جاء في مقال "خذ الفرشاة واكمل اللوحة" المنشور في كتاب "أيها المواطنون الصالحون أنتم المشكلة" أن الاهتمام بالشأن العام ينقسم إلى ثلاثة مستويات، أو ثلاث درجات، وبين كل درجة ودرجة مسافة شاسعة جدا.
المستوى الأول (الدرجة الأولى): هي أن تنزل إلى الميدان وتحاول أن تُصلح ما يمكن إصلاحه من خلل، وبما تملك من وسائل متاحة، وهذه هي أعلى درجات الاهتمام بالشأن العام، وهي من أصعبها، ومن أكثرها ندرة لدى نخبنا؛
المستوى الثاني (الدرجة الثانية): هي أن تُنْتِج الأفكار وتُقدم المقترحات لمن بيده الأمر، ويمتلك القدرة على التنفيذ؛
المستوى الثالث (أو الدرجة الثالثة): وهذه هي أدنى درجات الاهتمام بالشأن العام، وأقلها قيمة، وهي التي تتزاحم عليها نخب البلد، ولا يعني هذا أنها بلا قيمة. نعم لها قيمتها، حتى وإن كانت أقل بكثير من قيمة المستويين الأول والثاني، ويكتفي أصحاب هذا المستوى من الاهتمام بالشأن العام بالكتابة إظهارا لخلل ما أو تثمينا لمنجز ما، ودون تقديم مقترحات في كلا الحالتين، ودون أن ينزلوا إلى الميدان لتصحيح الخلل الذي أظهروه أو لتعزيز المنجز الذي ثمنوه.
وحتى لا أكون ممن يأمرون بما لم يفعلوا، فإني أحاول دائما أن أطبق ما أدعو إليه، وأن أبدأ بالمستوى الأول، أي النزول إلى الميدان، كلما كان ذلك ممكنا، فإن عجزت عن ذلك، حاولتُ في المستوى الثاني، فإن لم أتمكن من تقديم أفكار ومقترحات، نزلتُ إلى المستوى الثالث، واكتفيتُ بالكتابة نقدا أو تثمينا كما يفعل الكثير من المهتمين بالشأن العام.
هذا بشكل عام، وإذا ما تحدثنا عن نسخة شنقيط الحالية من مهرجان مدائن التراث بشكل خاص، فبالعودة إلى المستويات الثلاثة أعلاه، فيمكن القول أن مساهمتي في المهرجان كانت معدومة في خانة المستوى الأول، والتي تزاحمت فيها غالبية المهتمين بالشأن العام، حيث نُشر الكثير من المقالات المنتقدة والمثمنة لنسخة شنقيط الأخيرة من مهرجان مدائن التراث. أما على المستوى الثاني، فكانت مساهمتي عبارة عن مقترح وحيد، وهو المقترح الذي استجاب له معالي وزير الثقافة مشكورا، فتمت دعوة مجلة العربي للمهرجان، ومجلة العربي ـ لمن لا يعلم ـ يرجع لها الفضل في التعريف بموريتانيا من خلال استطلاعاتها المتميزة في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، وكان من بين تلك الاستطلاعات استطلاعا عن مدينة شنقيط، والذي يُعَدُّ هو أول استطلاع صحفي عربي يُعدُّ عن المدينة.
أما على المستوى الأول فكانت مساهمتي في المهرجان عبارة عن ثلاثة أنشطة ميدانية :
1 ـ ورشة تدريبية لصالح عدد من النشطاء الثقافيين في مدينة شنقيط، وكانت هذه الورشة عن الموهبة : اكتشافها واستغلالها وصناعتها، وهي تدخل ضمن الأنشطة التطوعية التي أقدمها في إطار برنامج خطوة التدريبي لاكتشاف وتنمية المواهب الشبابية؛
2 ـ حملة توعوية في السلامة الطرقية على هامش المهرجان، وذلك بالتعاون مع أحد نشطاء حملة معا للحد من حوادث السير الذي شارك في المهرجان بصفته الصحفية، وقد تمكنا نحن الاثنين من تثبيت العديد من اللافتات التوعوية على الطريق : نواكشوط ـ أكجوجت ـ أطار ـ شنقيط، كما وزعنا عددا من القصاصات الإرشادية على سائقي وكالات تأجير السيارات الذين تولوا نقل ضيوف المهرجان.
ولله الحمد، فإن هذه النسخة من مهرجان مدائن التراث كانت هي النسخة الأقل حوادث سير، ولم تسجل فيها ـ عكس بعض النسخ السابقة ـ أيُّ حالة وفاة لله الحمد، وذلك مع العلم أن عدد السيارات كان أكثر في هذه النسخة؛
3 ـ تنظيم حفل تكريمي لمجلة العربي ولفريقها المشارك في نسخة شنقيط لهذا العام، وستعدُّ المجلة استطلاعا جديدا عن مدينة شنقيط، هذا فضلا عن تقرير عن المهرجان، واستطلاعا ثانيا عن العاصمة نواكشوط.
ولأني أعلم بأن هناك طائفة كبيرة من المدونين على قناعة تامة بأنه لا يمكن لأي أحد أن يقوم بأي نشاط لصالح الوطن دون أخذ مقابل، ولأني أعلم بأن البعض من تلك الطائفة سيسارع إلى الحديث عن مبالغ مالية خيالية أخذتها مقابل هذه الأنشطة، فلهؤلاء أقول : لا تبالغوا كثيرا عند تحديد المبالغ المأخوذة مقابل هذه الأنشطة، ومع أني لا أحب أن أصدمكم، ولكن، أرجو أن تسمحوا لي أن أقول لكم بأن كل هذه الأنشطة لم تدفع الدولة مقابلها أوقية واحدة، ولم تدعمها أي مؤسسة عامة أو خاصة، وكانت كلها على حساب مُنَظِّمها.
لا يعني هذا الكلام أني ضد أخذ الدعم من أي جهة حكومية، ولو أن وزارة تمكين الشباب دعمت النشاط المتعلق بالشباب، ووزارة التجهيز والنقل دعمت النشاط المتعلق بالتوعية ضد حوادث السير، ووزارة الثقافة دعمت النشاط التكريمي لمجلة العربي، لو أن ذلك حصل، لكانت هذه الأنشطة أفضل مما ظهرت به، ولكان أثرها أكبر.
أوصي مستقلا، وهذا مقترحٌ يتنزل في المستوى الثاني، أن تكون هناك على هامش كل نسخة من مهرجان مدائن التراث، دورات تدريبية لتعزيز بعض المهارات الناعمة أو الصلبة لدى شباب المدن القديمة تتكفل بها وزارة تمكين الشباب، وحملات توعوية في السلامة الطرقية تتكفل بها وزارة التجهيز والنقل، وتكريمات لضيوف المهرجان الأجانب من دبلوماسيين وباحثين وإعلاميين تتكفل بها وزارة الثقافة، وذلك بعد أن كرمت في النسخة الحالية بعض الباحثين الوطنيين، وقد أعطى فخامة الرئيس الإشارة إلى أهمية تكريم الضيوف الأجانب من خلال توشيحه لعالم الآثار الفرنسي "بيرنار سيزون".
حفظ الله موريتانيا..