السبت، 16 يوليو 2016

إنه لحكمٌ جائر

إنه لحكم جائر ذلك الحكم الذي أصدرته محكمة الجنح بنواكشوط الغربية مساء الخميس الموافق 14 يوليو 2016 في حق الناشط "الشيخ باي".
ويكفي لمعرفة مدى جور هذا الحكم أن نجري مقارنة سريعة بين حجم المكافآت أو الأحكام المخففة التي تصدر في حق من يطلق الرصاص في هذه البلاد، مع الحكم القاسي الذي صدر في حق شاب ألقى حذاءً في وجه وزير، وذلك مع العلم بأن الحذاء لم يصب الوزير، وإنما سقط على أرضية شاحبة، في قاعة شاحبة، تتبع لوزارة شاحبة.

(1)
منذ خمس سنوات بالضبط، وتحديدا في يوم الجمعة الموافق 15 يوليو 2011 تم نقل وزير الخارجية الموريتاني إلى مستشفى تونسي للعلاج، وذلك بعد تعرضه للضرب المبرح من طرف مستشار بالسفارة الموريتانية في تونس، وقد تمت عملية الضرب في غرفة بأحد فنادق تونس العاصمة.
لم تتم محاكمة المستشار، وإنما تم إطلاق سراحه بعد تفاهمات قبلية.
(2)
 في وقت متأخر من ليلة الأحد الموافق 22 يناير 2012، شهدت العاصمة نواكشوط إطلاق نار من طرف ابن الرئيس وكانت الضحية فتاة في مقتبل العمر، ومع ذلك فلا محاكمة تمت، وكل ما حدث حينها هو أن ابن الرئيس تم توقيفه لساعات معدودة، في غرفة تم تأثيثها وتجهيزها بكل وسائل الراحة، وذلك من قبل أن يطلق سراحه، بعد دفع غرامة مالية للحق العام قدرها50 ألف أوقية.
(3)

بعد ذلك بعشرة أشهر تقريبا، وفي حدود الساعة الثامنة من مساء السبت الموافق 13 أكتوبر 2012، وحسب الرواية الرسمية للحادثة، فقد تم إطلاق النار على الرئيس الموريتاني من طرف ضابط عسكري، ولم يكن ذلك الضابط العسكري يقف عند نقطة تفتيش، وكان يرتدي لحظة إطلاق النار زيا عسكريا غير كامل، وكان يقود سيارة مدنية بأرقام أجنبية. كل هذه الأخطاء الشنيعة، والتي كادت أن تتسبب في قتل الرئيس الموريتاني، حسب الرواية الرسمية، لم يعاقب مرتكبها، وإنما على العكس من ذلك، فقد ذكرت بعض المصادر الإعلامية بأن الضابط الذي ارتكب كل تلك الأخطاء قد كوفئ بإرساله في منحة عسكرية إلى جمهورية الصين الشعبية.
ولعلكم تذكرون المقابلة الشهيرة التي بثها التلفزيون الرسمي مساء الأحد الموافق 21 أكتوبر 2012، والتي استضاف خلالها الضابط الذي أطلق النار على الرئيس رفقة مسؤول الاتصال بالجيش، ولعلكم تذكرون أيضا بأن مسؤول الاتصال بالجيش قال في تلك المقابلة، وبعد أن عدد كل الأخطاء الشنيعة التي ارتكبها الضابط، بأن الجيش صارم في معاقبة عناصره الذين يرتكبون مثل تلك الأخطاء، ولكن قيادة الجيش لم تعاقب الضابط الشاب، بسبب أنها تتفهم حسن نيته، وترى بأن قلة خبرته هي التي أوقعته في تلك الأخطاء الشنيعة.
(4)
قبل عام من الآن، وتحديدا في يوم الأربعاء الموافق 15 يوليو 2015 أصدرت المحكمة الجنائية بنواكشوط حكما بالسجن لمدة سنتين نافذتين، لا ثلاث، على ابن رئيس سابق كان قد أطلق النار فوق رؤوس عناصر من أمن الطرق في مكان بمقاطعة لكصر يستخدمه أمن الطرق لحجز السيارات.
هذه مجرد أمثلة سريعة من حوادث وجرائم عديدة نسمع عنها في كل حين، فكم من عملية إطلاق رصاص كان وراءها مقرب من الرئيس، أو كان وراءها ابن جنرال أو ابن وزير، ومع ذلك تمت تسويتها دون عقوبة تذكر. وكم من قضايا فساد، وكم من قضايا مخدرات، وكم من جرائم خطيرة تم طي ملفاتها بشكل كامل ودون عقوبة تذكر، لا لشيء إلا لأن المتهم الأول فيها كان من "علية القوم" أو من "أكابر المجتمع".
لو كان الناشط "الشيخ باي" ابنا لوزير أو لجنرال أو لرئيس لما تم سجنه ليوم واحد، ولما سمعتم إطلاقا عن هذا الحكم الجائر الذي صدر في حقه، وذلك على الرغم من طلب النيابة العامة تخفيف العقوبة، وعلى الرغم من أن الوزير المتضرر لم يتقدم بشكوى.
أليس من حقنا بعد تأمل الأحداث أعلاه أن نطرح الأسئلة التالية:
أيهما أخطر في هذه البلاد: إطلاق رصاص من سلاح غير مرخص أم رمي حذاء لا تحتاج ملكيته لترخيص؟
ألم يكن من الأفضل للناشط "الشيخ باي" أن يطلق رصاصا "ناعما" على رأس الوزير بدلا من  رميه بحذاء "خشن"، ما دام الحذاء أشد فتكا من الرصاص الحي حسب أحكام القضاء الموريتاني؟
فلو أن الناشط "الشيخ باي" أطلق رصاصا على الوزير بدلا من رمي الحذاء، لربما كان حظه كحظ من أطلق الرصاص على الرئيس حسب الرواية الرسمية، ولربما حصل بذلك على منحة دراسية في جمهورية الصين، مع مقابلة في التلفزيون الرسمي رفقة موظف كبير من وزارة الثقافة، ولربما سمعتم موظف الوزارة وهو يقول خلال تلك المقابلة بأن قطاعه قد قرر عدم معاقبة "الشيخ باي" بسبب أنه شاب وقليل الخبرة.
ولو أن الناشط "الشيخ باي" أطلق رصاصا على الوزير بدلا من رمي الحذاء، لربما كان حظه كحظ ابن الرئيس لما أطلق الرصاص على فتاة، أي لربما اعتقل "الشيخ باي" لساعات معدودة، وجُهز له مكان الاعتقال بكل مستلزمات الراحة، كما حدث مع ابن الرئيس، ومن يدري فربما يصبح "الشيخ باي" من بعد ذلك كله رئيس منظمة خيرية.
ولو أن الناشط "الشيخ باي" أطلق رصاصا على الوزير بدل رمي الحذاء لربما كان حظه ـ على الأقل ـ  كحظ ابن الرئيس الأسبق لما أطلق الرصاص فوق رؤوس عناصر من أمن الطرق، ولربما حكم عليه بسنتين نافذتين بدلا من ثلاث سنوات نافذة.
خلاصة القول: إن الأحداث أعلاه تؤكد بأنه من الأفضل للمواطن الموريتاني أن يطلق رصاصا في وجه الرئيس، أو في وجه أي مواطن آخر، بدلا من رمي حذاء في وجه وزير، فعقوبة رمي الحذاء عند القضاء الموريتاني هي أشد قسوة من عقوبة إطلاق الرصاص الحي.
وتبقى كلمة
لا أوافق إطلاقا على رمي الناشط "الشيخ باي" للوزير بحذاء، وذلك على الرغم من أني أعرف جيدا "الشيخ باي"، وأعلم بأنه لم يفعل ذلك إلا للتعبير عن موقف احتجاجي يراه صائبا، لا أوافق على رمي الحذاء كوسيلة للاحتجاج، ولكن، وبعد إصدار هذا الحكم الجائر في حق الناشط "الشيخ باي" فإن المسألة لم تعد مسألة أسلوب احتجاجي قد نتفق عليه أو لا نتفق، بل أصبحت أكبر من ذلك وأخطر، إنها قد أصبحت تتعلق بقضاء غريب الأطوار يتساهل كثيرا مع من يطلق الرصاص، ويتشدد مع من يرمي حذاءه للتعبير الرمزي عن موقف احتجاجي.

حفظ الله موريتانيا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق