السبت، 9 نوفمبر 2019

حتى لا نخسر معركة إصلاح قطاع الصحة



بدءا لابد من القول بأن الحرب التي قرر وزير الصحة أن يخوضها لإصلاح القطاع لن تكون حربه لوحده، فهي حربنا جميعا، أو هكذا يجب أن تكون. ومن المؤكد بأن هذه الحرب لن تكون حربا سهلة، ومن أين لها أن تكون كذلك، وهي تسعى لأن تضع حدا لفوضوية استيراد وتوزيع  وبيع الأدوية، ومن المعروف بأن تلك الفوضوية كانت تدر أرباحا طائلة جدا للوبي الفساد في هذا القطاع .

لا تتوقعوا أبدا من أولئك الذين كانوا يستفيدون من تلك الأرباح الطائلة جدا أن يرفعوا الراية البيضاء عند إطلاق أول رصاصة في هذه الحرب، بل عليكم أن تتوقعوا منهم "بطولات عظيمة" "وتضحيات جسيمة" و"عمليات فدائية نوعية". إنهم قومٌ عُرفوا بالجشع وبتحصيل الأموال الطائلة على جثث الموتى، ولذا فإنه من الطبيعي جدا أن يدافعوا حتى آخر رمق عن تلك الأرباح الطائلة التي كانوا يجنونها من فوضوية استيراد وتوزيع وبيع الأدوية.
هذه الحرب ستكون حربا شرسة جدا، ذلك هو ما علينا أن نتوقعه، وهذه الحرب يجب أن لا نخسرها، وذلك هو ما علينا أن نخطط له بشكل جيد.
ولكي لا نخسر هذه "الحرب المقدسة" علينا أن نخطط لها بشكل جيد، ولكي نخطط لها بشكل جيد علينا أن نتحدث عنها بشكل علمي. إن قياس فرص نجاح أي عملية تغيير، ومهما كانت الظاهرة المراد تغييرها أو القضاء عليها، يتطلب منا أن نتوقف مع قانون التغيير الذي يقول بأن : 
C = A x B x D > X
إن هذا القانون هو الذي يحدد لنا فرص نجاح التغيير، أي تغيير، وسواء كان ذلك التغيير تغييرا فرديا، أو جماعيا، أو مؤسسيا، أو حكوميا.
يقول هذا القانون بأن فرص نجاح التغيير والتي يرمز لها بــ (C) تساوي حاصل ضرب درجة الاستياء من الظاهرة المراد تغييرها (A) في معامل وضوح الرؤية (B) في مستوى الانجاز خلال الأشهر الأولى (D) ويقول القانون بأن هذا الناتج يجب أن يكون أكبر من (X) والتي ترمز لكلفة التغيير.
والآن دعونا نتوقف مع هذه العناصر عنصرا، عنصرا:
(C) : ترمز لمعامل فرصة التغيير  
(A) : تعني درجة الاستياء من الظاهرة المراد تغييرها، فمن المعروف بأنه كلما كانت درجة الاستياء من ظاهرة معينة قوية، فإن ذلك سيجعل المعنيين أكثر ميلا وأشد تحمسا لتغييرها أو القضاء عليها. لا خلاف على أن هناك استياءً عارما لدى الجميع من رداءة الخدمات الصحية، ومن انتشار الأدوية المزورة أو المستوردة بطرق غير مناسبة، وكذلك من ارتفاع وتضارب أسعار تلك الأدوية. لقد انهارت الثقة لدى المرضى في المستشفيات الموريتانية وفي الدواء الذي يباع في صيدلياتنا، ويكفي هنا أن نلفت الانتباه إلى ظاهرة ذات دلالة، وهي أن أطر موريتانيا ورجال أعمالها لا يتعالجون  ولا يموتون إلا في المستشفيات السنغالية أو التونسية أو المغربية أو الفرنسية، ولا يستثنى من ذلك إلا من أدركه الموت بغتة على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ومن قبل أن يذهب إلى الخارج للعلاج، فكان سبب موته حادث سير أو أزمة صحية مفاجئة. هذا عن الميسورين في هذه البلاد أما الفقراء فلا يمنعهم من الموت خارج بلادهم إلا أنهم لا يملكون نفقات العلاج في مستشفيات الدول المجاورة.    
في الخلاصة يمكن القول بأن درجة الاستياء من تردي الخدمات الصحية عالية جدا، واعتقد بأن المدونين ـ ومن خلال حملتهم التي أطلقوها خلال الأيام والأسابيع الماضية ـ  قد لعبوا دورا بارزا في خلق استياء عارم ضد ظاهرة الفوضوية التي يشهدها قطاع الأدوية، ومثل ذلك الاستياء العارم يمكن أن يستغل لخلق رأي عام وطني داعم لوزير الصحة في حربه لإصلاح القطاع.
(B) : وهي تعني  معامل مستوى وضوح الرؤية، وسنتوقف مع هذا العامل في فقرة قادمة.
(D) : تعني مستوى الإنجاز في الأشهر الأولى، وفي اعتقادي بأن وزير الصحة قد استطاع خلال المائة اليوم الأولى بأن يُظهر بأنه قادر على أن يخوض حربا جدية لإصلاح القطاع.
(X) : ترمز لكلفة التغيير، ولكل تغيير كلفة يجب أن تدفع مسبقا، فهذه الكلفة تدفع من قبل الحصول على نتائج التغيير، بينما كلفة عدم التغيير لا تدفع إلا مؤجلة. وهذا هو ما يجعل بعض المستفيدين من التغيير يتعايشون مع عدم التغيير، ويقاومون ـ بالتالي ـ عمليات التغيير التي ستكون في نهاية المطاف لصالحهم.
 يبقى أن أقول بأن عملية الضرب لا الجمع هي التي تربط بين هذه العناصر الثلاثة التي جاءت في قانون التغيير، ويعني هذا الكلام من الناحية الرياضية بأنه عندما يكون أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة يساوي صفرا ، فإن النتيجة النهائية ستكون صفرا، حتى ولو كانت بقية العناصر في أعلى مستوى.
ما أريد تبيانه هنا هو أنه إذا كان مستوى الاستياء من الظاهرة المراد تغييرها قد بلغ أعلى الدرجات، ومستوى الإنجاز في الأشهر الأولى كان عاليا، فإن النتيجة ستكون في مجملها صفرا، إذا كان معامل وضوح الرؤية يساوي صفرا، وستكون هذه النتيجة منخفضة جدا إذا كان وضوح الرؤية منخفضا جدا.
وحتى نرفع من مستوى معامل وضوح الرؤية في هذه الحرب المعلنة لإصلاح قطاع الصحة، فإنه علينا أن نأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
1 ـ لا يكفي فقط أن تكون الرؤية واضحة لمعالي وزير الصحة، والذي هو بالمناسبة طبيب ويعرف القطاع جيدا، ومن المؤكد بأنه يمتلك معلومات عن هذا الملف قد لا يمتلكها غيره من المتحمسين لهذه الحرب من خارج القطاع، والذين يجب التعويل عليهم في هذه الحرب. من هنا فإن الوزير ملزم ـ إذا ما أراد أن يكسب هذه الحرب ـ بإزالة أي التباس قد يحصل، وبتقديم ما يكفي من معلومات، حتى تكون الرؤية واضحة لكل أولئك الذين يُعَوَّل عليهم للمشاركة في هذه الحرب.
وفي اعتقادي الشخصي فإن أهم جهة يمكن أن يعول عليها في هذه الحرب هم المدونون، وذلك لأنهم هم الأقدر على خلق رأي عام قوي داعم لهذه الحرب. هذا فضلا عن كونهم على أتم الاستعداد لأن يكونوا في الصفوف الأمامية في هذه الحرب، وقد عبروا عن ذلك من خلال حساباتهم وصفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه القناعة هي التي جعلتني أتقدم بدعوة  باسم "صالون المدونين" في يوم 17 أكتوبر 2019 إلى معالي وزير الصحة ليكون ضيفا على "صالون المدونين" في أول حلقة من حلقات موسمه الثالث، وذلك من أجل أن يقدم رؤيته، وليجيب في الوقت نفسه على استفسارات و أسئلة المدونين المتعلقة بالموضوع، ولا شك أن ذلك سيجعل المدونين ينخرطون بحماس أكبر في هذه الحرب التي لابد من كسبها. حتى الآن لم تجد دعوة "صالون المدونين" أي رد من الوزارة.
2ـ لكسب هذه الحرب فإنه لابد من ترتيب الأولويات، وهناك من يرى بأن فرض احترام المسافة القانونية بين الصيدليات وإبعاد الصيدليات عن المستشفيات ليس بأولوية في مثل هذا الوقت بالذات، وربما يكون ذلك الرأي غير صحيح، وناتج عن غياب المعلومات الكافية، وهنا يظهر أيضا مدى أهمية المسارعة بتقديم كل المعلومات ذات الصلة بالملف.
يخشى أصحاب هذا الرأي من أن يؤدي إغلاق عدد كبير من الصيدليات إلى خلق حالة تذمر واسعة داخل قطاع الصيدلة، وإلى حصول أزمة في الدواء الشيء الذي سيؤدي حتما إلى خسارة هذه الحرب في وقت مبكر. ويطرح هؤلاء أسئلة من قبيل: من سيوفر الدواء للمرضى في حالة إغلاق عدد كبير من الصيدليات الخصوصية، خاصة وأننا نعلم بأن صيدليات المستشفيات غير قادرة على ذلك؟ هل وُضِعت خطة بديلة لتوفير الدواء بجودة عالية وبسعر مناسب في حالة إغلاق عدد كبير من الصيدليات؟
إذا كانت هناك خطة بديلة فهي بحاجة لأن يكشف عنها للرأي العام، وإذا لم تكن هناك خطة بديلة فسيكون البدء بإبعاد الصيدليات عن المستشفيات، وفرض مسافة 200 متر بين كل صيدليتين من الأخطاء القاتلة والتي ستؤدي حتما إلى خسارة هذه الحرب .
3 ـ من الأمور التي يجب لفت الانتباه إليها لكي تكون الرؤية أكثر وضوحا هي أن معركة إصلاح قطاع الصحة التي سيقودها الوزير وبدعم  من جمهور واسع من خارج القطاع ستحدد مسار الإصلاح في هذا العهد، فإن نجح الوزير في معركة الإصلاح، فإن ذلك سيشجع وزراء آخرين لخوض حروب إصلاح داخل قطاعاتهم، وإن فشل الوزير ـ لا قدر الله ـ فإن ذلك سيصيب الجمهور الداعم للوزير بإحباط شديد، كما أن ذلك الفشل سينعكس سلبا على بقية القطاعات، وسيجعل كل وزير كان يفكر في إعلان حرب لإصلاح قطاعه يأخذ هدنة إلى أجل غير مسمى، بل ويعلن عن الاستسلام حتى من قبل إعلان حرب الإصلاح في قطاعه.
وتبقى جزئية هامة من المهم الإشارة إليها، وهي أن هذه الجهود الإصلاحية التي يقوم بها وزير الصحة تأتي في بداية عهد جديد ما زالت صورته تتشكل في أذهان المواطنين، ولذا فقد يكون من المهم جدا تنفيذ البرنامج الإصلاحي للوزير بقوة وحزم، ولكن من دون خلق أزمات قد تربك قطاع الصحة، وهو القطاع الذي سيبقى من أهم القطاعات الحيوية، ذات الصلة المباشرة بالمواطن.   
حفظ الله موريتانيا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق