الخميس، 20 ديسمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة 12


بعد تخرجي من قسم الاقتصاد شعبة التخطيط في العام 1989، كان أول شيء عملته هو أني وليت وجهي شطر الوكالة الأمريكية للتنمية طلبا لمنحة دراسية من أجل إكمال دراستي العليا في أمريكا. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أحاول فيها أن أذهب إلى أمريكا لغرض الدراسة، وكانت أيضا تلك هي المرة الثانية التي تخذلني فيها أمريكا.
في البداية اعتقدت أن الوكالة الأمريكية للتنمية ستوفر لي منحة، خاصة بعد أن طلبت مني أن أرفق بملفي بعدد من التزكيات الموقعة من طرف بعض أساتذتي، وهو ما قمت به، ولكن في نهاية المطاف تم رفض الملف.
ولقد حزنت لذلك الرفض حزنا عظيما، ولكني بعد ذلك بسنوات سأكتشف أنه قد كان في ذلك الرفض الكثير من المنح التي خبأها الله لي في ما بدا لي حينها بأنه كان محنة عظيمة.

والحقيقة أن اكتشاف المنح فيما قد يُخَيَّل إليَّ في ظاهره بأنه محن، لم يقتصر فقط على تلك الحالة، بل بالعكس، فقد أصبح التنقيب عن المنح في كل مصيبة أو أزمة  أو مشكلة تواجهني في حياتي أمرا عاديا بالنسبة لي. ولولا تلك العادة التي اكتسبتها بفضل ما واجهت من محن لما استطعت أن أواجه هذه الحياة، خاصة في العقدين الأخيرين حينما أماطت لي اللثام ـ وفي أكثر من مرة ـ عن وجهها العبوس، وكشرت لي عن أنيابها الحادة، وعاركتني عراكا خشنا، وكأنها بذلك أرادت أن تقول لي بأنه ما عاد في قلبها مثقال ذرة من شفقة.
ولقد طورت هذا الأسلوب، أي أسلوب التنقيب عن المنح في طيات المحن، حتى أصبح أول سؤال يتبادر إلى ذهني كلما واجهتني مشكلة طارئة : ما المنحة التي تخبئها لي هذه المحنة؟ وكنت في بعض الأحيان أجد جوابا سريعا على ذلك السؤال، ولكني كنت أفشل في أحيان أخرى في الحصول على جواب.
كنت وسأظل مقتنعا بأن عقلي القاصر جدا لن يستطيع أن يكتشف كل المنح التي تختبئ في المشاكل والأزمات التي تواجهني من حين لآخر. ولكن إيماني بأن الله لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا وفيه خير، هو الذي يجعلني أومن يقينا بوجود تلك المنح، حتى وإن فشلت في اكتشافها، وفي تحديد طبيعتها.
ولا يعني ذلك الإيمان أني كنت أتعامل دائما مع الأزمات والمشاكل التي تواجهني بشكل مثالي، فما أنا في النهاية إلا كصاحب القصة الشهيرة الذي تحطمت به السفينة التي كان يركبها، فمات جميع الركاب، ونجا هو بعد إن اعتلى لوحا خشبيا من صفائح السفينة المحطمة، فأوصله ذلك اللوح إلى جزيرة نائية لم يستوطنها بشر.
ظل الراكب الناجي مع طلوع شمس كل يوم جديد يذهب إلى جبل في الجزيرة ليتسلقه، وكان كلما وصل إلى قمة الجبل أخذ يقلب بصره إلى كل الجهات بحثا عن سفينة قد تلوح في الأفق، وكان في بعض الأحيان يصرخ بأعلى صوته عسى أن يُسمع صراخه.
وبعد مرور أيام بدأ اليأس يتسلل إلى نفس الراكب الناجي فقرر أن يستسلم للأمر الواقع، وما كان منه إلا أن أخذ يقطع الأشجار ليبني بجذوعها وأوراقها كوخا يقيه  البرد القارس، ويحميه من حرارة شمس تلك الجزيرة النائية.
أكمل الراكب بناء كوخه، وفي يوم من الأيام وبعد أن أوقد نارا أمام الكوخ، ذهب إلى الجبل، وبينما هو يلتفت إلى كل الجهات بحثا عن منقذ شاهد كوخه وقد التهمته النيران، فما كان منه إلا أن صرخ والألم يعتصره : حتى الكوخ لم تبقه لي يا ربي!
في تلك اللحظة، وهذا ما يحدث معي كثيرا، نسيَّ هذا الناجي الوحيد من السفينة الغارقة بأنه يعيش عمرا إضافيا، ونسيَّ أن ربه، والذي يمكن أن يميته في أي وقت شاء، كان بإمكانه أن يميته مع بقية ركاب السفينة، كما كان بإمكانه أن يميتني أنا في تلك الليلة التي "مت" فيها. هكذا نحن دائما، فكلما واجهتنا مشكلة ما نسينا كل النعم التي مرت بنا من قبلها.
إنه لؤم الإنسان، وإنها حقارته، وإن في نفسي من اللؤم شيء كثير، ولكن ربي ستر ذلك اللؤم وأخفاه عنكم، بل إنه زيادة على ذلك أمرني ـ وهذه نعمة قل من يستشعرها ـ بأن استره عنكم، وأن لا أجاهر به، وجعل المجاهرة به معصية، لذلك فلا تتوقعوا مني إطلاقا أن أحدثكم في هذه اليوميات عما أختزن بين أضلعي من لؤم.
مرت ساعات حزينة بالراكب الناجي بعد اشتعال كوخه، ولكنه في الأخير استسلم للنوم، ولم يستيقظ إلا على قبطان سفينة يوقظه، وكانت تلك مفاجأة كبيرة له، وما كان منه بعد أن فرك عينيه وتأكد بأنه لا يعيش في تلك اللحظة أضغاث أحلام، إلا أن سأل القبطان :
ـ ولكن كيف وصلت إلى هنا؟
أجاب القبطان :
ـ لقد شاهدت ألسنة النيران تصعد إلى السماء، فعلمت بأن هناك من يستغيث، فما كان مني إلا أن غيرت اتجاه السفينة في اتجاه هذه الجزيرة التي ما كنت أعتقد أنها مأهولة.
لقد كان اشتعال الكوخ بمثابة نداء استغاثة تم إطلاقه بدون علم الراكب الناجي، فهو لم يكن يعلم أن إشعال النيران وإصدار الدخان يعدان من أهم نداءات الاستغاثة التي يلجأ إليها المنكوبون في البحار، ولو كان يعلم ذلك لبادر إلى إشعال كوخه بدلا من الحزن على اشتعاله.
وما حصل مع الراكب الناجي هو ـ بالضبط ـ ما يحصل معنا جميعا، ولكن بصور مختلفة، فبعد كل مشكلة هناك ألسنة نيران ودخان يرتفع، وبعد كل دخان يرتفع تعدل سفينة ما اتجاهها لتنقذنا. قد تظهر لنا تلك السفينة مباشرة بعد ارتفاع الدخان، وقد تتأخر قليلا، قد نبصرها، وقد لا نبصرها، ولكن المؤكد أنها ستتحرك في اتجاه أي دخان يرتفع، والسفينة هنا ترمز لكل خير مختبئ في مشكلة، ومن المهم أن نعلم يقينا أنه لا توجد مشكلة مهما كانت طبيعتها خالية تماما من أي خير.
بهذه العقلية أحاول دائما أن أتعامل مع المشاكل والأزمات التي تواجهني، ولقد نفعني ذلك كثيرا في إدارة معاركي مع الحياة، وساعدني في ابتداع أساليب دفاعية لمواجهة أسلحة الحياة الباطشة والمتوحشة، والتي كانت كثيرا ما تشهرها في وجهي، وتخصني بها دون غيري، وكأن بيني وبينها ثأر قديم.
لم أتمكن من الحصول على منحة لإكمال دراستي لذلك قررت أن أبحث عن وظيفة، وكانت أول مسابقة أشارك فيها بعد تخرجي هي مسابقة اكتتاب مفوضي الشرطة، وهي المسابقة التي تم إجراؤها في العام 1990.
ولقد تحمست كثيرا لتلك المسابقة، وربما يعود ذلك إلى أنني كنت مدمنا على قراءة القصص البوليسية، وكان يُخَيَّل إليَّ أني عندما أصبح مفوض شرطة فسيكون من السهل بالنسبة لي أن أكتشف كل المجرمين في المدينة أو المقاطعة التي سأكلف بتوفير الأمن فيها تماما كما يكتشف بطل الرواية المجرمين في أي رواية بوليسية.
كنت أعتقد في تلك المرحلة من عمري، أنه لابد لتوفير الأمن في البلاد من رجال أكفاء مثلي، تتطابق شخصياتهم وأساليبهم مع شخصيات وأساليب أبطال الروايات البوليسية. يشُكون في أي شخص قد يصادفهم بعد حصول أي جريمة، أو حتى من قبل حدوثها، ولهم من الذكاء والشجاعة ما يكفي لإلقاء القبض على عتاة المجرمين. ولقد  كنت أتوهم وجود تلك الصفات في "شخصي الكريم"، لذلك فقد تمنيت فعلا أن أنجح في تلك المسابقة حتى أثبت قدراتي الهائلة في مطاردة عتاة المجرمين. وقد دفعتني تلك الرغبة لدراسة مادة القانون الجنائي، باعتبارها كانت تمثل المادة الرئيسية في المسابقة، وذلك حتى أضمن نجاحي في تلك المسابقة.
كنت واثقا من النجاح، خاصة بعد أن علمت بأن رجلا مسنا من أقرب المقربين لمدير الأمن حينها، كان قد اتصل به ـ ودون أن أطلب منه ذلك ـ وأوصاه بي وباثنين آخرين من المشاركين في المسابقة، وعلمت أيضا بأن مدير الأمن كان قد التزم للوسيط بأنه سيعمل على نجاحنا نحن الثلاثة.
كنا نحن الثلاثة من أقارب مدير الأمن، ومع ذلك فلم ينجح أي واحد منا، وقد كان ذلك غريبا، خاصة بالنسبة لي أنا الذي حضَّرت للمسابقة بشكل جيد، ولم أكن أحتاج من الوساطة إلا للقدر الذي  يكفي لحماية نتائجي في المسابقة من أي تلاعب قد تتعرض له إرضاء لوساطة أخرى.
ولقد حزنت لعدم نجاحي في تلك المسابقة، ولكني بعد ذلك بسنوات أدركت بأن ذلك كان فيه خير كثير، فأن تكون مفوض شرطة في ذلك العهد فذلك يعني بأنك ستظلم حتما الكثير من الأبرياء، خاصة إذا ما كانت حصانتك ومناعتك التي يمكن أن تحميك من ممارسة الظلم ضعيفة جدا، كما كان الحال بالنسبة لي في تلك المرحلة من عمري.
وبالتأكيد فلم تكن تلك المسابقة شفافة، وكدليل على ذلك فإن هناك مرشحا نجح في تلك المسابقة، وأصبح مفوض شرطة فيما بعد، وتقلد مناصب حساسة، لم يكن ملفه الذي ترشح به مستوفيا لشروط المسابقة.
وقد قيل حينها إن مفوضا كان في ذلك الوقت يشغل مدير إحدى الإدارات الهامة في إدارة الأمن، هو الذي فرض ذلك الملف الناقص، وهو الذي كان وراء نجاح صاحب ذلك الملف، كما كان وراء نجاح الكثيرين ممن التحقوا بقطاع الشرطة في تلك الحقبة من الزمن.
لم أنجح في تلك المسابقة رغم صلة قرابة تربطني بمدير الأمن حينها، والذي سيصبح فيما بعد رئيسا للدولة، ومع أني أعتز بصلة القرابة تلك وأقدرها، إلا أني مع ذلك لم أحاول في أي يوم من الأيام أن أخرجها من إطارها الاجتماعي، أو أن أستغلها، لا معه، ولا مع ابن عمه الذي سيصبح رئيسا فيما بعد. بل إني فوق ذلك لم أحاول أن أستخدمها لرفع ما تعرضت له من ظلم في فترتي رئاستهما، الشيء الذي جعل بعض معارفي يلومني كثيرا على ذلك، ويعتبر بأني قسوت على نفسي كثيرا، وظلمتها ظلما كبيرا.
لم أكن ممن يستغل علاقاته الاجتماعية لتحقيق مصالح خاصة، ولو أني كنت من أولئك الذين يستغلون تلك العلاقات لكان حالي يختلف كثيرا عما هو عليه الآن.
شاركت بعد تلك المسابقة في مسابقات أخرى، لم أحضر لأي منها بفعل الإحباط الذي حصل لي بعد مسابقة الشرطة، ولم أبحث عن وساطة لتضمن لي النجاح فيها، لذلك فقد فشلت في النجاح في كل تلك المسابقات. وبعد ذلك الفشل المتلاحق بدأت أجرب حظي في الأعمال الحرة، فتدربت في واحد من أشهر مكاتب الوساطة المعتمدة لدى الجمارك (اترانزيت)، وبعد التدريب، وبمساعدة قريب لي، وهو بمثابة أخ أكبر، فتحت مكتبا معتمدا لدى الجمارك في مدينة روصو.
ولقد حاول قريبي ذلك أن يجعل مني رجل أعمال، ولكنه فشل في ذلك فشلا ذريعا. والحقيقة أني لم أكن أصلح لأكون رجل أعمال، هذا ما اكتشفته بعد ذلك، ولذلك أسباب عديدة، سأترك بسطها لواحدة من صفحات الجزء الثاني من هذه اليوميات.
بدأ المكتب ـ ومنذ أيامه الأولى ـ  يدر دخلا لا بأس به، ولكني مع ذلك لم أكن مرتاحا لتلك المهنة، لأن ممارستها كانت تفرض تقديم رشوة في كل قسم من أقسام مكتب الجمارك التي يمر بها التصريح  الُمعَد لتخليص البضاعة التي ستتم جمركتها.
وكان النجاح في تلك المهنة، يعتمد في الأساس، على قدرة الوسيط على القيام ببعض الحيل والمغالطات في إعداد التصاريح، اعتمادا على الكتاب الموحد للتعرفة الجمركية وعلى قانون المالية، وكان ذلك يتطلب من الوسيط أن يكون قد اكتسب خبرة، ولديه معلومات كافية في المجال، ولم تكن تلك هي مشكلتي، لأني كنت قد تدربت في واحد من أشهر مكاتب الوساطة في البلد، وتحت إشراف واحد من أشهر الوسطاء، ومن أكثرهم خبرة ومهارة في هذا المجال.
كانت مشكلتي تكمن في أني لم أكن مرتاحا لتقديم تلك الرشا التي وجدتني بحكم تلك المهنة مجبرا على تقديمها لعناصر الجمارك، ولذلك فإني لم أستطع أن أستمر في تلك المهنة، رغم أن كل عوامل النجاح فيها كانت متوفرة لدي.
ويبقى الفساد في تلك المهنة من أقوى الأدلة على غباء القائمين على أمورنا، والذين يصرون دائما على إصدار قوانين لا فائدة من ورائها سوى أنها تشجع على تفشي الرشوة والفساد. فلو طبقت القوانين المتعلقة بجمركة البضائع، وبنصها، لحصل واحد من أمرين، فإما أن يتوقف التجار نهائيا عن الاستيراد، أو يتوقف المستهلكون عن الاستهلاك إذا ما استمر التجار في الاستيراد، لأن الأسعار حينها ستصل إلى مستويات لا تطاق. ولكي يتواصل الاستيراد فما كان من المستوردين ورجال الجمارك إلا أن تمالؤوا على خزينة الدولة، فخصصوا لها نصيبا قليلا مقابل رشا معتبرة للجمارك، وبذلك تظل عملية الاستيراد مستمرة، ويظل بالإمكان بيع تلك البضائع بأسعار أقل من تلك الأسعار التي كانت ستباع بها، لو أن القانون تم تطبيقه بشكل دقيق.
إن هذه المهنة التي تدر أرباحا  طائلة، وبلا مشقة، والتي تحكمها قوانين غبية كان لا بد لها أن تكون من أكثر المهن فسادا وإفسادا للناس. وكمثال بسيط على ما يحدث من فساد، فسأكتفي بأن أحدثكم عن قصة سياسي في هذا البلد كان معارضا لفترة من الزمن، ولكنه بعد ذلك أعلن توبته من المعارضة، وانضم إلى الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، فمنحه النظام الحاكم مقابل توبته إعفاءً من الرسوم الجمركية لكل المواد الأولية التي سيحتاجها مصنعه الوهمي لإنتاج العلف الحيواني، ذلك المصنع الذي لم يكن له أي وجود إلا في الملف الذي تم تقديمه لمجلس الوزراء من أجل الحصول على إعفاء من الرسوم الجمركية.
حمل المعارض ملف الإعفاء، وقدِم إلينا في روصو، ثم اتصل بالتجار الذين يستوردون العلف الحيواني من دولة السنغال، وطلب منهم أن لا يستوردوا منذ ذلك الوقت علفا إلا باسمه هو، وذلك لكي يعفيه من الرسوم الجمركية على أساس أنه مواد أولية استوردها المصنع الوهمي للمعارض التائب. وكان ذلك يتم ـ وبطبيعة الحال ـ مقابل مبالغ مالية يتقاسمها هذا المعارض مع الجمركيين العاملين في تلك الفترة في مكتب  جمارك روصو.
 حُرمت خزينة الدولة من الرسوم المفروضة على العلف الحيواني المستورد من السنغال، ولعام كامل، وذهبت كل تلك الأموال إلى جيب معارض تائب، كان أهل روصو يقولون إنه هو أيضا لم يستفد من تلك الأموال، بل إنه كان يسلمها كاملة غير منقوصة لزوجته التي كانت تنفقها ذات الشمال وذات الشمال، في سهرات باذخة، وفي أسفار بلا أول ولا آخر حسب ما كان يروى الناس في ذلك الوقت.
أغلقتُ مكتبي، وعدت إلى العاصمة، وكنت أحن دائما إلى تلك المهنة كلما وجدتني أتخبط في أزمة مالية خانقة، وكثيرا ما كنت أجد نفسي أتخبط في أزمات مالية خانقة، ولكن رحمة ربي كانت تتداركني دائما فتحول بيني والعودة لتلك المهنة الفاسدة والمفسدة.
 وبعد ذلك بفترة، وتحديدا في العام 1996،  وبتمويل من نفس القريب الأخ  فتحت محلا في سوق لكصر لبيع العجلات المستخدمة، وكان ذلك النوع من التجارة لا يزال واعدا في تلك الفترة من الزمن، فالمحلات المتخصصة في بيع العجلات المستخدمة كانت حينها قليلة جدا.
كان من المفترض أن أذهب إلى بلجيكا لاستيراد البضاعة، ولكن أحد التجار المشتغلين في المجال اتصل بقريبي وأقترح عليه أن أترك السفر إلى بلجيكا، لأن ذلك سيزيد من أعباء المشروع الذي لا يزال في بدايته، وأنه هو سيتكفل بشراء البضاعة وتوصيلها، وسيظهر فيما بعد أنه كانت لديه مآرب أخرى في اقتراحه ذاك.
عملت أنا وقريبي بالاقتراح فكانت النتيجة أني وجدت نفسي في محل كبير مليء بالعجلات المستعملة، 70% منها كانت عبارة عن عجلات لسيارات رياضية، ولسيارات سباق، غير مستخدمة في بلدنا، وكان ذلك يعني ـ وبلغة السوق الفصيحة ـ أني سأكون على موعد، وفي وقت قريب، مع خسارة كبيرة، ولم تتخلف تلك الخسارة عن موعدها.
بعد تلك التجربة الفاشلة تحولت إلى قطاع آخر، كان في ذلك الوقت لا يزال قطاعا بكرا لم يكتشف بعد. ولقد كنت أحب دائما أن أجرب حظي في أنشطة بكر، وربما كان ذلك لإشباع غرور خفي، وربما كان بسبب كرهي الشديد للتقليد وتكرار تجارب الآخرين. قررت أنا وشريك لي كان مجرد خريج مثلي، لا يزال يبحث عن وظيفة لائقة، قررنا أن نفتح محلا لبيع الحلويات، وكان لا يوجد ـ حسب علمي ـ  في العاصمة في ذلك الوقت إلا  محلان متخصصان في صناعة الحلويات : حلويات الأمراء، ومحل آخر مملوك لأجانب.
كان في مشروعنا للحلويات الكثير من الإبداع، وخاصة في طريقة تجسيده ميدانيا، ذلك أن الاستثمار في ذلك النوع من المشاريع كان مكلفا، فالأفران والخلاطات الكهربائية، وغير ذلك من الآلات التي يحتاجها أي مصنع للحلويات كانت تكلف لوحدها  الملايين من الأوقية.
أما نحن ففتحنا محلا بكلفة لا تصل إلى مائتي ألف أوقية، واستعضنا عن الفرن الكهربائي الذي يكلف الملايين، بفرن مصنوع محليا، يشتغل بالغاز، صنعه لنا سوري كان يقيم حينها بالعاصمة نواكشوط بسعر لا يتجاوز الثمانين ألف أوقية. وكان ذلك الفرن ينتج حلويات لا تختلف من حيث الجودة عن الحلويات التي ينتجها أكبر محل في العاصمة لإنتاج الحلويات، وكان الفرن قادرا على إنتاج كميات تجارية، يمكن أن تتجاوز الألف قطعة في اليوم الواحد.
أجرنا محلا خلف ثانوية البنات، وبدأنا نشتغل، ولكن مادة الزبدة استقبلتنا بفتور شديد، بل إنها كادت أن تختفي نهائيا من السوق أياما قليلة بعد انطلاق مشروعنا الرائد، فأرتفع سعرها من 6000 أوقية للكيس الواحد إلى 11000 أوقية للكيس.
ومن المعروف بأن الزبدة والزيت والسكر هي ثلاث مواد تستهلك بشكل رهيب في أي محل للحلويات.
بدأنا ننتج، وكنا نعتقد بأن أزمة الزبدة ستجد حلا، ولكن ذلك لم يحدث، فكنا نبيع منتجاتنا بخسارة، وأخذت الديون تتراكم (الإيجار، العمال)، ولم نستطع أن نسدد أوقية واحدة من ثمن السيارة التي كنت قد أخذتها بالدين من عند صديق لي لكي نستخدمها في توزيع منتجاتنا على البقالات.
ظلت الأمور تسير من سيىء إلى أسوأ، ولأني كنت هو المسؤول قانونيا وأخلاقيا عن كل الديون، ولأني لا أطيق الدائنين، فقد قررت أن أغلق المحل، وأن أبحث عن نشاط آخر أسدد من خلاله ما تراكم عليَّ من ديون.
وبعد إغلاق المحل، عادت الزبدة إلى سعرها الطبيعي، وكأنها ما اختفت من السوق إلا لتطردني من ذلك النشاط الواعد، وأنا مثقل بديون لا أستطيع سدادها.
بعد ذلك بفترة وجيزة شاركت صديقا آخر لي في إطلاق أول جريدة أسبوعية  متخصصة في الإعلانات في موريتانيا، وكانت تحمل اسم:(Annonces –Journal) .
كانت الجريدة توزع مجانا، وكانت تعتمد على ما يدفعه المعلنون والمروجون، ولم تكن تملك مقرا، وكنا نعتمد على مكتب صديق، وهو أيضا ممن شارك في تأسيسها.
انطلقت الجريدة بلا رأسمال، وكنا قبل صدور أي عدد، نذهب إلى أصحاب المؤسسات والمحلات التجارية، ونخبرهم بقرب صدور العدد، ونعرض عليهم الخدمات التي تقدمها الجريدة.
كان ترخيص الجريدة باسم صديق لي خريج من فرنسا، وكان صديقي ذلك من الذين لا يجدون أي صعوبة في العمل في ظروف بالغة السوء، وكنت أتقاسم معه تلك الصفة، ولكنه كان يزيد عليَّ بقدرته العجيبة على أن يضحك ملء فيه حتى في الأوقات العصيبة والبالغة التعقيد.
ولا زلت أتذكر حتى الآن أول خمسمائة أوقية حصلت عليها الجريدة، وكانت مقدمة من مطعم المدينة، وهو مطعم كان في العام 2000 يوجد غير بعيد من العيادة المجمعة، وربما يكون مسير المطعم قد أعطاها لنا شفقة بنا لا مقابل إعلان في جريدة يقول أصحابها بأنها ستوزع مجانا، وهو ما كان يثير استغراب أصحاب المؤسسات والمحلات التجارية الذين اتصلنا بهم في ذلك الوقت.
كانت عملية توزيع الجريدة شاقة جدا، وكانت تتم مشيا على الأقدام، وكان يتولاها الأعضاء المؤسسون للجريدة، لأنه لم يكن للجريدة لا سكرتير، ولا بواب،  ولا مقر خاص بها، فكان كل واحد منا يأخذ عشرات النسخ، يوم صدور الجريدة، ويتوجه بها إلى منطقة معينة، ليترك نسخة في كل مؤسسة أو في كل محل تجاري كبير يصادفه في طريقه.
وحسب ما أذكر الآن فقد كانت كلفة طباعة وسحب ألف نسخة من الجريدة في حدود 70.000 أوقية، وكان هذا المبلغ يتحصل تقريبا من الإعلانات والترويج، ولكنه لم يكن يتحصل إلا بعد صدور العدد، وبعد أن تصل نسخة لكل معلن ليرى إعلانه منشورا.
وتمكنا من إصدار خمسة أعداد، ولكننا توقفنا بعد ذلك لأسباب عديدة، لعل من أهمها الفتور الذي أصابنا بعد فشل توقيع الجريدة لاتفاقية مع الشرطة، كان قد وصل الإعداد لها إلى مراحل متقدمة جدا.
وكانت الاتفاقية تقضي بأن تقوم مفوضيات الشرطة بالإعلان في الجريدة عن كل الأوراق والمستندات والوثائق  الرسمية الضائعة على أصحابها والموجودة لدى تلك المفوضيات، مع إمكانية الإعلان ـ في وقت لاحق ـ عن كل المسروقات التي استعادتها الشرطة من اللصوص، وذلك مقابل رسوم مالية تفرض على صاحب الوثيقة أو المسروقات المستعادة، على أن تتقاسم الجريدة  المبالغ المتحصلة من هذه الخدمة مع مفوضيات الشرطة.
توقفت الجريدة وبعد توقفها  بمدة عملت مع نفس الصديق في شركة التاج للحوم المفرومة، والتي لم تكن في حقيقتها شركة، إلا أنها مع ذلك كانت تقدم منتجات من حيث الشكل لا تختلف عن منتجات كبريات شركات اللحوم المفرومة في كبريات العواصم العالمية.
قبل تأسيس الشركة اتصل صديقي بصديق له في فرنسا، ووفر له الآلاف من الأكياس على شكل صناديق بلاستيكية رائعة الشكل، مع ملصقات صغيرة طُبِع عليها اسم الشركة وعنوانها، وكانت كلفة كل كيس بملصقه في حدود الثلاثين أوقية، هذا فضلا عن ماكينة لفرم اللحوم كانت طاقتها  في حدود 80 كغ للساعة.
انطلقت الشركة في ظروف بالغة الصعوبة، وكنا في كثير من الأحيان نعجز حتى عن توفير المبلغ الكافي لشراء اللحوم من عند الجزارين، ولكن صديقي كان من رجال المهام الصعبة، وكان جريئا على الاقتراض من هنا ومن هناك، وهو ما مكننا دائما من تحصيل بضعة آلاف من الأوقية  كنا نحتاجها في كل يوم لشراء كميات اللحوم التي كنا نوزعها في صناديق أو أكياس بلاستيكية على عدد من البقالات الشهيرة.
كنا نقوم يوميا بتوزيع العشرات من أكياس نصف كيلو من اللحم المفروم على بقالات محددة، ونترك مهمة البيع للبقالة مقابل هامش ربح على كل كيس تبيعه. ولقد انبهر الكثير من أصحاب البقالات بالشكل الفاخر لمنتجاتنا مما جعل البعض منهم  يطلب منا أن نحدد له موقع الشركة، ويلح على ذلك، دون أن يعلم بأن قاعة المطبخ الموجودة في المنزل المتواضع الذي كان يؤجره صديقي للسكن كانت هي المقر الاجتماعي لشركة التاج للحوم المفرومة.
لم تستمر الشركة إلا لفترة قصيرة من الزمن، وتوقفت نهائيا بعدما تعطلت الماكينة الوحيدة التي كانت تستخدم لفرم اللحوم، والتي تزامن تعطلها مع ظهور مجازر عقيد، تلك المجازر التي ستكتسح فيما بعد العاصمة نواكشوط.
بعد تلك المحاولات، ومحاولات أخرى لم أذكرها، تركت مجال الأعمال الحرة، وتقدمت بملف ترشح ليسمح لي بأن أكون أستاذا لمحو الأمية، من بين مئات الأساتذة الذين تم اكتتابهم في آخر عهد الرئيس معاوية.
تم قبولي كأستاذ، وقضيت في تلك المهنة ثلاث سنوات، ثم من بعد ذلك بفترة طويلة تم اكتتابي عاملا غير دائم في وزارة المالية براتب غير لائق، أوصلته الزيادة الأخيرة للأجور الدنيا إلى أربعين ألف أوقية.
بتلك البساطة مر ربع قرن تقريبا على تخرجي من الجامعة، مر ربع قرن وأنا لا زلت عاملا غير دائم براتب لا يتجاوز أربعين ألف أوقية،  ولا أملك في هذه الدنيا غير ذلك الراتب. لا أملك مترا مربعا واحدا من مساحة بلدي الشاسعة، لا أملك سيارة، بل إني لم أملك جهاز كمبيوتر شخصي إلا في العام 2012.
مر ربع قرن من عمري، صعد فيه بعض أصدقائي إلى أعلى سلم الوظيفة، أما أنا فلازلت أحوم حول السلم، وأناضل من أجل الوصول إلى الدرجة الأولى منه، وذلك لكي أبدآ رحلة الصعود إلى درجات أعلى. تلك حقيقة لا أنكرها، ولكني مع ذلك أستطيع أن أقول لكم، وأنا صادق فيما أقول بأني لو استقبلت من حياتي ما استدبرت منها لما أردتها إلا أن تكون كما كانت، وبكل تفاصيلها، هذا إذا ما استثنيتُ طبعا الكثير من الذنوب والمعاصي التي ارتكبتها في ما مضى من عمري، والتي أتمنى ـ كأي مسلم ـ  لو أني لم أكن قد ارتكبتها.
إني سعيد بكل تلك التجارب، وبما فيها من  محطات فشل، وإني راض عن حالي الآن، بل إني أعيش في سعادة لو وُزعت على كل أفراد الدفعة لوسعتهم، وتلك حقيقة لن تصدقوها، ولكم كامل الحق في أن لا تصدقوها.
وقد يقول قائل منكم، إذا ما أحسن الظن بي وصدقني، بأن سر سعادتي هو أني أصبحت زاهدا في هذه الدنيا، و الحقيقة أن ذلك قول غير صحيح، فأنا لست بزاهد في الدنيا.
ولعل المدهش في "شخصي الكريم"، إن كان في "شخصي الكريم" ما يدهش، هو أن ربي قد أنعم عليَّ بأن جعلني قادرا على أن أجمع بين صفتين أو خصلتين، يصعب الجمع بينهما: رضا بالواقع أيا كان، مع طموح استثنائي.
ولعل طموحي الاستثنائي هو الذي أجبر الحياة على أن تخاصمني بشكل استثنائي، وتوجه لي في كثير من الأحيان ضربات موجعة ومؤلمة لم يحن الوقت بعد لكشفها. ولكن ما أستطيع أن أقوله الآن هو أنه لولا تلك الضربات الموجعة التي خصتني بها الحياة لفقدت شيئا من ثقتي في نفسي، ولأيقنت بأنه لن يكون بإمكاني أن أترك بصمة في هذه الحياة من قبل أن أرحل عنها في يوم قادم لا محالة.
كانت ثقتي في نفسي ستهتز لو أن الحياة بدلا من أن تشاكسني قررت أن تبسط لي السجاد الأحمر، وتنثر لي الورود في طريقي، وفي وقت مبكر. كانت ثقتي في نفسي ستهتز، لو تعاملت معي الحياة بلباقة وبلطف، وذلك لأني كنت قد علمت، بحكم قراءتي لسير العظماء، بأن طريقا مفروشا بالسجاد الأحمر،  لن يوصلني قطعا إلى تحقيق أحلامي الكبيرة.
ذلك ما تقوله سير العظماء، وأتحداكم أن تأتوني برجل عظيم واحد ترك خلفه بصمة، لم يمر في بداية رحلته بطريق مليء بالأشواك وبالمطبات.
صحيح أني لم أضع حتى الآن أي شيء من تلك البصمة التي قررت أن أتركها خلفي، ولكني مع ذلك لا زلت على ثقة كاملة بأن الحياة ستضطر في يوم قادم ـ إن شاء الله ـ  لأن تتصالح معي، ووفق شروطي أنا لا شروطها هي. وحينها فإن كل أسباب النجاح ستنتظم  أمامي بعدما تبعثرت  كثيرا، خلال ربع القرن الماضي، وعندها فسيكون ترك البصمة قد أصبح أمرا ممكنا .
إني لن أقبل، وهذا مما يغيظ الحياة ويغضبها، أن أكون كالشخص "عادي" الذي يتحدث عنه عادة مدربو التنمية البشرية، والذي يقولون عنه بأنه كان قد ولد بشكل عادي، وتعلم بشكل عادي، وتخرج بشكل عادي، وحصل على وظيفة عادية، وتزوج من امرأة عادية، وأنجب أبناء عاديين، ثم مات بشكل عادي دون أن يترك خلفه أي بصمة.
لقد قررت ـ وأنا الشخص العادي جدا ـ أن لا أكون كالشخص "عادي"، ولذلك فقد كان عليَّ أن أدفع كلفة ذلك القرار الجريء، وكان عليَّ أن أقبل قواعد اللعبة، وأن أتقبل وبروح رياضية أن تصارعني الحياة بقسوة لم تصارع بها غيري ممن قبل أن يعيش وفق منهج وأسلوب الشخص "عادي".
إني لا أريد أن أترك هذه الحياة من قبل أن أسجل مروري بها حسب لغة زوار المنتديات، ولن يكون بإمكاني أن أسجل مروري دون أن أضع بصمة خاصة بي، ولن يكون بإمكاني أن أضع بصمتي ما لم أتعلم من أكاديمية الحياة، ولن أتعلم من أكاديمية الحياة  من قبل أن أدفع رسوم وتكاليف الدراسة في تلك الأكاديمية.
لقد رمتني الحياة بكثير من سهامها الغادرة حتى تكسرت النصال على النصال، وكان عليَّ أن أتقبل ذلك لأنه يمثل جزءا من أقساط تكاليف الدراسة في أكاديمية الحياة، تلك الأقساط التي كان عليَّ أن أدفعها دون أن أسمح للسهام الغادرة بأن تسلبني شيئا من ثقتي بنفسي، ولا أن تكسر روح التحدي في نفسي.
ولعل من المفارقات العجيبة في سيرتي هو أني كنتُ كثيرا ما اتخذ أقوى القرارات في حياتي، وأكثرها طموحا، في لحظة أعدها من أكثر لحظات حياتي ضعفا، وهناك أمثلة عديدة على ذلك، سأقدمها لكم  ـ إن شاء الله ـ في الجزء الثاني من هذه السيرة. أما الآن فإني سأكتفي فقط بأن أذكركم بذلك اليوم الذي كنتُ قد واجهت فيه المعلم الملاكم، والذي كنت قد حدثتكم عن تفاصيله في حلقة ماضية من حلقات يومياتي.
إن ما أصابني من سهام غادرة، لم يستطع أن يسلبني تلك السعادة وذلك الرضا الذي لم يفارقني منذ أن قررت أن أتحدى الحياة، ولم يستطع أن يجبرني على رفع الراية البيضاء لها، حتى وإن كشفت لي عن وجهها العبوس، وكشرت لي عن أنيابها الحادة.
إن  تأملي في سنن الحياة، وقراءتي لسير العظماء، جعلاني دائما أتراجع عن فكرة رفع الراية البيضاء، كلما خطر ببالي أن ارفعها في لحظات الضعف التي كانت تمر بي من حين لآخر، وإن قناعتي الشخصية لتؤكد لي بأن صبري وإصراري على عدم رفع الراية البيضاء سيجبر الحياة، وفي يوم قادم أراه قريبا وقد ترونه بعيدا، لأن ترفع هي الراية البيضاء في وجهي، وما النصر في النهاية إلا صبر ساعة.
وسيبقى إيماني بربي، وثقتي به، هما سلاحي الوحيد الذي أعتمد عليه حقا، فربي الذي لم يكلني يوما إلى نفسي الضعيفة في صراعي مع الحياة في كل ما مضى من حياتي، لن يكلني إليها، وأنا أسعى لتحقيق حلم كبير أصبحت أراه وبكل تفاصيله الصغيرة، أراه وكأنه قد تحقق فعلا، وأصبح جزءا من الماضي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق