحديات إلى
فرص لتحقيق المزيد من النجاح والتألق.
إنه بإمكاننا جميعا أن نغير نظرتنا للمشاكل
والتحديات كما فعل طلال أبو غزالة، وكما يفعل غيره من الناجحين المتميزين، وبتغيير
تلك النظرة فإنه سيكون بإمكاننا أن نحول تلك المشاكل والتحديات إلى فرص حقيقية
لتحقيق المزيد من النجاح، ولتغيير تلك النظرة، فإنه علينا أن نعلم بأنه :
1
ـ لا حياة بدون مشاكل وتحديات، ولمن يريد أن يعيش حياة خالية من المشاكل فعليه أن
يذهب إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض. إن أكبر مشكلة يمكن أن نواجهها في حياتنا هي أن
نعتقد بأنه يمكننا أن نعيش حياة خالية من المشاكل والتحديات. قد يُخَيَّلُ للفقير
بأن الغني ليست لديه مشاكل، وقد يُخَيَّلُ للصغير بأن الكبير لا مشاكل لديه، وقد
يُخَيَّلُ للمرأة بأن الرجل لا يعاني من مشاكل، والحقيقة أن لكل هؤلاء مشاكله، حتى
وإن اختلفت تلك المشاكل في طبيعتها ونوعيتها.
2 ـ إن المشاكل تزداد بزيادة العمل وباتساع
دائرة التأثير.
3 ـ إن المشاكل لا تأتي وحيدة بل تصطحب معها
فرصا عديدة، ويتناسب حجم الفرصة مع حجم المشكلة بشكل طردي. نفس الشيء يمكن أن
يُقال عن الأزمات والمحن، ففي بطن كل محنة توجد منحة ..أن تكتشف أنت الفرص والمنح
التي تأتي مع المشاكل والمحن أو لا تكتشفها، أن تستغلها أو لا تستغلها تلك مسألة
أخرى، ولكنها لا تنفي وجود الفرص والمنح في ما نواجهه من مشاكل ومحن.
4 ـ لا توجد مشكلة ستتركك في المكان الذين كنت
فيه من قبل حصولها، فإما أن تذهب بك إلى وضعية أسوأ أو إلى أخرى أفضل. لذا
فالمطلوب ليس معالجة المشكلة من أجل أن تعود إلى الوضعية التي سبقت حدوث تلك المشكلة،
حتى وإن كان ذلك هو للأسف ما يطمح له أغلب الناس. المطلوب هو معالجة المشكلة
بطريقة إبداعية تعيدك إلى وضعية أفضل مما كنتَ عليه قبل حدوث المشكلة.
إضاءة : قبل أن تنزعج من المشكلة التي تقف
ببابك، عليك أولا أن ترحب بالفرصة التي تقف خلفها!!
عزيزي القارئ إذا شعرتَ بعد
قراءة هذا المقال بأن نظرتك إلى المشاكل والأزمات قد تغيرت، وأنك أصبحت قادرا على
اقتناص الفرص التي تأتي مع المشاكل ، فهذا يعني بأن المقال قد حقق الغاية من
كتابته، وإذا لم يتولد لديك ذلك الشعور فهذا يعني بأنه لم تكن هناك أي أهمية
لكتابة هذا المقال. رأيك في ذلك يهمني كثيرا.
هذا هو المقال الثالث من
سلسلة المقالات المتخصصة في تنمية وتطوير الذات، والتي كنتُ قد وعدتُ بكتابتها
ونشرها في وقت سابق . المقال الأول كان عن االموهبة وطرق اكتشافها، والمقال الثاني
كان عن .إدارة الوقت
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ صدق الله
العظيم
ماشاءالله اكثر من رائع
ردحذفهذا المقال يعتبر رائعا ويقدم معلومات واقعية لكيفية تطوير الذات بشكل ممتاز !
ردحذف