الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة السادسة


كنت سعيدا جدا بانتقالي إلى المرحلة الإعدادية، وكان دخولي لتلك المرحلة يعني بالنسبة لي أشياءً كثيرة. فهو من جهة سيضع حدا نهائيا لعمليات الضرب والتعذيب التي كنت أتعرض لها في المرحلة الابتدائية. كما أنه سيمكنني من أستمع وأتحدث بشكل مباشر مع الأساتذة "العرب" الذين يُدرسون في الثانوية، والذين كنت أحلم دائما بالتحدث معهم، بل كنت أتتبعهم في سوق المدينة، لأسترق السمع إليهم، وهم يُحدثون خبازا هنا أو جزارا أو بائعة خضروات هناك. وهو فوق ذلك كله، أي الانتقال إلى المرحلة الإعدادية، سيمكنني من أن أمتلك وأكتب دروسي في دفاتر من فئة مائتي صفحة. لقد كنتٌ أعتقد، ولقد كان هذا الاعتقاد سائدا عند تلاميذ الابتدائية في تلك المرحلة، أنه لا يجوز لنا أن نملك أو نكتب إلا في دفاتر 32 صفحة، ما دمنا لم نتجاوز المرحلة الابتدائية.

وفي يوم الافتتاح من العام الدراسي 1979 ـ 1980 وليت وجهي شطر ثانوية لعيون التي دخلتها أول مرة، وأنا حافي القدمين، والسبب في ذلك أني وجدت عند المدخل الرئيسي بعض طلاب الثانوية الأقدم، وقد طلبوا مني أن أخلع نعلي، لأنه لا يجوز دخول الثانوية لغير الحفاة. رفضت في البداية أن أخلع نعلي، ولكني لما رأيتهم خلعوا نعالهم قبل الدخول، خلعت نعلي، وأخذت أسير معهم إلى مباني الإدارة، وأنا حافي القدمين.
قطعت عدة أمتار وأنا أسير حافي القدمين، ولم أتوقف عن السير حافيا، إلا بعد أن انفجر أحدهم ضاحكا، وبعد أن انتقلت عدوى الضحك إلى الآخرين.
كان هذا النوع من القصص يتكرر مع مطلع كل عام دراسي، ولم أكن بالتأكيد أنا هو الضحية الوحيد في ذلك العام الدراسي. ولقد حاولت أنا بدوري، في العام الموالي، أن أسخر من بعض طلاب الثانوية الجدد، كما سَخِرَ مني بعض طلابها الأقدمين، ولكني لم أوفق في ذلك. والحقيقة أني كثيرا ما كنتُ أخطط للأمور بشكل جيد، ولكني كنتُ أفشل دائما عند التنفيذ، ورغم أني الآن قد أصبحت أعرف السبب في ذلك، إلا أني في ذلك الوقت كنتُ أعتقد بأن ما يُفشل خططي، هو أني كنت أتعرض لمؤامرة كونية كبرى، تقودها الامبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتشارك فيها جهات عديدة أخرى، بما فيها معزاتنا الحمقاء، والتي لعبت أدوارا كثيرة في تنفيذ المخطط الجهنمي الذي يحاك ضد "شخصي الكريم".
وفي ذلك العام تم تخصيص مخزن كبير في الثانوية، لكي يستقبل طلاب الشعبة العربية. ولقد تم تقسيم المخزن عن طريق صفائح الخشب، إلى فصلين اثنين، استقبلا كل الناجحين في المسابقة العربية لدخول سنة أولى إعدادية من ثانوية لعيون. وكنا نحن طلاب الفصول العربية نشعر في ذلك الوقت، بالكثير من الإهانة، وسنعلم لا حقا بأن ذلك كان هو الحال بالنسبة لكل المؤسسات التعليمية في البلاد. كما سنعلم بعد عقد من الزمن، وعندما نتخرج، ونبدأ بالبحث عن وظائف، بأننا سُنعامل من طرف الإدارة، بنفس الإهانة والاحتقار التي عاملتنا بها ثانوية لعيون في ذلك العام الدراسي.
لم أعد أتذكر الآن أول حصة أحضرها في الفصل المخزن، ولكني لازلت أتذكر كل أساتذتي في ذلك العام، باستثناء أستاذ مادة الفرنسية. وكان من بين أساتذتي أربعة تونسيين، وهو ما يعني أني في ذلك العام الدراسي وجدت فرصة كبيرة للتحدث مع الأساتذة العرب.
وكان من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ التاريخ والجغرافيا، ويسمى على بالحاج. ولقد أحبني هذا الأستاذ كثيرا، وكان يدعوني إلى منزله من حين لآخر، وقد أهداني بعض كتب محمود المسعدي، التي لم أفهم منها شيئا، في ذلك الوقت، ولا أعتقد بأني سأفهم منها شيئا إن أعدت قراءتها الآن. والغريب أن نتائجي في التاريخ، كانت سيئة جدا، رغم صداقتي القوية بأستاذه. وكان أستاذ التاريخ يكتب لي ملاحظة بجنب النتيجة السيئة التي كنت أحصل عليها في اختباراته، وكانت الملاحظة تقول بأن خطي لا يمكن فك طلاسمه إلا في العقود القادمة، نظرا للطريقة الغريبة التي كنت أرسم بها الحروف.
وفي نهاية العام، قرر أستاذ التاريخ أن يصحح الدفاتر. ولقد حاولت أن أستغل تلك الفرصة، لأحصل ـ ولو لمرة واحدة ـ على نتيجة متميزة، تنال إعجاب أحب الأساتذة إليَّ، في أول عام لي في الثانوية. اشتريت دفترا جديدا، ونسخت فيه كل دروس التاريخ والجغرافيا في ذلك العام، واستخدمت القلم الأحمر لكتابة العناوين، وأقلام الرصاص الملونة لرسم الخرائط. وبعد جهد شاق، أصبحت أملك أروع دفتر للتاريخ والجغرافيا في كل الفصل، بل وفي كل ثانوية لعيون، إن لم أقل على عموم التراب الوطني . ونظرا لإعجابي بدفتر التاريخ، لم أكن أتركه ليفارقني، وفي الليلة التي سبقت تصحيح الدفاتر، نمت بشكل مفاجئ، ودفتر التاريخ قرب وسادتي، فجاءت معزاتنا الحمقاء، والتهمت الدفتر، ولم تترك منه إلا بعض الأوراق الممزقة.
ولم تكن تلك هي الحماقة الوحيدة التي ترتكبها معزاتنا الحمقاء، ولم تكن تلك هي المشاركة الوحيدة لمعزاتنا الحمقاء في المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد "شخصي الكريم".
فنفس المعزاة ستلتهم بعد ذلك سلسلة من قصص المغامرين الثلاثة، أو الخمسة، لم أعد أتذكر الآن عددهم بالضبط. والسلسلة جمعتها أنا وصديقي الذي تعرفت عليه في ذلك العام الدراسي، وهو نفس الصديق الذي سيساعدني ـ بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة ـ في إقناع الكاتب بتغيير عنوان هذه الرواية.
كنت أنا وصديقي هذا، ندخر كلما نحصل عليه من نقود، وذلك لنتمكن من شراء أعداد تلك السلسلة، والتي كانت تباع أعدادها أو أجزاؤها، بأسعار مجحفة بميزانيتنا المشتركة.
ولقد كنت أعُد معزاتنا الحمقاء بأنها من أهم مراجع التاريخ في المدينة، وأنها أول معزاة تتخصص قي تاريخ الفراعنة في مصر، نظرا لما التهمت من تاريخهم المسطر في دفتري الرائع. أما بعد أن التهمت سلسلة المغامرين الثلاثة أو الخمسة، فأصبحت أعتبرها، أنا وصديقي، بأنها أذكى معزاة في مدينة لعيون وضواحيها.
ومن بين أساتذتنا التونسيين في ذلك العام، أستاذ الرياضيات السيد أزكولي حمادي، هكذا كان يسمى، على ما أذكر. ولقد كان هذا الأستاذ ضعيفا في مادة الرياضيات، وكان يقول لنا كلما واجهته مشكلة أثناء الدرس، بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة العربية التي يدرس بها مادته. وكان نفس الأستاذ يدرس سنة أولى فرنسية، وكان يقول لهم أيضا بأن مشكلته ليست في الرياضيات، وإنما في اللغة الفرنسية. ولقد غاب عن أستاذ الرياضيات بأننا نحن وطلاب الأقسام الفرنسية، كنا نتقابل كثيرا، وكنا نسخر من حجته تلك.
كانت نتائجي في الرياضيات جيدة، وهكذا ستظل دائما، خلال كل دراستي، ولكن لم تكن علاقاتي جيدة بأستاذ الرياضيات، ولا بزوجته السيدة ازكولي التي كانت تدرسنا مادة العلوم الطبيعية.
أتذكر أنه في يوم من الأيام، جاء صديقي، يحمل بندقية من نوع البنادق التي يتكسب عليها البعض أمام الثانويات والأسواق في أيامنا هذه. وأتذكر أنه في ذلك اليوم كان لدينا اختبار في الرياضيات على تمام الساعة العاشرة. ذهبت أنا وصديقي إلي أحد الجبال المحيطة بالثانوية، لتجريب البندقية، وللتنافس في الرماية، ولم نشعر بمرور الوقت، حتى مر على موعد الاختبار ما يقارب نصف الساعة.
عدنا إلى الفصل، وطلبنا من الأستاذ أن يسمح لنا بالدخول، ولكنه رفض.
أخرج صديقي بندقيته، وصوبها نحو الأستاذ، وهدد بإطلاق الرصاص إذا لم يسمح لنا الأستاذ بالدخول، وبالمشاركة في الاختبار.
قلت لصديقي بصوت مرتفع أردت أن يسمعه الأستاذ:
ـ لا تطلق الرصاص، فأن نجد صفرا في اختبار الرياضيات خير لنا من أن نقتل أستاذا تونسيا في ثانوية لعيون.
أخذ الأستاذ يتوسل لنا، ويطلب منا أن نتوقف عن تصويب البندقية نحوه، ووعدنا بأنه سيسمح لنا بالمشاركة في الاختبار، ولقد فات الأستاذ بأن البندقية التي لدينا، لا تقتل إلا الحمام والعصافير إن كانت تقتلها أصلا.
أما السيدة ازكولي أستاذة العلوم الطبيعية، وزوجة أستاذ الرياضيات، فقد رفضتُ أنا وصديقي أن ندخل عليها الفصل، بحجة أنها امرأة.
كنا قبل حصة العلوم الطبيعية، نسحب طاولة من الفصل، ونضعها مقابل النافذة، حتى نتابع دروس السيدة ازكولي، ونحن خارج الفصل، لأننا كنا ندعي بأننا رجالا، والرجال لا يقبلون أن تدرسهم امرأة، هكذا كنا نبرر عدم حضورنا لحصص العلوم الطبيعية في ذلك العام.
وفي أول اختبار في مادة العلوم، رفضت السيدة ازكولي، أن تستقبل أوراق الإجابة التي أعددتها أنا وصديقي، ونحن خارج الفصل. وبعد ذلك بأيام، قمنا بتهديد أستاذة العلوم، وعملنا لها مقلبا، فرضخت لنا، وقبلت أن تستقبل إجاباتنا التي كنا نُعِدُّها من خارج الفصل، وكانت تعطينا نتائج جيدة، ولكن في نهاية العام اكتشفنا بأن الأستاذة التونسية التي عادت إلى بلدها في ذلك العام، قد خدعتنا، فقد كانت معدلاتنا النهائية، في مادة العلوم الطبيعية، هي أسوأ المعدلات في القسم كله.
وكان أيضا من بين أساتذتنا التونسيين، أستاذ مادة التكنولوجيا التي ألغيت من المناهج، في ذلك العام. ومن الغريب أن مادة التكنولوجيا التي كانت تدرس من قبل الثمانينات، لا تدرس لطلاب الثانوية في العقد الثاني من الألفية الثالثة!!
أما أساتذتنا الموريتانيين، فكان أشهرهم على الإطلاق، أستاذ التربية الإسلامية الذي درس أجيالا عديدة في ثانوية لعيون، كان من بينهم أستاذي الذي سيدرسني الاقتصاد القياسي، في جامعة نواكشوط، بعد ذلك بعقد من الزمن .
وكانت تُروى عن هذا الأستاذ قصص عجيبة، من بينها أنه قال لبعض التلاميذ، بأن الطائرة التي عادت به إلى أرض الوطن، لم تستطع أن تحمله هو وشهاداته في نفس الوقت، لذلك فقد اضطر الرئيس الراحل المختار ولد داداه، لأن يؤجر طائرة خاصة لحمل شهادات أستاذنا للتربية الإسلامية. وما أستطيع أن أؤكده لكم هنا، هو أن الرئيس الراحل لم يذكر في مذكراته قصة تلك الطائرة التي تم تأجيرها لحمل شهادات أستاذ التربية الإسلامية في ثانوية لعيون.
وكان يُروى أيضا عن هذا الأستاذ، أنه قد قال لبعض تلاميذه، إنه كان يتمشى في يوم من الأيام في القاهرة، ومر قرب ملعب لكرة القدم، أثناء مباراة رياضية، وكانت الجماهير تُصفق للاعب مشهور كان نجم تلك المباراة. يقول أستاذ التربية إنه دخل وسط الملعب، وركل الكرة إلى أعلى حتى غابت عن أنظار الجماهير، ليبدأ تصفيق حاد تشجيعا له. ويقول الأستاذ إنه ترك الملعب، وذهب إلى بيته وأخذ حماما، ثم عاد إلى الملعب، فوجد الجماهير لازالت تصفق، والكرة تقترب من السقوط على أرضية الملعب، فما كان منه إلا أن ركلها مرة ثانية، ركلة أقوى، لم تسقط بعدها على الأرض، حتى يومنا هذا، ويومنا هذا تعني يوما ما من عقد السبعينيات، لا يمكنني تحديده.
ويُجمع طلاب الثانوية بأن هذا الأستاذ لا يصحح أوراق الاختبارات والامتحانات، وإنما يوزع النتائج وفق مزاجه. ومن طرائفه في هذا المجال، أنه كان يعطي لبنات والي المدينة حينها نتائج جيدة، رغم أنهن، لم تكن من بينهن من تستطيع أن تكتب اسمها بالعربية. ولم تكن تهمهن الدراسة أصلا، بل كن يقضين معظم وقتهن في لعب كرة السلة، وكان مظهرهن وهن يلبسن قمصانا وبنطلونات رياضية، ويلعبن كرة السلة، أمام دار الشباب، مثيرا في ذلك العهد لاستغراب واشمئزاز سكان المدينة.
وفي الاختبارات الشفهية، كان أستاذ التربية يطلب من كل الطلاب الخروج من الفصل، عندما يبدأ في طرح أسئلته على إحدى بنات والي المدينة.
وكانت الأسئلة من نوع : ما هذا؟
فتجيب ابنة الوالي: هازا كلمن، يعني هذا قلم.
فيقول الأستاذ : رائع، رائع ، رائع، ويرفع بها صوته حتى يسمعه الطلاب خارج الفصل، ثم يشير الأستاذ إلى الطلاب بالعودة إلى الفصل. وعند عودتهم يخبرهم بأن ابنة الوالي قدمت أجوبة رائعة، وأن من سوء حظهم أنهم كانوا خارج الفصل، ولم يتمكنوا من سماع الأجوبة الرائعة لابنة الوالي التي تعكس ـ حسب الأستاذ ـ مستوى متميزا في مادة التربية الإسلامية!!!
ولقد كنت أنا من ضحايا مزاج أستاذ التربية، وكانت نتيجتي ثابتة في كل اختباراته وامتحاناته في ذلك العام، وكنت أحصل دائما على 4/20. ولقد تمنيت أن أحصل ولو لمرة واحدة، على ثلاثة أو اثنين أو حتى على صفر، بدلا من الأربعة التي بدأت تزعجني كثيرا، في ذلك العام. ولقد كان الأستاذ يناديني باسمي الكامل مع كل اختبار ليقول لي، وبأعلى صوته : لقد حصلت على كَطْ، هكذا كان ينطق أستاذنا للتربية رقم أربعة بالفرنسية.
ورغم ذلك كله، فكنا نعد أستاذ التربية رجلا صالحا، وكنا نروي عنه حكايات غريبة، ولعل من أشهرها حكايته مع أستاذة فرنسية تدعى"SUIZANE". كانت تلك الأستاذة نحيفة الجسم، وكانت تحلق شعر رأسها بانتظام، وكانت تلبس دائما بنطلونا مع قميص. ويقال إن أستاذ التربية كان يعتقد بأنها رجل، وكان يصافحها كلما قابلها في قاعة الأساتذة. وفي يوم من الأيام، أخبره أحد الأساتذة، عندما رآه وهو يصافح أستاذة الفرنسية، بأن "SUIZANE" امرأة وليست رجلا.
فما كان من أستاذ التربية إلا أن سحب يده بسرعة، وقال: اللهم احرقها بالنار، كما حرقتنا بالنار. ويؤكد البعض بأن ذلك اليوم الذي دعا فيه أستاذ التربية بالنار للأستاذة الفرنسية، كان هو نفس اليوم الذي اشتعلت فيه ثلاجة في منزل الأستاذة، مما تسبب في إصابتها بحروق خطيرة، نقلت بعدها في طائرة إلى نواكشوط، لتنقل بعد ذلك إلى فرنسا، قبل أن تنقطع عنا أخبارها بشكل كامل.
وكان من بين أساتذتنا في ذلك العام أستاذ اللغة العربية محمد عثمان، وكان أستاذا رائعا بحق، وكانت حصصه من أروع الحصص. ولقد حصلت في العربية على معدل متميز، رغم أني كنت أتظاهر أمام الطلاب باحتقار المواد الأدبية، إلا أني خارج الثانوية كنت من المهتمين باللغة والأدب، وكنت أقرأ الكثير من كتب الأدب. وكان والد صديقي رحمه الله، عالما وشاعرا وأديبا، وهو الذي أعطاه الصحفي والناقد د.الشيخ سيدي عبد الله شيئا من حقه، عندما عده رائد النقد الحديث في موريتانيا. وكانت لرائد النقد الحديث في موريتانيا، رحمه الله، مكتبة متميزة، كنت أنا وابنه نقضي فيها الكثير من أوقاتنا، كما كنا نتعلم منه، وبشكل مباشر. كنا نهتم كثيرا بالمطالعة التي لا صلة لها بالمناهج المقررة، عندما نكون خارج الثانوية. أما عندما نكون داخل الثانوية، فقد كنا نتفرغ للشغب والفوضى، ونبتعد عن كل أشكال المطالعة والدراسة، كان حالنا مع الدراسة عجيبا ومثيرا.
كنا من أصغر طلاب الثانوية، وكنا من أشد الطلاب ذكاءً، ومن أكثرهم فوضى وشغبا و إزعاجا للإدارة وللأساتذة. ولم ينافسنا في الشغب في ذلك العام، إلا طالبان، ولكنهما لم يكونا متميزين دراسيا. أحدهما وجد ذات اختبار صفرا، فأخبر والدته بذلك، فأخذت الوالدة تزغرد فاجتمع عليها الجيران، وسألوها عن سبب زغردتها، فأخبرتهم بأن ابنها قد بشرها بأنه حصل على صفر في الامتحان. كانت الأم المسكينة تعتقد بأن الحاصل على الصفر يستحق كل تلك الزغاريد التي أطلقتها في ذلك اليوم.
وفي سنتي الثانية في الثانوية، لم تكن لي مشاكل تذكر مع الأساتذة، بل إني كنت أتجنب الاصطدام بهم، منذ أن تآمرت عليَّ طبشورة في الفصل، وسببت لي موقفا محرجا مع أستاذ التاريخ في ذلك العام.
ففي أول اختباراته، طرح علينا أستاذ التاريخ سؤالا يقول على ما أذكر: ما هي الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية؟ ولأني لم أكتب شيئا في دفتري عن دولة بني أمية، ولأني لم أكن واثقا بأن التفلسف في الإجابة على هذا السؤال سيأتي بنتيجة، لذلك رفعت يدي، وطلبت من الأستاذ أن يسمح لي بطرح سؤال. أذن لي الأستاذ، فقلت:
ـ يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، أم أنه يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية دون أي ذكر للأسباب الثانوية؟
قد يُخَيَّل لمن سمع ذلك السؤال، أني ليست لدي مشكلة في الإجابة، والحقيقة أني لديَّ مشاكل عديدة في الإجابة، وتلك المشاكل هي التي جعلتني أطرح ذلك السؤال.
أشار عليَّ الأستاذ بالجلوس، وطلب مني أن أتوقف عن طرح الأسئلة، وإلا فإنه سيضطر لإخراجي من الفصل.
التزمت بأوامر الأستاذ وقتا قصيرا، ثم تذكرت أنه قد يكون من الأفضل لي أن أحصل على صفر بسبب عدم المشاركة في الاختبار، فذلك سيكون أفضل من الانصياع لتهديد الأستاذ، والمشاركة في اختبار، لن أحصل فيه ـ حسب المتوقع ـ إلا على خمس نقاط أو ست.
وقفت من جديد، وقلت:
ـ يا أستاذ، هل تريدنا أن نذكر كل الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية، أم أنه يكفي أن نذكر الأسباب الرئيسية دون أي ذكر للأسباب الثانوية؟
ـ أخرج من الفصل، هكذا رد الأستاذ.
أشار لي أحد الطلاب بالخروج، وكان في إشارته الكثير من السخرية.
وقبل أن أخرج، أخذت قطعة من طبشور، كانت على طاولتي، ويبدو أنها كانت قطعة عميلة لأمريكا، ورميتها بقوة في اتجاه الطالب المستهزئ بي، ولكن قطعة الطبشور غيرت مسارها في اتجاه جبهة الأستاذ.
التفت إليَّ الأستاذ، ثم قال بكلمات، كانت أشد إيلاما من وخزات إبر المعلم المشكلة:
ـ أتضربني هكذا. ولم يقل غير ذلك، وليته قال أكثر من ذلك.
ليته لم ينطق بتينك الكلمتين، وليته لم ينطقهما بصوته الهادئ، وليته صرخ في وجهي، وليته صفعني، وليته شتمني، وليته فعل أي شيء غير النطق بتلك الجملة الهادئة التي عذبني بها زمنا طويلا.
فكرت في أن أعتذر له، وأن أقول له بأني لم أكن أقصد رميه بقطعة الطباشير، وإنما كنت أقصد أحد الطلاب، ولكني لم أستطع النطق، حتى وإن نطقت فإني كنت واثقا بأنه لن يصدقني، ولن يصدق بأني أتعرض لمؤامرة كونية كبرى، وبأن قطعة الطباشير التي سقطت على جبهته كانت عميلة لأمريكا.
تصبب جسدي عرقا، وشعرت برغبة جامحة في البكاء، ولولا رجولة كاذبة كنت أتمثلها، لبكيت واسترحت.
ففي كل حياتي الدراسية، لم أشعر بالارتباك مثلما كنت أشعر به في تلك اللحظات.
ورغم أني كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى، إلا أنه كانت لدي خطوط حمراء، لم أكن لأتجاوزها، وكان من بين تلك الخطوط الحمراء أن لا أرفع يدي في وجه من هو أكبر مني سنا، خاصة إذا كان أستاذا، وفي سن والدي رحمه الله، هكذا تربيت، وهكذا كنت دائما. فأنا لم أكن سيىء الخلق، حتى وإن كنت من أكثر الطلاب شغبا وفوضى.
كان رفع اليد في وجه من هو أكبر مني سنا جريمة نكراء لا يجوز ارتكابها، ولو كان ذلك مما يجوز، لصفعت شرطيا بائسا أهانني أمام الجميع، أو على الأقل لرميته بحجارة وهربت.
ففي احد الأيام ذهبت لأتابع إحدى المحاكمات المفتوحة أمام الجماهير، وكنا في ذلك الوقت نهتم كثيرا بالمحاكمات، وبمتابعة مرافعات المحامين، وخصوماتهم في قاعات المحاكم. ذهبت في ذلك اليوم، رفقة أصدقاء لي، كانوا أكبر مني سنا، ولكنهم كانوا لا يزالون يحلمون بالنجاح في مسابقة دخول الإعدادية، والالتحاق بي في الثانوية.
عند الباب استقبلنا شرطي بائس، وسمح لكل أصدقائي بالدخول، أما أنا فقد رفض أن يسمح لي بالدخول، ونصحني بأن أذهب للشارع لألعب مع زملائي الأطفال هناك.
فلو كان ضرب الكبار يجوز لي، لرميت ذلك الشرطي البائس بحجارة على الوجه، ثم أطلقت ساقي للريح.
كان هناك خيط رفيع بين إزعاج الكبار والإساءة إليهم، ولم أكن لأسمح لنفسي بتجاوز ذلك الخيط الرفيع. كانت الفوضى والشغب من الأشياء الجائزة لنا نحن الصغار لإزعاج الكبار، ولكن الإساءة إليهم بكلمات جارحة، أو بالضرب فذلك كان مما لا يجوز في أي ظرف من الظروف.
كانت هناك تصرفات يسمح لنا الكبار بممارستها، حتى ولو كانت تزعجهم كثيرا، ولكن كانت هناك تصرفات أخرى لا يجوز لنا الإقدام عليها.
ولقد ارتكبت في يوم اختبار التاريخ، واحدة من أبشع تلك التصرفات التي لا يجوز الإقدام عليها. ومما زاد من بشاعة ما قمت به، هو ردة فعل الأستاذ الهادئة، على تصرفي الطائش.
ومنذ ذلك اليوم لم أرفع بصري في وجه أستاذ التاريخ، وكنت أتجنب دائما أن أقوم بأي حركة، أو أن أحدث أي صوت أثناء حصصه.
وفي كل حصة كنت أحاول أن أعتذر لأستاذ التاريخ، بسلوكي الجديد، والذي استغربه زملائي في الفصل كثيرا. ولقد شعر الأستاذ بذلك التغير الذي طرأ على سلوكي، منذ حادثة الطبشور، وهو ما جعله يتقبل اعتذاري دون أن يخبرني بذلك، وإن كانت نتائجي في كل اختبارات وامتحانات التاريخ، التي تم إجراؤها بعد حادثة الطبشور، لتؤكد بأن أستاذ التاريخ قد تقبل اعتذاراتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق