الأربعاء، 12 نوفمبر 2025

نص كلمتي في اليوم المفتوح عن الخطابات الضيقة..


تعيش موريتانيا، منذ نشأتها، بل وقبل ميلادها الرسمي، أزمةً عميقة في مفهوم المواطنة والخطاب الوطني الجامع، وهي أزمة من النادر أن تجد من يتحدث عنها. هذه الأزمة لم تولد اليوم، وإنما تراكمت خلال العقود الماضية، بفعل عوامل متعددة، أدت مجتمعة إلى ضعف الانتماء الوطني، وهشاشة الخطاب الوطني الجامع.

ولكي نفهم جذور هذه الأزمة، لا بد أن نعود إلى ثلاث مراحل من تاريخ بلدنا، كل مرحلة منها واجهت عوائق خاصة، منعت ترسيخ قيم المواطنة، وأضعفت القدرة على بناء خطاب وطني جامع.
أولا: مرحلة الاستعمار
قبل الاستقلال، لم يعرف الموريتانيون الدولة بمفهومها الحديث، فالدولة لم تظهر على هذه الأرض إلا مع مجيء المستعمر، ومنذ ذلك الوقت ارتبطت في أذهان الناس بالمستعمر، فنظروا إليها نظرة سلبية وعدائية، وعدُّوها كيانا غريبا لا يستحق الولاء، ولذلك لم يكن من العدل أن نلوم الموريتاني آنذاك على ضعف انتمائه لتلك الدولة، بل على العكس، فقد كان رفضه لها موقفا وطنيا نبيلا، لأن الوطنية في تلك المرحلة كانت تعني مقاومة المستعمر ومواجهة سلطته.
ثانيًا: مرحلة ما بعد الاستقلال (من 1960 إلى 1991)
من الناحية النظرية، كانت هذه المرحلة هي الأنسب لغرس بذور الوطنية، وتشكيل خطاب وطني جامع يلتف حوله الجميع، لكن للأسف، واجهت البلاد عوائق حالت دون ذلك، ويمكن تلخيصها في عاملين رئيسيين:
العائق الأول: الإيديولوجيا
فقد تجذرت الإيديولوجيات في نفوس النخب في تلك الفترة قبل أن تترسخ فيها قيم المواطنة، فأصبحنا نسمع عن الكادحين، والبعثيين، والناصريين، والإسلاميين، قبل أن نسمع عن “الموريتانيين”. لقد بدأ هرم الانتماء مقلوبا، فغُرست الانتماءات الفكرية والأيدولوجية في النفوس قبل أن تُغرس فيها جذور الانتماء الوطني. فكان الوعي الإيديولوجي سابقا على الوعي الوطني، وهي حالة نادرة ربما تفرّدت بها بلادنا عن غيرها من دول العالم.
العائق الثاني: الامتداد العرقي خارج الحدود.
تتشكل موريتانيا من مكونات وأعراق متعددة، لكلٍّ منها امتداداته خارج الوطن، شمالا وجنوبا. ولأن تلك الامتدادات كانت في دول قائمة قبل قيام دولتنا، فقد أثّر ذلك سلبا على الشعور الوطني. لقد رأى بعض الموريتانيين في انتماءاتهم العرقية رابطة أقوى من رابطة المواطنة، جعلت الأخ في العرق من خارج الحدود، أقرب عند البعض من الأخ في الوطن من مكون آخر، وهكذا ضَعُفت صلتنا ببعضنا كموريتانيين، وتعززت الانتماءات الضيقة على حساب الانتماء للوطن الجامع.
ثالثا: مرحلة الديمقراطية (من 1991 إلى اليوم) 
حين انطلق ما نسميه بالمسار الديمقراطي في بلادنا في مطلع التسعينيات، كنا نظن أن هذا المسار سيعزز قيم المواطنة ويقوي من الخطاب الوطني الجامع، لكن الذي حدث – للأسف – هو العكس تماما. لقد انطلق هذا المسار قبل أن تتشكل مؤسسات مدنية قوية من أحزاب سياسية، ونقابات مهنية، وجمعيات أهلية، فلجأ الساسة ـ وخاصة من يدعم منهم الأنظمة الحاكمة ـ إلى الخطاب القبلي والعرقي والجهوي لحشد الجماهير، وأصبحت القبيلة والعرق والجهة وسيلة لتعزيز المكانة السياسية، ولاستقطاب الناخبين في كل موسم انتخابي. ثم ظهرت في مرحلة لاحقة الخطابات الفئوية والشرائحية لدى بعض الساسة المعارضين، كردة فعل من نخب لم تجد قبائل تعبّئها، فاستنهضت الشرائح لتحقيق مكاسب سياسية، وكانت النتيجة أن أصبح الولاء للقبيلة، أو الجهة، أو الشريحة، أقوى من الولاء للوطن! وهكذا، كانت المفارقة المؤلمة :أن المسار الديمقراطي الذي كنا نرجو منه أن يرسخ قيم المواطنة، قادنا في النهاية إلى مزيد من الانقسام والتشظي بين مكونات المجتمع.
خلاصة القول
من يتأمل هذه المراحل الثلاث، يدرك بوضوح أن قيم المواطنة لم تتجذر بما يكفي في أي مرحلة من مراحل تاريخنا: ففي عهد الاستعمار غابت المواطنة، لأننا كنا تحت حكم أجنبي. وبعد الاستقلال، أثَّرت الإيديولوجيات والامتدادات العرقية الخارجية سلبا على الانتماء الوطني الجامع، مع الاعتراف بأن هذه المرحلة كانت هي الأفضل رغم المآخذ. ومع مجيء الديمقراطية، حلّت الولاءات الضيقة محلَّ الانتماء للوطن. لقد بلغ خطاب التشظي اليوم مستويات مقلقة أصبحت تهدد ـ بالفعل ـ الانسجام المجتمعي، بل تهدد كيان الدولة نفسها.
ومن هنا، فقد أصبح لزاما على النخب الموريتانية أن تفتح نقاشًا وطنيًا جادًا ومسؤولا حول هذه التحديات الوجودية، وفي انتظار ذلك، فقد ارتأينا في مبادرة "ميثاق المواطنة" أن ننظم هذا اليوم التوعوي المفتوح، بعد إصدارنا للميثاق الذي يتضمن اثني عشر بندا. وقد وقّعته حتى الآن العشرات من الشخصيات الوطنية من مختلف المكونات الوطنية والتوجهات السياسية، وتوجد منه نسخة ورقية في القاعة لمن يرغب من ضيوفنا الكرام في توقيعه.
في الختام، أتوجه إليكم بجزيل الشكر على حضوركم ومساهمتكم معنا في هذا اليوم التوعوي المفتوح، وأرجو أن يكون يومنا هذا يومًا ناجحا، تُسمع فيه كل الآراء، وتُطرح فيه الأفكار والمقترحات المفيدة، سعيا لبناء مواطنة حقيقية، وخطاب وطنيٍّ جامع يليق بنا كقادة رأي ويليق ببلدنا.















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق