الأحد، 13 مايو 2012

فتاوى سياسية 3/3


في هذه الحلقة من الفتاوى السياسية سأحاول أن أجيب على ثلاثة أسئلة تم طرحها كثيرا، في الآونة الأخيرة، وهذه الأسئلة هي: أليست الاحتجاجات و الاعتصامات والمظاهرات المطالبة بالإصلاح أولى من تلك المطالبة برحيل رئيس منتخب كما هو حال رئيسنا الحالي؟ ألن يبرر شعار الرحيل المرفوع حاليا لمعارضة المستقبل بأن تطالب برحيل أي رئيس قادم من قبل أن يكمل مأموريته، وهكذا ندخل في دوامة ترحيل الرؤساء من قبل إكمال مأمورياتهم؟ ألا تشكل المطالبة برحيل النظام مخاطرة كبيرة قد تؤدي إلى فتنة في بلد كبلدنا، والذي تتعدد فيه الشرائح والأعراق، ويأتي فيه الولاء للوطن في الدرجة السادسة أو السابعة بعد الولاء للقبيلة وللايدولوجيا وللعرق وللشريحة وللجهة وللدول الشقيقة أو الصديقة حتى؟ 

تلك أسئلة سأحاول أن أجيب عليها، في هذه الحلقة، ولكن قبل الإجابة عليها، هناك كلمة لابد من قولها، وهي أننا نعيش فعلا في زمن الفتن السياسية، حيث لم يعد للحق فسطاطه الخاص به، ولا للباطل فسطاطه الخاص به، ولو كان للحق فسطاطه، وللباطل فسطاطه ، لما عاش الكثير من الناس في حيرة شديدة، ولما كانت هناك حاجة أصلا لكتابة  مثل هذه الفتاوى السياسية.
إن على المدافعين عن شعار الرحيل أن يعلموا بأن فسطاطهم ليس فسطاط حق بالمطلق، وأن فسطاط الرافضين للرحيل ليس فسطاط باطل بالمطلق.
كما أنه على الرافضين لشعار الرحيل أن يعلموا بأن فسطاطهم ليس فسطاط حق بالمطلق، وأن فسطاط المطالبين بالرحيل ليس فسطاط باطل بالمطلق.
إننا نعيش في زمن الفتن السياسية، وهذا يعني أن هناك كثيرا من الحق، وشيئا غير قليل من الباطل عند فسطاط، وهناك ـ في المقابل ـ كثير من الباطل، وشيء غير قليل من الحق عند فسطاط آخر، والخلاف هنا هو في تحديد الفسطاط الذي يملك الكثير من الحق، وذلك الذي يملك الكثير من الباطل، دون أن يعني ذلك بأنه لا باطل عند أهل الحق، ولا حق عند أهل الباطل.
ومن الطبيعي جدا في زمن الفتن السياسية أن يحاول الفسطاط الذي لديه قليل من حق، وكثير من باطل، أن لا يعرض على الناس إلا حقه القليل، وباطل خصمه، بعد تضخيمهما طبعا، في الوقت الذي يبذل فيه جهودا كبيرة  لكي يحجب عنهم باطله الكثير، وحق خصمه الكثير.
هذا هو ما يحدث ـ غالبا ـ في زمن الفتن السياسية، والتي ارتبطت بالربيع العربي، حيث لم تسلم الثورات العربية من فوضى، ومن دماء بريئة تسفك، في الوقت الذي لم يغب فيه شيء من النظام والأمن الخادع عن حكم الأنظمة المستبدة، وهذا هو ما يجعل الناس في حيرة شديدة من أمرهم، وهذا هو ما كنت أريد أن أقول بالضبط من قبل أن أبدأ الإجابة على أسئلة هذه الحلقة.
سؤال : أليست الاحتجاجات و الاعتصامات والمظاهرات المطالبة بالإصلاح أولى من تلك المطالبة برحيل رئيس منتخب كما هو الحال في بلدنا؟
جواب : لو طُرح علي هذا السؤال في ظل نظام غير هذا النظام الحالي، لربما أجبت بأن المطالبة بالإصلاح قد تكون أولى، ولكن المشكلة أن النظام الذي يحكمنا حاليا، لا يهتم بدعوات الإصلاح، ولا يهتم حتى بتلك المطالب المشروعة التي لا صلة لأصحابها بالتجاذبات السياسية.
لقد تعرفت على الكثير من أصحاب المظالم في هذا البلد، بل أني انتسبت لمنسقية أصحاب المظالم، وحضرت للعديد من أنشطة أصحاب المظالم، وكتبت الكثير من الرسائل المفتوحة، ومن البيانات باسم مظلومين لم تكن لهم القدرة لأن يعبروا عن مظالمهم، بل إني فوق ذلك كتبت رسالتي المفتوحة رقم 24 على لافتة، ورفعتها لساعات أمام القصر الرئاسي مطالبا بتأسيس ديوان للمظالم يستقبل أصحاب المظالم، ويعمل على حل مشاكلهم بالتنسيق مع الإدارات المعنية، وهو الديوان الذي كان قد وعد به الرئيس الذي حقق 70%  من وعوده حسب خبير الاستشراف الدولي، وقارئ بيانات الحالة في الداخل، الوزير الذي لا يتقاعد أبدا، والمعروف بأنه  ينفذ أوامر رئيسه بشكل عكسي، حيث طلب منه الرئيس أن يشجع المواطنين على التظاهر فإذا به يطاردهم  بمسيلات الدموع أينما تجمهروا، وأينما تظاهروا.
لقد صدم الرئيس الحالي الكثير من أصحاب المظالم، حتى أولئك الذين قابلهم ووعدهم برفع المظالم عنهم، ولكن الذي كان يحدث بعد تلك اللقاءات هو أن مظالمهم تزداد تعقيدا. وكمثال على ذلك، فعمال "الجورنالية" الذين ينظمون حاليا اعتصامات قوية في مدينة "ازويرات"، كان الرئيس قد تعهد لهم بتحقيق مطالبهم في حملته الانتخابية، كما تعهد لهم مرة ثانية في العام 2011 خلال زيارته لمدينتهم. ونفس  الشيء حدث مع مجموعة "كواس حامل شهادة" وهي المجموعة التي اضطر بعض أعضائها ـ  بعد عام من انتظار أن يتحقق أي شيء مما تعهد لهم به الرئيس ـ  لأن يقتحموا أسوار القصر تعبيرا عن غضبهم من عدم تنفيذ التزامات الرئيس. ويمكن أن نتحدث كذلك عن قافلة المظالم التي جاءت من "نواذيبو" سيرا على الأقدام، والتي أصبحت تهدد بالتصعيد من جديد بعد أن اقتربت المهلة التي منحتها للرئيس من الانقضاء، ودون أن تظهر أية بوادر توحي بأن الرئيس يفكر في تنفيذ أي وعد من وعوده التي التزم بها لمنظمي القافلة . نفس الشيء حدث مع سكان "مكطع لحجار"، ومع البحارة، ومع المعوقين الأحرار، وغيرهم كثير.
هذا عن أصحاب المظالم، أما عن الشركاء السياسيين فالحال لا يقل سوءا، فها هي المعارضة المحاورة والتي حاورت الرئيس في وقت كان فيه  بأمس الحاجة إلى من يحاوره، لازالت تنتظر تطبيق نتائج الحوار.  ويكفي أن نعرف بأن رئيس حزب الوئام قد قال سابقا  بأن وسائل الإعلام الرسمي، تتعمد حذف كل كلمة ينتقد بها الحكومة في خطابته، ولا تبث من تلك الخطابات إلا ما يتحدث عن تمجيد نتائج الحوار، ذلك الحوار الذي كان قد شدد على ضرورة فتح الإعلام الرسمي أمام الجميع.
أما المعارضة المقاطعة، خاصة التكتل وتواصل واللقاء الديمقراطي فقد حاولت، وفي أوقات مختلفة أن تجعل من الرئيس شريكا سياسيا، ولكن دون جدوى.
إن الرئيس "محمد ولد عبد العزيز"، لم يلتزم خلال ما مضى من مأموريته بأي وعد من وعوده ، سواء منها تلك الوعود المقدمة لأصحاب المظالم، أو تلك المقدمة للشركاء السياسيين، لذلك فإن الاحتجاج والاعتصام والتظاهر من أجل الإصلاح، أو من أجل تحقيق مطالب مشروعة في ظل النظام القائم، سيتحول إلى جهد ضائع.
سؤال: ألن يبرر شعار الرحيل المرفوع حاليا لمعارضة المستقبل بأن تطالب برحيل أي رئيس قادم من قبل أن يكمل مأموريته، وهكذا ندخل في دوامة ترحيل الرؤساء من قبل إكمال مأمورياتهم؟
جواب: لا أعتقد ذلك، فالرئيس القادم لن يكون بالإمكان أن يُطعن في شرعيته، كما يحدث مع الرئيس الحالي. وهو في الغالب سيترشح من خارج القصر مما سيجعل حظوظه متساوية مع بقية منافسيه، وهذه نقطة هامة يغفل عنها المدافعون عن شرعية الرئيس "محمد ولد عبد العزيز".
لقد كان من شبه المستحيل أن يُهزم المرشح "محمد ولد عبد العزيز" في الانتخابات الماضية، لأنه كان حديث عهد بالقصر الرئاسي، في بلد حديث العهد بالديمقراطية، لذلك فكان يعتبره الكثير من المواطنين البسطاء بأنه هو الرئيس الفعلي، حتى وإن ترك الرئاسة ظاهرا لرئيس مجلس الشيوخ . فالمواطن البسيط  لم يكن يتعامل مع المرشح "محمد عبد العزيز" كما كان يتعامل مع غيره من المرشحين، بل كان يعتبره رئيسا ترشح في انتخابات محسومة سلفا، كما كان الرئيس "معاوية" يترشح في انتخابات محسومة سلفا، وهذا الاعتقاد لوحده، لدى نسبة كبيرة من الشعب الموريتاني، يكفي للطعن في شفافية انتخابات يوليو 2009، حتى ولو افترضنا جدلا بأن تلك الانتخابات كانت شفافة 100% في كل جوانبها الأخرى.
إن الرئيس القادم لن يتمتع بتلك الميزة، وستكون ـ بالتالي ـ فرصه متساوية مع غيره من المترشحين، ولن يكون في سيرته أنه انقلب على رئيس منتخب في انتخابات شهد الجميع على شفافيتها، لذلك فلن يكون من السهل المطالبة برحيله من قبل أن يكمل مأموريته. كما أن رئيسا بتلك المواصفات لن يعجز عن تحقيق بعض الأحلام المتواضعة لشعب عُرف بتواضع أحلامه، وهو ما سيجعل الشعب يرفض المطالبة برحيله، هذا إذا افترضنا بأنه سيكون هناك من بإمكانه أن يتجرأ للمطالبة برحيل مثل ذلك الرئيس الذي انتخب بتلك الشفافية.
سؤال : ألا تشكل المطالبة برحيل النظام مخاطرة كبيرة قد تؤدي إلى فتنة في بلد كبلدنا، والذي تتعدد فيه الشرائح والأعراق، ويأتي فيه الولاء للوطن في الدرجة السادسة أو السابعة بعد الولاء للقبيلة وللايدولوجيا وللعرق وللشريحة وللجهة وللدول الشقيقة أو الصديقة حتى؟
جواب: سأجيب على هذا السؤال بطرح سؤال آخر، يعكس الوجه الآخر للسؤال المطروح : هل النظام الحالي يشكل صمام أمان ضد حدوث فتنة بين مكونات الشعب الموريتاني؟
بالتأكيد لا، فهذا النظام كاد أن يُحدث فتنة بين الطلاب العرب والزنوج في جامعة نواكشوط، ولقد تم تعيين أحد الطلاب الذين شاركوا في تلك الأحداث في وظيفة سامية في القصر الرئاسي في سابقة من نوعها. وهذا النظام هو الذي كاد أن يحدث فتنة في بعض مدن الضفة وفي العاصمة بسبب طريقة السيئة التي أخرج بها مشروع الإحصاء، والذي كان بحق مشروعا متميزا. وهذا النظام هو الذي ارتفعت في عهده كل الأصوات المتطرفة، وتجرأت على أن تقول وتفعل ما لم تستطع قوله أو فعله في الأنظمة السابقة،  فعلا صوت "إيرا"، وظهرت "حركة لا تلمس جنسيتي"، والمصيبة أن بعض المنتسبين للحركتين تظاهرا بالأمس ضد حكم "البيظان" العنصري كما سموه  في سابقة خطيرة من نوعها، لم تحدث في عهد أي نظام سابق، وهنا لابد أن افتح قوسا لأقول بأني شعرت بالاشمئزاز من بيان التكتل الأخير الذي ندد فيه بقمع تلك المظاهرات، وله الحق في ذلك، ولكنه لم يندد في البيان المذكور، بتلك الشعارات العنصرية البغيضة التي رفعها من شارك في تلك المظاهرات .
إن النظام الحالي يشكل خطرا كبيرا على الوحدة الوطنية، أكثر من الخطر الذي قد تحدثه أي فوضى، ولعل من اللافت أن الوحدة الوطنية لم يتم تهديدها إلا في ظل حكم الأنظمة التي حاولت أن تُظهر للشعب بأنها أنظمة قوية، وإن كانت حقيقتها عكس ذلك، كما هو الحال بالنسبة  لنظام "معاوية"، ولنظام "محمد عبد العزيز"، (حاول أن تكتشف سبعة فوارق طفيفة بين النظامين، ولك مني جائزة). أما في الأوقات التي يغيب فيها النظام تماما، كما حدث أثناء المحاولة الانقلابية الفاشلة 8 يونيو 2003، فلم يفكر الموريتانيون في أن يرفع بعضهم السلاح في وجه البعض الآخر. وهذه ليست دعاية للفوضى، فالفوضى قد تتسبب في كل شيء، وقد تؤدي بانهيار البلد، ولكن ذلك بالتأكيد لا يعني بأن بقاء نظام "ولد عبد العزيز" لن يؤدي إلى انهيار البلد.
وفي ظل هذا النظام حاولت أكثر من مائة وخمسين شخصية موريتانية، التحق بها فيما بعد المئات من كل الأعراق والشرائح، ومن مختلف المشارب السياسية، كان من بينهم الشاب والشيخ، والمرأة والرجل، والفقيه، والمفكر، والمغترب، والشاعر، والأستاذ الجامعي، والطالب، والخبير، والموالي، والمعارض، والإسلامي، واليساري، والناصري، والبعثي، والليبرالي، وغير ذلك من تلك التصنيفات التي لا أفقه عنها الكثير، والتي تصيبني بالدوار، حاولوا جميعا أن يؤسسوا مبادرة تعزز من اللحمة بين مكونات هذا الشعب، وتساهم ميدانيا في مواجهة المخاطر التي تهدد وحدة هذا الشعب، خاصة منها مشكلة الرق.
كانت هذه المبادرة، والتي سمت نفسها بحراس المستقبل، تسعى لأن تجعل من قضية محاربة الرق، قضية وطنية يحاربها ـ ميدانيا لا نظريا فقط ـ كل شرائح ومكونات الشعب الموريتاني.
ومنذ عامين تقريبا والنظام الحاكم يماطل في منح ترخيص لهذه المبادرة، ويحول بينها وبين تنفيذ أنشطتها، والتي كانت ستعزز حتما من اللحمة بين مكونات هذا الشعب، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه لما يعزز تلك اللحمة.
إن نظاما يرفض الترخيص لحراس المستقبل في مثل هذه الظرفية العصيبة، لن يكون هو النظام الذي سيعزز من اللحمة الوطنية.
يبقى أن أذكر هنا بأن رفض الترخيص لحراس المستقبل لم يندد به أي حزب سياسي، ولم يتحدث عنه أي نائب من المعارضة أو الموالاة  أمام وزير الداخلية، رغم أنهم تحدثوا كثيرا في أمور أقل أهمية، وتلك قصة أخرى.
أخيرا لقد اكتملت هذه الحلقات من قبل الإجابة على السؤال : هل يجوز أن نطالب بالرحيل خلف القيادات الحالية للمعارضة، والتي أخطأت في حقنا كثيرا ؟ ذلك سؤال سأخصص له ـ إن شاء الله ـ مقالا كاملا.
تصبحون على بصيرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق