السبت، 21 ديسمبر 2024

أنشطة ميدانية على هامش مهرجان شنقيط


جاء في مقال "خذ الفرشاة واكمل اللوحة" المنشور في كتاب "أيها المواطنون الصالحون أنتم المشكلة" أن الاهتمام بالشأن العام ينقسم إلى ثلاثة مستويات، أو ثلاث درجات، وبين كل درجة ودرجة مسافة شاسعة جدا.

المستوى الأول (الدرجة الأولى): هي أن تنزل إلى الميدان وتحاول أن تُصلح ما يمكن إصلاحه من خلل، وبما تملك من وسائل متاحة، وهذه هي أعلى درجات الاهتمام بالشأن العام، وهي من أصعبها، ومن أكثرها ندرة لدى نخبنا؛

المستوى الثاني (الدرجة الثانية): هي أن تُنْتِج الأفكار وتُقدم المقترحات لمن بيده الأمر، ويمتلك القدرة على التنفيذ؛

المستوى الثالث (أو الدرجة الثالثة): وهذه هي أدنى درجات الاهتمام بالشأن العام، وأقلها قيمة، وهي التي تتزاحم عليها نخب البلد، ولا يعني هذا أنها بلا قيمة. نعم لها قيمتها، حتى وإن كانت أقل بكثير من قيمة المستويين الأول والثاني، ويكتفي أصحاب هذا المستوى من الاهتمام بالشأن العام بالكتابة إظهارا لخلل ما أو تثمينا لمنجز ما، ودون تقديم مقترحات في كلا الحالتين، ودون أن ينزلوا إلى الميدان لتصحيح الخلل الذي أظهروه أو لتعزيز المنجز الذي ثمنوه.

وحتى لا أكون ممن يأمرون بما لم يفعلوا، فإني أحاول دائما أن أطبق ما أدعو إليه، وأن أبدأ بالمستوى الأول، أي النزول إلى الميدان، كلما كان ذلك ممكنا، فإن عجزت عن ذلك، حاولتُ في المستوى الثاني، فإن لم أتمكن من تقديم أفكار ومقترحات، نزلتُ إلى المستوى الثالث، واكتفيتُ بالكتابة نقدا أو تثمينا كما يفعل الكثير من المهتمين بالشأن العام.

هذا بشكل عام، وإذا ما تحدثنا عن نسخة شنقيط الحالية من مهرجان مدائن التراث بشكل خاص، فبالعودة إلى المستويات الثلاثة أعلاه، فيمكن القول أن مساهمتي في المهرجان كانت معدومة في خانة المستوى الأول، والتي تزاحمت فيها غالبية المهتمين بالشأن العام، حيث نُشر الكثير من المقالات المنتقدة والمثمنة لنسخة شنقيط الأخيرة من مهرجان مدائن التراث. أما على المستوى الثاني، فكانت مساهمتي عبارة عن مقترح وحيد، وهو المقترح الذي استجاب له معالي وزير الثقافة مشكورا، فتمت دعوة مجلة العربي للمهرجان، ومجلة العربي ـ لمن لا يعلم ـ يرجع لها الفضل في التعريف بموريتانيا من خلال استطلاعاتها المتميزة  في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، وكان من بين تلك الاستطلاعات استطلاعا عن مدينة شنقيط، والذي يُعَدُّ هو أول استطلاع صحفي  عربي يُعدُّ عن المدينة.

أما على المستوى الأول فكانت مساهمتي في المهرجان عبارة عن ثلاثة أنشطة ميدانية :

1 ـ ورشة تدريبية لصالح عدد من النشطاء الثقافيين في مدينة شنقيط، وكانت  هذه الورشة عن الموهبة : اكتشافها واستغلالها وصناعتها، وهي تدخل ضمن الأنشطة التطوعية التي أقدمها  في إطار برنامج خطوة التدريبي لاكتشاف وتنمية المواهب الشبابية؛

2 ـ حملة توعوية  في السلامة الطرقية على هامش المهرجان، وذلك بالتعاون مع أحد نشطاء حملة معا للحد من حوادث السير الذي شارك في المهرجان بصفته الصحفية، وقد تمكنا نحن الاثنين من تثبيت العديد من اللافتات التوعوية على الطريق : نواكشوط ـ أكجوجت ـ أطار ـ شنقيط، كما وزعنا عددا من القصاصات الإرشادية على سائقي وكالات تأجير السيارات الذين تولوا نقل ضيوف المهرجان.

ولله الحمد، فإن هذه النسخة من مهرجان مدائن التراث كانت هي النسخة الأقل حوادث سير، ولم تسجل فيها ـ عكس بعض النسخ السابقة  ـ  أيُّ حالة وفاة لله الحمد، وذلك مع العلم أن عدد السيارات كان أكثر في هذه النسخة؛

3 ـ تنظيم حفل تكريمي لمجلة العربي ولفريقها المشارك في نسخة شنقيط لهذا العام، وستعدُّ المجلة استطلاعا جديدا عن مدينة شنقيط، هذا فضلا عن تقرير عن المهرجان، واستطلاعا ثانيا عن العاصمة نواكشوط.

ولأني أعلم بأن هناك طائفة كبيرة من المدونين على قناعة تامة بأنه لا يمكن لأي أحد أن يقوم بأي نشاط لصالح الوطن دون أخذ مقابل، ولأني أعلم بأن البعض من تلك الطائفة سيسارع إلى الحديث عن مبالغ مالية خيالية أخذتها مقابل هذه الأنشطة، فلهؤلاء أقول : لا تبالغوا كثيرا عند تحديد المبالغ المأخوذة مقابل هذه الأنشطة، ومع أني لا أحب أن أصدمكم، ولكن، أرجو أن تسمحوا لي أن أقول لكم بأن كل هذه الأنشطة لم تدفع الدولة مقابلها أوقية واحدة، ولم تدعمها أي مؤسسة عامة أو خاصة، وكانت كلها على حساب مُنَظِّمها.

لا يعني هذا الكلام أني ضد أخذ الدعم من أي جهة حكومية، ولو أن وزارة تمكين الشباب دعمت النشاط المتعلق بالشباب، ووزارة التجهيز والنقل دعمت النشاط المتعلق بالتوعية ضد حوادث السير، ووزارة الثقافة دعمت النشاط التكريمي لمجلة العربي، لو أن ذلك حصل، لكانت هذه الأنشطة أفضل مما ظهرت به، ولكان أثرها أكبر.

أوصي مستقلا، وهذا مقترحٌ يتنزل في المستوى الثاني، أن تكون هناك على هامش كل نسخة من مهرجان مدائن التراث، دورات تدريبية لتعزيز بعض المهارات الناعمة أو الصلبة لدى شباب المدن القديمة تتكفل بها وزارة تمكين الشباب، وحملات توعوية في السلامة الطرقية تتكفل بها وزارة التجهيز والنقل، وتكريمات لضيوف المهرجان الأجانب من دبلوماسيين وباحثين وإعلاميين تتكفل بها وزارة الثقافة، وذلك بعد أن كرمت في النسخة الحالية بعض الباحثين الوطنيين، وقد أعطى فخامة الرئيس الإشارة إلى أهمية تكريم الضيوف الأجانب من خلال توشيحه لعالم الآثار الفرنسي "بيرنار سيزون".


حفظ الله موريتانيا..



الخميس، 19 ديسمبر 2024

شكرا مجلة العربي•


في مثل هذا الشهر من العام 1958، أي قبل ست وستين سنة من الآن، صدر العدد الأول من مجلة العربي، هدية الكويت إلى العرب، فكانت تلك الهدية هي أعظم هدية يمكن أن تقدم للعرب في تلك الفاصلة من تاريخهم، حيث كان الاستعمار يبسط سيطرته على العديد من الدول العربية، وحيث كان المد القومي في تشكله.

قدمت الكويت هديتها للعرب من قبل أن تحصل على استقلالها، واستطاعت ـ وهذا ما فشلت فيه تجارب عديدة أخرى ـ أن تُبعد المجلة عن المصالح القطرية الضيقة، وعن الخلافات السياسية الآنية، وأن تنآى بها عن التدخل في سياستها التحريرية، وذلك هو ما جعلها تُحتضن في كل بيت عربي من مشرق بلاد العرب إلى مغربها، وهو ما جعلها أيضا تُعَمَّر لأكثر من ستة عقود، دون توقف، وتلك حالة نادرة ، إن لم أقل حالة يتيمة وفريدة من نوعها، في الصحافة العربية المكتوبة.

تستحق مجلة العربي في زماننا هذا الذي هيمنت فيه مواقع التواصل الاجتماعي، و تراجع فيه كثيرا تأثير الصحافة المكتوبة أن يتذكرها قراؤها القدامي من مختلف الأجيال والأعمار، وفي كل الدول العربية، بنشاط تكريمي، أو على الأقل بكلمة شكر، ولأن المجلة تستحق، ولأننا في موريتانيا أولى بذلك من أي بلد عربي آخر، فقد جاء هذا التكريم الذي أردنا من خلاله أن نقول للمجلة الرائدة ولرؤساء تحريرها ولكل العاملين فيها، رحم الله من توفي منهم، وأطال في عمر الأحياء: شكرا لكم على ما قدمتم للقارئ العربي من محتوى ثقافي مفيد خلال العقود الست الماضية، وشكرا لكم على استطلاعاتكم المتميزة في زاوية العربي الشهيرة "أعرف وطنك أيها العربي"، والتي عرفت العرب بعضهم ببعض.

وشكرا لكم ـ بشكل خاص ـ من موريتانيا، على الاستطلاعات المتتالية التي خصصتم لبلادنا في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في السنوات: 1967 و1968 و1969، وهي سنوات كانت فيها بلادنا تسعى للانضمام إلى الجامعة العربية، وكانت بأمس الحاجة إلى من يقدمها إلى العرب، فإذا بمجلة العربي ومن خلال استطلاعاتها تنصب نفسها ـ مشكورة ـ سفيرة متجولة لموريتانيا في كل البلدان العربية، فقدمت بلادنا بلسان عربي فصيح للنخب والقادة العرب على حد سواء، فمجلة العربي كانت في تلك الفترة هي أفضل صندوق بريد مضمون وسريع يمكن أن توجه من خلاله الرسائل إلى الأشقاء العرب، فقد كانت نسخها الموزعة تصل إلى 250 ألف نسخة، بل إنها زادت على ذلك الرقم في إحدى سنوات الذروة.

وكان يُطالعها بعض القادة العرب ممن يعود إليهم القرار بقبول انضمام بلادنا للجامعة العربية، فقد جاء في مقال للكاتب إبراهيم فرغلي تحت عنوان : "عهود العربي الأربعة " نُشر في العدد رقم 589 الصادر في شهر سبتمبر من العام 2007، أن عددا من رؤساء الدول العربية بعثوا رسائل تهنئة لمجلة العربي ورئيس تحريرها، و ذكر منهم : رئيس مصر جمال عبد الناصر، وملك المغرب محمد الخامس، والرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، وحاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد بن خليفة، وملك ليبيا محمد إدريس السنوسي، ورئيس الحكومة المؤقتة في الجزائر فرحات عباس رحم الله الجميع.

لا يحتاج من طالع تلك الاستطلاعات الثلاث إلى جهد فكري كبير ليستنتج أن من يقف وراء تلك الاستطلاعات، كان يسعى بالفعل ـ وبكل صدق ـ إلى تعريف العرب بموريتانيا، وإلى حثِ القادة العرب بقبول انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية، ولكم أن تقرؤوا الآن ـ وبتأمل ـ خاتمة كل استطلاع من تلك الاستطلاعات لتتأكدوا من ذلك.

ليس هذا فقط، فعلى مستوى الدبلوماسية الثقافية، فإن استطلاعات مجلة العربي هي التي منحتنا لقب بلاد المليون شاعر، وهو اللقب الذي ما زال يُتداول بشكل واسع لدى النخب العربية.

وشكرا لمجلة العربي على ما قدمت لجيلنا ولأجيال عديدة أكبر وأخرى أصغر من محتوى ثقافي وعلمي مفيد حبب إلينا المطالعة، وشجع بعضنا على الكتابة ليكون مثل كُتَّاب العربي، وأنا من الذين يُرجعون لمجلة العربي الفضل الأكبر في التفكير بالكتابة.

وشكرا لمجلة العربي، وهذا شكر لابد أن يذكر في هذا المقام، وفي هذه الأيام بالذات، ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، شكرا لها على ما قدمت للغة العربية خلال العقود الست الماضية من خدمات جليلة، ويكفي أن أذكر هنا ـ وكمثال سريع ـ أن كلمة "استطلاع" التي اشتهرت بها مجلة العربي قد فرضها أحمد زكي رحمه الله لتكون بديلا عربيا أصيلا لكلمة ريبورتاج.

ومن قبل أختم هذه الكلمة، فلابد من أتوجه بشكر خاص لرئيس التحرير السابق للمجلة الدكتور عادل سالم العبد الجادر الذي استضافني في مكتبه بمقر المجلة ذات زيارة للكويت في العام 2016، وعَبَّر عن استعداده لإعداد استطلاع جديد عن موريتانيا، كما أشكر رئيس التحرير الحالي إبراهيم المليفي الذي رحب بفكرة استطلاع جديد عن موريتانيا، واستجاب للدعوة التي وصلته من معالي وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان الدكتور الحسين ولد مدو، فأرسل إلى شنقيط في نسختها الحالية من مهرجان مدائن التراث فريق العربي المتميز الكاتب عبد العزيز الصوري والمصور صالح تقي، فسارا على خطى سليم زبال وأوسكار متري في العام 1968، وننتظر منهما في الأعداد القادمة من المجلة استطلاعا عن شنقيط في العام 2024 لا يقل تميزا عن أول استطلاع عن هذه المدينة، والذي نُشر في شهر سبتمبر من العام 1968 في عدد مجلة العربي رقم 118.

كان ذلك هو نص كلمتي خلال الحفل الذي أقمناه تكريماً لمجلة العربي، والذي سلمنا في ختامه وسام امتنان للمجلة كُتِب فيه: "يتقدم قراء مجلة العربي في موريتانيا من مختلف الأجيال والأعمار بجزيل الشكر والامتنان لمجلة العربي، رؤساء تحرير وعاملين، على ما قدموا من محتوى مفيد للقارئ العربي خلال 66 سنة الماضية، وعلى ما خصوا به موريتانيا من استطلاعات للتعريف بها."

نواكشوط : 17 ـ 12 ـ 2024

• يدخل حفل التكريم هذا في إطار جهود شخصية في مجال الدبلوماسية الشعبية والثقافية بدأت في العام 2016، تسعى لتعزيز العلاقات الأخوية بين الدولتين الشقيقتين : موريتانيا والكويت.

حفظ الله موريتانيا والكويت..








الثلاثاء، 10 ديسمبر 2024

الفساد والاستعمار وجهان لكارثة واحدة


 لا أجد فرقا كبيرا بين دولة احتلتها قوة استعمارية، ودولة أخرى احتلها الفساد، ولا أجد من حيث الآثار السلبية على الدول  والشعوب أي فوارق تذكر بين ما يمكن أن يخلفه الاستعمار من كوارث على الدول والشعوب، وما يمكن أن يخلفه الفساد من كوارث على تلك الدول والشعوب.

فإذا ما نظرنا إلى حجم الأضرار والدمار وكل الآثار السلبية التي يمكن أن يخلفها الاستعمار، وتلك التي يمكن أن يخلفها الفساد وقارنا بينها، فإننا سنستنتج دون عناء  بأن الفساد والاستعمار ما هما إلا وجهان لكارثة واحدة.

لم تجد الدول والشعوب من بعد تحررها من الاستعمار تحديا أخطر من تفشي الفساد فيها، ومع أن هناك من يرى أن الأنظمة الاستبدادية قد تكون هي الأشد خطرا على الدول  بعد التحرر من الاستعمار إلا أن هذا القول غير صحيح، فبعض الأنظمة الاستبدادية ـ حتى وإن كانت قليلة جدا وتشكل استثناءً للقاعدة لا يعتد به ـ تمكنت من أن تحدث في بلدانها تنمية، أما الدول التي تفشى فيها الفساد، وسواء كانت دولا ديمقراطية أو استبدادية ، فإنها ظلت دول متخلفة.

لا توجد دولة واحدة في هذا العالم شهدت نهضة أو تنمية في ظل تفشي الفساد فيها، ولكن توجد دول شكلت استثناءً يؤكد صحة  القاعدة التي تقول بأنه لا تنمية مع الاستبداد، حيث استطاعت تلك الدول القليلة جدا أن تحقق تنمية في ظل أنظمة استبدادية.

لا أظنني بحاجة لأن أؤكد هنا بأني لستُ من دعاة الاستبداد، ولا يمكنني ـ بأي حال من الأحوال ـ  أن أكون من المروجين له، فبالنسبة لي فلا وجود ل"مستبد عادل" كما يروج لذلك البعض، فأينما وُجد الاستبداد غاب العدل تلقائيا. كل ما في الأمر هو أني أردتُ فقط أن أبين أنه إذا كان الاستبداد كارثة، فإن الفساد كارثة أكبر وأخطر، وأنه بعد التحرر من الاستعمار لا شيء  يمكن أن تبتلى به الدول أخطر من تفشي الفساد فيها.

وإذا كان الاستعمار ينهب ويسرق ثروات الشعوب فإن الفساد ينهب تلك الثروات ويسرقها، وربما بحجم أكبر، وإذا كان الاستعمار يُفسد القيم ويضعف الانتماء للوطن، ويدمر التعليم، ويتسبب في عدم الاستقرار، فإن الفساد يفعل نفس الشيء، فهو يهدد الاستقرار، ويضعف الانتماء للوطن، ويفسد القيم ويقلبها رأسا على عقب، ويدمر التعليم، وبه تنهار الصحة، وتضعف اللحمة الوطنية، هذا فضلا عن كونه يقضي على ما تبقى من ثقة في مؤسسات الدولة وهيبتها.

وإذا كان الاستعمار يحتاج إلى حرب تحرير يشارك فيها الجميع للتحرر منه، فإن الفساد يحتاج كذلك إلى حرب تحرير يُشارك فيها الجميع للتحرر منه.

ويبقى السؤال : هل نحن في موريتانيا على استعداد اليوم لخوض حرب تحررية حقيقية ضد الفساد الذي تفشى في بلادنا؟

اترك لكم الإجابة، على هذا السؤال الذي قررتُ أن أطرحه عليكم بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الفساد.  

حفظ الله موريتانيا..


الخميس، 5 ديسمبر 2024

عن لافتة حزب الإنصاف في سيلبابي!


أثارت لافتة حزب الإنصاف التي ظهرت مؤخرا في نشاط نظمه الحزب في مدينة سيلبابي جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعليقا على ذلك الجدل ـ ومع الاعتذار مسبقا عن التأخر بسبب الانشغال في فاجعة دار النعيم ـ فإليكم تعليقي، والذي سأناقش من خلاله الموضوع من زوايا أخرى، وسأفتتح التعليق بالتذكير بنص المادة 66 من القانون رقم 017/2018 المنظم للإشهار.

تقول هذه المادة : " تصاغ رسائل الإشهار على عموم التراب الوطني باللغة الرسمية واللغات الوطنية حسب الجمهور المستهدف، مع وجوب مراعاة سلامتها نحويا، ويمكن استخدام لغات أجنبية عند الاقتضاء...وتكون اللغة الأجنبية وجوبا تحت اللغة الرسمية أو اللغات الوطنية إذا رتبت اللغات بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل، وتكون اللغة الأجنبية على اليسار إذا رتبت اللغات أفقيا من اليمين إلى الشمال"؛

من الناحية الشكلية فقد كان من الأنسب أن تقول المادة من اليمين إلى اليسار بدلا من قولها من اليمين إلى الشمال."

وبخصوص المضمون، فيظهر من هذه المادة:

1 ـ أن كتابة اللغة الفرنسية على اللافتات ليست بالأمر الواجب، وهذا مما يجب أن يعلمه جميع منظمي الأنشطة الرسمية وغير الرسمية في بلادنا؛

2 ـ أن اللغات الأجنبية ـ وهذا مما يجب تكراره دائما ـ  لا تكتب على اللافتات وغيرها إلا عند الاقتضاء، فالأصل أن تكون اللافتة باللغة العربية فقط، ويمكن أن تُضاف إحدى لغاتنا الوطنية الأخرى حسب الجمهور المستهدف، وكان الأولى في حالتنا هذه إن كان لابد من إضافة لغة أخرى أن تكون اللغة المضافة هي السنونكية لا الفرنسية؛ 

3 ـ أن المادة 66 تحدثت عن لغات أجنبية، ولم تتحدث عن لغة أجنبية واحدة ومحددة. 

يعني هذا أنه إذا نظمت إدارة موريتانية ما نشاطا رسميا بالتعاون مع السفارة الأمريكية مثلا، فيمكن في هذه الحالة أن تكتب تلك الإدارة على لافتة النشاط  باللغة الإنجليزية بعد اللغة العربية، وأن تتجاهل كليا اللغة الفرنسية، وهي إن فعلت ذلك فلا يمكن اعتبارها قد خالفت قانون الإشهار؛

4 ـ أن وجوب مراعاة السلامة النحوية التي جاءت في المادة 66 خاصة باللغة العربية حصرا، وذلك لغياب النحو في لغاتنا الوطنية. أما اللغات الأجنبية فقد جاء ذكر السلامة النحوية من قبل أن تذكر تلك اللغات في المادة.

يظهر جليا من نص المادة 66  أنه لا يوجد أصلا ما يلزم حزب الإنصاف بكتابة اللغة الفرنسية على لافتة نشاطه في سيلبابي، وهو إن كتب اللغة الفرنسية عليها، وأخطأ في كتابتها، فلا شيء يترتب على ذلك قانونيا، أقول هذا لأني سمعتُ من يقول بأن سلطة تنظيم الإشهار قد بدأت تتحرك لمعاقبة حزب الإنصاف على لافتته المثيرة للجدل. 

لستُ ـ بطبيعة الحال ـ من دعاة "اتفلفيش" الذي عمت به البلوى، والإتقان بالنسبة لي أمرٌ مطلوب في كل الأحوال، و حتى عند مخالفة القانون، ولذا فقد كان على حزب الإنصاف بعد أن ألزم نفسه بأن يُترجم نص اللافتة إلى اللغة الفرنسية، كان عليه أن يحسن الترجمة ويتقنها، وأن يبتعد عن الترجمة السريعة من خلال الإنترنت.

المؤسف حقا أن استخدام الترجمة السريعة ودون أي تصحيح يستخدم في الغالب عند الكتابة باللغة العربية، ولكم أن تلقوا نظرة سريعة على اللافتات الإشهارية لواجهات المحلات والشركات في الأحياء الراقية، فستجدون أن الأخطاء لا تتوقف عند أخطاء ترجمة الإنترنت، بل إن الكثيرين لا يتعبوا أنفسهم بالترجمة، بل يكتفون فقط بكتابة الكلمة الأجنبية بالحرف العربي إمعانا في الاستهزاء باللغة الرسمية للبلد، ومع ذلك لا تجد من يَتَمَعَّرُ وجهه من ذلك.

المؤسف أكثر هو أن أسلوب الترجمة الذي استخدم في لافتة الإنصاف في سيلبابي هو نفس الأسلوب الذي يستخدم في الغالب عند ترجمة الوثائق الرسمية من الفرنسية إلى العربية، وهذا مما جعلني شخصيا أزهد في بعض الأحيان في المطالبة بالترجمة إلى اللغة العربية عند المشاركة في ملتقى أو ورشة تنظمها إدارة رسمية، وتوزع فيها وثائق باللغة الفرنسية فقط. 

عندما تطلب ترجمة الوثائق إلى العربية في حالة كهذه، تأتيك الوثائق مترجمة بأسلوب يُشابه كثيرا الأسلوب الذي اعتمده حزب الإنصاف في ترجمته  لافتته في سيلبابي إلى الفرنسية.

فلماذا أثارت لافتة الإنصاف في سيلبابي ضجة كبيرة، ولم تثر الأخطاء الإشهارية التي ترتكب يوميا في حق اللغة الرسمية للبلد أية ضجة؟

هناك أسباب عديدة لذلك لا يتسع المقام لتعدادها وبسطها، ولذا فسأكتفي بذكر أحد تلك الأسباب وهو أن التعود على أمر ما يؤدي إلى التعايش معه، ويصبح ـ بالتالي ـ  لا يلفت انتباه أي أحد.

وقد يصل مستوى التعود والتعايش إلى أن يصبح الخطأ عند الناس هو الصحيح، والصحيح عندهم هو الخطأ، وإليكم هذا المثال ذي الصلة القوية بما أريد إيصاله للقارئ الكريم من خلال هذا المقال.

في شهر أكتوبر من العام 2023 بدأنا في الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية بتعريب لوحات ترقيم سياراتنا، تفعيلا للمادة الثامنة من المرسوم رقم 31/2017 المنظم لترقيم لوحات السيارات، والذي أعطى مثالا للترقيم السليم (0377 أب 10)، وقد نُشر ذلك في عدد الجريدة الرسمية رقم 1388 بتاريخ 30 مايو 2017. هذا المرسوم وإن كان قد نص على الكتابة باللغتين العربية والفرنسية في بطاقة تسجيل السيارة، إلا أنه بالنسبة للوحات السيارات اقتصر فقط على اللغة العربية.

عندما بدأنا في الحملة بتعريب لوحات ترقيم سياراتنا، اتهمنا البعض بمخالفة القانون، والمصيبة الأكبر أن بعض عناصر أمن الطرق كانوا يوقفون البعض منا بحجة مخالفة القانون، مع أن من يخالف القانون حقا هو غالبية الموريتانيين التي تضع على لوحات ترقيم سياراتها الحرف اللاتيني.

بشيء من العزيمة والصبر تجاوزنا تلك المرحلة، ولكننا ما زلنا حتى الآن نواجه تحديين اثنين:

أولهما : أن لوحات ترقيم السيارات الحكومية، والتي يفترض أن تكون هي الأكثر حرصا على تطبيق القانون، ما زالت تخالف القانون؛

ثانيهما : أن البعض ممن عرَّب لوحات ترقيم سيارته دعما لنا في الحملة استخدم الأرقام الهندية بدلا من الأرقام العربية، وهو ما أحدث تشويشا وإرباكا لنا في بعض الأحيان.

إن من تسبب أصلا في هذا الإرباك والتشويش هو الجهات الرسمية نفسها، فهي التي تُصِرُّ أن تجذر الازدواجية في كل شيء، في اللغة، وحتى في الأرقام، ولذا فإنكم تجدون الأرقام الهندية في الجانب العربي من بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر وبطاقة تسجيل السيارة وكل الوثائق الرسمية الأخرى، بينما تجدون الأرقام العربية في الجانب الفرنسي من تلك الوثائق.

وحتى البنك المركزي فقد اعتمد نفس الأسلوب في كتابة الأعداد على وجهي الأوراق النقدية، فكانت الأرقام الهندية على الجانب العربي، والأرقام العربية على الجانب الفرنسي. 

الطريف في الأمر أن الجانب العربي في ورقة خمسين أوقية جديدة التي أطلقها البنك المركزي بمناسبة خمسينية إصدار عملتنا الوطنية تظهر فيه الأرقام الهندية والعربية معا، فتجد عليه 50 و ٥٠ في نفس الوقت.

صحيح أن الأرقام الهندية لها جذورها العربية، وصحيح كذلك أن بعض دول المشرق العربي تستخدمها، حتى وإن كان استخدامها قد بدأ يتراجع في بعض تلك الدول. كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا هو أن الأرقام المستخدمة في الغرب حاليا هي أرقام عربية في الأصل، فلماذا لا نتخلص فورا من ازدواجية الترقيم في بلادنا، فنوحد الترقيم في وثائقنا الرسمية، فمن يدري فربما يساعدنا ذلك مستقبلا في التخلص من ازدواجية اللغة في إدارتنا الرسمية؟

حفظ الله موريتانيا...

الأربعاء، 4 ديسمبر 2024

خففوا من الحديث عن شرائح الضحايا...


يُحاول البعض - عن حسن نية أو سوئها -  أن يتحدث عن ردود أفعال متباينة للمجتمع مع ضحايا جرائم الاغتصاب الأخيرة، ويفسر ذلك التباين تفسيرا شرائحيا مقيتا، وهذا التفسير غير سليم. 

لقد تابعت ردود فعل المجتمع على العديد من جرائم الاغتصاب في السنوات الماضية ، ويمكنني أن أقول بأن أقوى ردة فعل مجتمعية خلال تلك السنوات جاءت بعد اغتصاب الطفلة "خدي توري" (6 سنوات)، ورميها ميتة على الشاطئ (أكتوبر 2013)، ثم تلاها من حيث مستوى تفاعل المجتمع ردة الفعل على اغتصاب الطفلة زينب (10 سنوات) ضحى وكانت في طريقها إلى المحظرة ثم حرقها من بعد ذلك (23 دجمبر 2014)، وفي كلا الجريمتين تفاصيل صادمة، مع أن الجريمة صادمة في حد ذاتها.

إن مستوى تفاعل المجتمع وردود فعله على الجرائم يتأثر كثيرا ببعض التفاصيل الخاصة بكل جريمة، لا بلون الضحية أو عرقها أو شريحتها.

هناك تفاصيل صادمة مع أن جريمة الاغتصاب في حد ذاتها صادمة، وتزيد تلك التفاصيل من مستوى تفاعل المجتمع وردود فعله على الجرائم، وهذا يحدث في كل بلدان العالم، فهناك بعض التفاصيل التي قد تثير ردود فعل المجتمع أكثر من الجريمة نفسها، وفي اعتقادي أن وجود الأب المريض الذي لا يستطيع أن يتحرك، واغتصاب ابنته أمامه هو الذي زاد من حجم ردة فعل المجتمع على الجريمة الأخيرة، ولا علاقة للانتماء العرقي للضحية بالموضوع.

يمكنني أن أجزم تحليليا أنه لو لم يوجد الأب المريض في أحداث جريمة الاغتصاب الأخيرة لمرت هذه الجريمة بردود فعل باهتة كما مرت جرائم الاغتصاب التي سبقتها. 

إن الحديث عن عرق وشريحة المجرم هو أمر مقيت، والحديث كذلك عن عرق وشريحة الضحية هو أمر مقيت، واستحضار العرق أو الشريحة للتضامن مع الضحية أو لتفسير  مستوى التضامن هو أمر مقيت كذلك.

هذا التفسير الشرائحي لردود الفعل الذي يدفع به البعض  يتناقض كثيرا مع ما يحدث من تفاعل مع بعض الجرائم الأخرى، ولدي مثال يمكن تقديمه لإسكات كل من يحاول إدخال البعد الشرائحي والعرقي في ردود المجتمع ونخبه السياسية والإعلامية على ما يحدث من جرائم في البلد.

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2024

16 توصية للحد من الجريمة في بلادنا


قبل ثلاث سنوات من الآن، وتحديدا في يوم السبت الموافق 10 يوليو 2021، ونظرا لتسجيل عدة جرائم بشعة في تلك الفترة، نظمنا في "جمعية خطوة للتنمية الذاتية" في إطار أنشطتنا الفكرية ندوة نقاشية تحت عنوان : " التحدي الأمني وآليات مواجهته"، وقد شارك في هذه الندوة وزير عدل سابق، ومدير مساعد للأمن سابقا، وموظف سابق بإدارة السجون، وخبير في الأدلة الجنائية، وبعض الأساتذة الجامعيين في القانون وعلم الاجتماع، ومحامون، ونشطاء في المجتمع المدني.
المشاركون في هذه الندوة  تقدموا بجملة من المقترحات والتوصيات كان من أبرزها:
1ـ خلق آلية اجتماعية لإشراك المواطن في الحفاظ على الأمن؛
 2ـ فرض إلزامية التعليم وإعادة الاعتبار للمدرسة، مع التكفل بأبناء الأسر ذات الدخل المحدود؛
 3ـ إنشاء مراكز خاصة بعلاج الإدمان؛ 
 4ـ إنشاء حاضنات ثقافية ورياضية للشباب؛
 5ـ التعامل الجاد مع كل أشكال الغبن والتهميش وكل مظاهر غياب العدالة؛
6 ـ ضرورة مشاركة المجتمع، وخصوصا نخبه، في مجال التوعية والتحسيس ضد الجريمة؛ 
 7ـ تحيين الترسانة القانونية، والعمل على تعزيز قدرات الكادر البشري في سلك القضاء وأعوانه؛
 8ـ تفعيل عمل المؤسسات الإصلاحية من أجل دمج الشباب ذوي السوابق الجنائية في الحياة النشطة؛ 
 9ـ تفعيل التجنيد الإجباري والخدمة المدنية؛
10ـ إنشاء مرصد للجريمة وتحسين آليات الإحصاء المتعلقة بالجريمة، وتمكين استفادة الباحثين منها؛
11ـ تعزيز مراقبة الحدود، ومراجعة بعض حالات الدخول إلى البلاد دون تأشيرة؛ 
12ـ إنشاء شرطة الجوار؛
13ـ تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية وتشجيع التخصصات؛
14ـ إنشاء معهد يعني بالطب الشرعي والأدلة الجنائية؛
15ـ وقف تعطيل الأحكام القضائية والصرامة في تنفيذ تلك الأحكام؛
16ـ إشراك مراكز البحث في إعداد السياسات الاستشرافية المتعلقة بالمصالح الحيوية للبلد.
بعد ذلك نظمنا في الجمعية ندوة أخرى ذات صلة بالتحديات الأمنية، ولكن هذه المرة كان التركيز على التحديات الأمنية الخارجية، وكانت الندوة تحت عنوان: "الأوضاع الأمنية والسياسية في دول الساحل، وآثارها على موريتانيا"، وقد شارك في تلك الندوة خبراء في المجال، ولم تكن مخرجاتها بأقل أهمية من مخرجات الندوة الأولى.
هذا عن الأنشطة الفكرية لجمعية خطوة، أما عن أنشطتها المتعلقة بالتكوين والتدريب، فقد أطلقت الجمعية برنامجا تدريبيا رائدا لاكتشاف وتنمية المواهب الشبابية، وجاء هذا البرنامج التدريبي في إطار تفعيل الجمعية لبعض توصيات المشاركين في الندوة الأولى.
تمكنا في الجمعية من تنظيم دورات تدريبية لصالح العشرات من الشباب في  نواكشوط ولعيون وأكجوجت، وتقدمنا بمقترحين في غاية الأهمية لتوسيع هذا البرنامج ليشمل أكبر عدد ممكن من الشباب، أولهما وجهناه لمعالي وزيرة التربية وإصلاح نظام التعليم، وذلك من أجل إطلاق برنامج تدريبي واسع لاكتشاف المواهب الشبابية في المدارس الثانوية خلال العام الدراسي الحالي، وثانيهما لمعالي وزير تمكين الشباب والتشغيل والرياضة والخدمة المدنية، وذلك من أجل إطلاق برنامج تدريبي مماثل لصالح الشباب النشط في الأندية والجمعيات الشبابية.
لم نجد ـ حتى الآن ـ  أيَّ رد على أيٍّ من المقترحين، ومع ذلك فإننا لن نتوقف في الجمعية عن تقديم ما يمكننا تقديمه بجهودنا الذاتية لصالح شبابنا، ولن نتوقف كذلك عن تقديم المقترحات للجهات المعنية للقيام بما يجب القيام به لصالح شبابنا، فواقع شبابنا اليوم، وتفشي المخدرات والجريمة في صفوف فئات واسعة منه، وتنامي روح اليأس والإحباط في صفوفه ينذران بخطر كبير، وهو ما يستدعي منا جميعا التحرك السريع ومن قبل فوات الأوان، وابتداع أساليب جديدة  للتعامل مع الشباب، تختلف عن تلك الأساليب القديمة التي تسببت في ضياع الكثير من شبابنا، والتي بدأنا نحصد للأسف ثمارها من خلال ما نعيشه اليوم من جرائم غير مسبوقة، فوراء كل جريمة من تلك الجرائم التي يرتكبها قاصر أو شاب، أسرة فشلت في التربية، ومدرسة أخفقت في التعليم، ومجتمع بل ودولة بكاملها هيئاتها الرسمية والمدنية لم تتمكن من توفير ما يلزم من رعاية واحتضان لذلك الشاب أو القاصر الذي تحول إلى مجرم.  
حفظ الله موريتانيا..