في مثل هذا الشهر من العام 1958، أي قبل ست وستين سنة من الآن، صدر العدد الأول من مجلة العربي، هدية الكويت إلى العرب، فكانت تلك الهدية هي أعظم هدية يمكن أن تقدم للعرب في تلك الفاصلة من تاريخهم، حيث كان الاستعمار يبسط سيطرته على العديد من الدول العربية، وحيث كان المد القومي في تشكله.
قدمت الكويت هديتها للعرب من قبل أن تحصل على استقلالها، واستطاعت ـ وهذا ما فشلت فيه تجارب عديدة أخرى ـ أن تُبعد المجلة عن المصالح القطرية الضيقة، وعن الخلافات السياسية الآنية، وأن تنآى بها عن التدخل في سياستها التحريرية، وذلك هو ما جعلها تُحتضن في كل بيت عربي من مشرق بلاد العرب إلى مغربها، وهو ما جعلها أيضا تُعَمَّر لأكثر من ستة عقود، دون توقف، وتلك حالة نادرة ، إن لم أقل حالة يتيمة وفريدة من نوعها، في الصحافة العربية المكتوبة.
تستحق مجلة العربي في زماننا هذا الذي هيمنت فيه مواقع التواصل الاجتماعي، و تراجع فيه كثيرا تأثير الصحافة المكتوبة أن يتذكرها قراؤها القدامي من مختلف الأجيال والأعمار، وفي كل الدول العربية، بنشاط تكريمي، أو على الأقل بكلمة شكر، ولأن المجلة تستحق، ولأننا في موريتانيا أولى بذلك من أي بلد عربي آخر، فقد جاء هذا التكريم الذي أردنا من خلاله أن نقول للمجلة الرائدة ولرؤساء تحريرها ولكل العاملين فيها، رحم الله من توفي منهم، وأطال في عمر الأحياء: شكرا لكم على ما قدمتم للقارئ العربي من محتوى ثقافي مفيد خلال العقود الست الماضية، وشكرا لكم على استطلاعاتكم المتميزة في زاوية العربي الشهيرة "أعرف وطنك أيها العربي"، والتي عرفت العرب بعضهم ببعض.
وشكرا لكم ـ بشكل خاص ـ من موريتانيا، على الاستطلاعات المتتالية التي خصصتم لبلادنا في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في السنوات: 1967 و1968 و1969، وهي سنوات كانت فيها بلادنا تسعى للانضمام إلى الجامعة العربية، وكانت بأمس الحاجة إلى من يقدمها إلى العرب، فإذا بمجلة العربي ومن خلال استطلاعاتها تنصب نفسها ـ مشكورة ـ سفيرة متجولة لموريتانيا في كل البلدان العربية، فقدمت بلادنا بلسان عربي فصيح للنخب والقادة العرب على حد سواء، فمجلة العربي كانت في تلك الفترة هي أفضل صندوق بريد مضمون وسريع يمكن أن توجه من خلاله الرسائل إلى الأشقاء العرب، فقد كانت نسخها الموزعة تصل إلى 250 ألف نسخة، بل إنها زادت على ذلك الرقم في إحدى سنوات الذروة.
وكان يُطالعها بعض القادة العرب ممن يعود إليهم القرار بقبول انضمام بلادنا للجامعة العربية، فقد جاء في مقال للكاتب إبراهيم فرغلي تحت عنوان : "عهود العربي الأربعة " نُشر في العدد رقم 589 الصادر في شهر سبتمبر من العام 2007، أن عددا من رؤساء الدول العربية بعثوا رسائل تهنئة لمجلة العربي ورئيس تحريرها، و ذكر منهم : رئيس مصر جمال عبد الناصر، وملك المغرب محمد الخامس، والرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، وحاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد بن خليفة، وملك ليبيا محمد إدريس السنوسي، ورئيس الحكومة المؤقتة في الجزائر فرحات عباس رحم الله الجميع.
لا يحتاج من طالع تلك الاستطلاعات الثلاث إلى جهد فكري كبير ليستنتج أن من يقف وراء تلك الاستطلاعات، كان يسعى بالفعل ـ وبكل صدق ـ إلى تعريف العرب بموريتانيا، وإلى حثِ القادة العرب بقبول انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية، ولكم أن تقرؤوا الآن ـ وبتأمل ـ خاتمة كل استطلاع من تلك الاستطلاعات لتتأكدوا من ذلك.
ليس هذا فقط، فعلى مستوى الدبلوماسية الثقافية، فإن استطلاعات مجلة العربي هي التي منحتنا لقب بلاد المليون شاعر، وهو اللقب الذي ما زال يُتداول بشكل واسع لدى النخب العربية.
وشكرا لمجلة العربي على ما قدمت لجيلنا ولأجيال عديدة أكبر وأخرى أصغر من محتوى ثقافي وعلمي مفيد حبب إلينا المطالعة، وشجع بعضنا على الكتابة ليكون مثل كُتَّاب العربي، وأنا من الذين يُرجعون لمجلة العربي الفضل الأكبر في التفكير بالكتابة.
وشكرا لمجلة العربي، وهذا شكر لابد أن يذكر في هذا المقام، وفي هذه الأيام بالذات، ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، شكرا لها على ما قدمت للغة العربية خلال العقود الست الماضية من خدمات جليلة، ويكفي أن أذكر هنا ـ وكمثال سريع ـ أن كلمة "استطلاع" التي اشتهرت بها مجلة العربي قد فرضها أحمد زكي رحمه الله لتكون بديلا عربيا أصيلا لكلمة ريبورتاج.
ومن قبل أختم هذه الكلمة، فلابد من أتوجه بشكر خاص لرئيس التحرير السابق للمجلة الدكتور عادل سالم العبد الجادر الذي استضافني في مكتبه بمقر المجلة ذات زيارة للكويت في العام 2016، وعَبَّر عن استعداده لإعداد استطلاع جديد عن موريتانيا، كما أشكر رئيس التحرير الحالي إبراهيم المليفي الذي رحب بفكرة استطلاع جديد عن موريتانيا، واستجاب للدعوة التي وصلته من معالي وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان الدكتور الحسين ولد مدو، فأرسل إلى شنقيط في نسختها الحالية من مهرجان مدائن التراث فريق العربي المتميز الكاتب عبد العزيز الصوري والمصور صالح تقي، فسارا على خطى سليم زبال وأوسكار متري في العام 1968، وننتظر منهما في الأعداد القادمة من المجلة استطلاعا عن شنقيط في العام 2024 لا يقل تميزا عن أول استطلاع عن هذه المدينة، والذي نُشر في شهر سبتمبر من العام 1968 في عدد مجلة العربي رقم 118.
كان ذلك هو نص كلمتي خلال الحفل الذي أقمناه تكريماً لمجلة العربي، والذي سلمنا في ختامه وسام امتنان للمجلة كُتِب فيه: "يتقدم قراء مجلة العربي في موريتانيا من مختلف الأجيال والأعمار بجزيل الشكر والامتنان لمجلة العربي، رؤساء تحرير وعاملين، على ما قدموا من محتوى مفيد للقارئ العربي خلال 66 سنة الماضية، وعلى ما خصوا به موريتانيا من استطلاعات للتعريف بها."
نواكشوط : 17 ـ 12 ـ 2024
• يدخل حفل التكريم هذا في إطار جهود شخصية في مجال الدبلوماسية الشعبية والثقافية بدأت في العام 2016، تسعى لتعزيز العلاقات الأخوية بين الدولتين الشقيقتين : موريتانيا والكويت.
حفظ الله موريتانيا والكويت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق