الخميس، 6 سبتمبر 2012

ملاحظات حول عملية تسليم السنوسي


أثارت عملية تسليم السنوسي جدلا واسعا، وانتقدها الكثيرون، واعتبروها جريمة أخلاقية وقانونية ودبلوماسية لن تسلم  حتى الأجيال الموريتانية القادمة من عارها.
وهذه الضجة التي أثارتها عملية تسليم السنوسي، لم تختلف كثيرا عن تلك الضجة التي أثارتها عملية اعتقاله، حيث تحدث الكثيرون حينها عن حماقة وكارثة كبرى ارتكبها النظام الموريتاني، والذي أوقع نفسه ـ حسب أولئك ـ  في فخ تفادت الوقوع فيها أنظمة أذكى في دول أكثر قوة (المغرب وفرنسا)، بل إن البعض تحدث وقتها عن عملية استدراج وقع فيها النظام الموريتاني، وأن تلك العملية ستؤدي حتما إلى سقوط النظام في أيام معدودات.
ولقد دفعني الإجماع الحاصل حينها لأن أكتب عدة مقالات حاولت أن أبين من خلالها بأن عملية اعتقال السنوسي لم تكن بذلك السوء ولا بتلك الخطورة التي تم تصويرها.
واليوم أيضا يكاد يحصل شبه إجماع على أن عملية التسليم كانت "كارثة" أخلاقية وقانونية ودبلوماسية وقعت فيها موريتانيا، وهذا الإجماع شبه الحاصل يفرض العودة من جديد لقضية السنوسي، وذلك للتذكير ببعض الملاحظات التي يغفلها  البعض عند حديثه عن السنوسي، وعن عملية اعتقاله، أو عملية تسليمه.
الملاحظة الأولى : قد يكون من المهم أن أذكر هنا بأن السنوسي لم يدخل إلى موريتانيا بوصفه لاجئا سياسيا حتى تكون موريتانيا ملزمة ـ أخلاقيا وقانونيا ـ برفض تسليمه. لقد دخل السنوسي إلى موريتانيا متسللا بطريقة غير قانونية، وبجواز مزور، وذلك ما علينا أن نتذكره دائما كلما أردنا أن نتحدث عن هذا الملف. ولا يقلل من أهمية تلك الحقيقة بعض التسريبات التي تحدثت عن بعض الموريتانيين الذين طمأنوا السنوسي من قبل دخوله، والذين استلموا منه مبالغ طائلة مقابل تأمينه، فما قام به أولئك لا يلزم الدولة الموريتانية بأي شيء، ومن حق السنوسي أن يكشف عن أولئك، بل وأن يكشف عن كل الموريتانيين الذي كانوا يتسلمون منه أموالا أثناء حكم القذافي، ولو أن السنوسي فعلها لوقفنا معه في تلك الجزئية، ولطالبنا بمعاقبة أولئك وبفضحهم.
الملاحظة الثانية: إن من تأثيرات العولمة علينا أننا أصبحنا نستبدل الرحمة التي هي قيمة دينية وإنسانية عظيمة بـ"الرحمة الأمريكية" التي لا علاقة لها بأي قيمة إنسانية أو دينية على الإطلاق.  
فأمريكا يمكنها أن تبيد شعبا كاملا ودولة كاملة دون أن تظهر أي ذرة من شفقة أو رحمة، ولكن عندما يقتل مجرم أمريكي هنا أو هناك فحينها تظهر "رحمة أمريكا" وشفقتها وإنسانيتها. بل إن هذه الشفقة قد تظهر عندما تموت دجاجة بفعل أزمة قلبية تسبب فيها نباح كلب مما يجعل صاحب الكلب يتعرض لغرامة مالية ولعقوبة السجن لمدة عامل كامل (هذه ليست نكتة بل قصة حقيقية حدثت في إحدى الولايات الأمريكية).
إن الذين يتحدثون اليوم عن الأخلاق وعن القيم وعن الرحمة وعن الوفاء عندما تم تسليم السنوسي كان عليهم أن يتحدثوا عن تلك القيم يوم كان الليبيون يقتلون ويذبحون ويساء إلى كرامتهم من طرف النظام الذي كان السنوسي يمثل صندوق أسراره وصندوق بطشه وصندوق جرائمه.
وكان عليهم أن يتحدثوا عن تلك القيم يوم اتهم السنوسي بقتل1200  من السجناء السياسيين في سجن "بوسليم"، أعدموا جميعاً رمياً بالرصاص، وفي أقل من ثلاث ساعات!!   
الملاحظة الثالثة : إن الحكومة الليبية الحالية هي حكومة شرعية معترف بها على الصعيد العالمي، وهي حكومة منتخبة بغض النظر عن الظروف التي جرت فيها تلك الانتخابات، وهي ليست أقل شرعية من النظام السابق الذي استولى على السلطة بانقلاب وظل يرفض ترك تلك السلطة لأربعة عقود كاملة، لذلك فإن موريتانيا لا يمكن لومها إذا تعاملت مع تلك الحكومة الليبية، والتي تربطها بها العديد من الاتفاقيات في إطار اتحاد المغرب العربي، والجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي لأنها هي التي تمثل الشعب الليبي في الوقت الحالي.
لذلك فعلينا أن نتذكر دائما بأن موريتانيا قامت بأفضل الخيارات المتاحة فتسليم السنوسي لأي طرف آخر هو الذي كان سيشكل كارثة كبيرة، وحتى ولو كان ذلك الطرف محكمة العدل الدولية. أما الاحتفاظ بالسنوسي هنا فقد كان فيه الكثير من المخاطرة خاصة أن الرجل تم الحديث كثيرا عن مرضه، بل إن المواقع الموريتانية تحدثت عن موته أكثر من مرة، ولو أنه مات في السجون الموريتانية، حتى ولو كان موتا طبيعيا لكان لذلك أثرا سيئا على بلادنا. بالطبع لقد ظهر لاحقا بأن مرض السنوسي لم يكن إلا إشاعات بالغت فيها الصحافة الحرة، فهذا ما أكدته تصريحات المسؤولين الليبيين الذين استلموا السنوسي، كما أكده شكل المعني من خلال الصور الأولى التي ظهرت بعد تسليمه.
إن أقصى ما يمكن أن تطلبه موريتانيا هو ضمانات من الحكومة الليبية الحالية، وقد طلبتها، وقد قُدمت لها حسب التسريبات. ثم إنه علينا أن نعلم بأن أفضل ضمان قانوني في هذه القضية، هو أن ملف السنوسي قد أصبح تحت الأضواء العالمية (الصحافة الدولية، المنظمات الحقوقية الدولية)، ولذلك فلم يعد بإمكان الحكومة الليبية أن تتعامل مع هذا الملف بغير الطرق القانونية، حتى وإن كانت لها الرغبة أصلا في أن تتجاوز القانون في هذا الملف.
ومما يجب الإشارة إليه هو أن ظروف ليبيا حتى وإن كانت لا تزال سيئة إلا أنه لا يمكن مقارنتها بالظروف والأجواء التي تم فيها ارتكاب جريمة قتل القذافي بعد أسره.
الملاحظة الرابعة : تحدث البعض عن صفقة أبرمتها الحكومة الموريتانية مع الحكومة الليبية ستتم بموجبها جدولة الديون،ورفع الحظر عن الاستثمارات الليبية وعن بنود أخرى حسب ما تسرب حتى الآن.
البعض كان يريد أن لا يتم نقاش أي موضوع اقتصادي أو سياسي عند تسليم السنوسي، لذلك فقد اعتبر أولئك بأن إثارة مثل تلك الملفات قد شوه عملية التسليم حتى ولو افترضنا جدلا بأنها كانت قانونية وأخلاقية.
لقد غاب عن هؤلاء بأن المفاوضات بين الدول لا تحترم في العادة "الموضوع الواحد" وأن لكل دولة الحق في أن تثير المواضيع التي تهمها، ولا عيب إذا تحدثت الحكومة الموريتانية عن قضايا اقتصادية أثناء نقاش قضية قانونية ودبلوماسية كقضية تسليم السنوسي، ولا عيب إن استثمرت الحكومة الموريتانية تلك القضية لجلب استثمارات لموريتانيا أو لجدولة ديون. إن العيب هو في أن يستفيد عدد من الأفراد ـ بحكم مواقعهم ـ  من ذلك الملف، وأن يأخذوا أموالا طائلة مقابل تسليم السنوسي، وهذا هو الذي علينا أن ننتقده وبشدة إن ثبت لدينا أنه حصل.
الملاحظة الخامسة : إن على المعارضة أن تحذر من أن تقع في الفخ، وأن لا تتبنى قضية السنوسي وأن تجعل منها جريمة نكراء ارتكبتها الحكومة الموريتانية.
إن الحكومة الموريتانية ترتكب في كل يوم الكثير من الجرائم ضد شعبها، وهذا هو الذي على المعارضة أن تستنكره  وأن تقف ضده، وأن تركز عليه. وإن القضاء الموريتاني تتم الإساءة إليه في كل يوم من خلال تعامله البائس مع الموريتانيين، وهذا ما على المعارضة أن تقف ضده، أما ما تم ارتكابه ضد السنوسي فهو ليس بذلك السوء الذي يرتكب ضد الموريتانيين لذلك فإن تبني قضية السنوسي سيكون موقفا سياسيا خاطئا.
الملاحظة السادسة: لقد ارتكبت الدبلوماسية الموريتانية الكثير من الأخطاء الفادحة، خاصة في ظل النظام الحالي، والتي كان من بينها الوقوف مع نظام القذافي إلى آخر لحظة، ولذلك فإن عملية تسليم السنوسي قد تساعد في "التكفير" عن تلك  الجريمة النكراء التي ارتكبتها الحكومة الموريتانية في حق شعبها، وفي حق الشعب الليبي بوقوفها مع نظام القذافي الذي ارتكب الكثير من الجرائم في حق شعبه.
وإن على كل موريتاني محب لبلده أن يتمنى أن تشكل عملية تسليم  السنوسي بداية حقيقية  لبناء علاقات أخوية متينة مع ليبيا المستقبل، والتي نتمنى لها كل خير.
تصبحون على موقف سليم من عملية تسليم السنوسي..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق