السبت، 24 نوفمبر 2018

رواية "يوميات شخص عادي جدًا"/ الحلقة الخامسة


لم يكن كاتب هذه اليوميات راضيا عن الحلقات الأولى منها، وكان يُظهر من حين لآخر عدم رضاه ذاك، كلما انزويت أنا وهو في خلوة من خلواتنا الأسبوعية التي كنا نواظب عليها، مع نهاية كل أسبوع، تمهيدا لكتابة ونشر حلقة جديدة، من حلقات الرواية.
والحقيقة أني لم أهتم في بادئ الأمر بعدم رضا الكاتب عن تلك الحلقات، لأنه كان يعبر عن عدم رضاه ذاك، بخجل شديد، مما جعلني أعتقد أن الأمر مجرد انزعاج عابر، سيختفي مع الوقت، ولن يؤثر على مشروع كتابة الرواية، ولكن في الجلسة التي سبقت هذه الحلقة من الرواية، فوجئت بأن الكاتب قد قرر ـ في هذه المرة ـ أن يعبر عن انزعاجه بلغة صريحة وفصيحة، وغير لبقة في بعض الأحيان، وهو ما استفزني به كثيرا.

ولقد اتهمني الكاتب في الجلسة التي كان من المفترض أن أروي له فيها أحداث الحلقة الخامسة، بأني تعمدت في الحلقات الأربع الماضية، أن أخدع القراء، وأن أقدم لهم نفسي على أني كنت طفلا ذكيا، شجاعا، ومشاغبا، رغم أني كنت أعلم أني لم أكن ذكيا دائما، ولم أكن مشاغبا دائما، ولم أكن شجاعا دائما، بل إنه كانت تمر بي أوقات أكون فيها غبيا، جبانا وخجولا.
ولقد اعتبر الكاتب أني استخدمت حيلة ذكية جدا لخداع القراء، فهو يرى أني حاولت أن أخدع القراء من خلال السيرة الصادمة، والتي تقتضي بأن أقدم لهم طفولة خارقة في بداية هذه السيرة، وذلك من قبل أن أختمها لهم بشخصية عادية جدا، لإحداث صدمة كبيرة، وخيبة فظيعة لكل من سيكمل منهم قراءة هذه الرواية. وهذه الصدمة أو الخيبة ـ وكما قلتُ سابقا ـ ستجعل الرواية تنجح نجاحا باهرا، أو تفشل فشلا ذريعا، وكلا الأمرين بالنسبة لي يعتبر إنجازا عظيما.
ولقد قال لي الكاتب في تلك الجلسة، وبكلمات صريحة وحازمة:
ـ لن أقبل منك بعد اليوم أن تستمر في خداع القراء.
ـ لماذا تقول بأني أخدع القراء، وأنت تعلم أني لم أتحدث في الحلقات الماضية إلا عن أحداث حقيقية، رويتها لك كما حدثت، دون زيادة أو نقصان؟
ـ المشكلة ليست في الأحداث التي رويت لي، بل المشكلة هي في تلك الأحداث التي لم تروها لي.
ـ لم أفهم بالضبط ماذا تريد أن تقول.
ـ بل إنك تفهمه جيدا، وأرجو أن لا تتعامل معي كما تتعامل مع القراء، وأرجو كذلك أن لا يغرنك عدم ردي عليك في الحلقات السابقة، حينما قلت بأني كثير الفشل، متواضع الطموح، وقليل الإبداع، في الوقت الذي جعلت فيه من شخصك الكريم، شخصا مبدعا وطموحا وذكيا، ذكاء خارقا.
سكت الكاتب برهة، ثم واصل حديثه بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة، وقال بصوت ساخر لا يقل سخرية عن ابتسامته.
ـ إن أسخف موقف يمكن أن يواجهه أي كاتب، هو أن يتهمه بطل روايته بأنه كثير الفشل، وقليل الطموح والإبداع، ألا يكفيني إبداعا و طموحا بأني أحاول أن أجعل من شخص عادي مثلك شيئا مذكورا؟
كان عليَّ أن أجيب على الكاتب، ولم يكن بإمكاني أن أظل صامتا دون أن أرد عليه. في بداية حديثه فكرت في أن أتركه يتحدث كما يشاء، ودون أن أقاطعه، وذلك لأنه لم يتحدث في كل الحلقات السابقة، وكان كل ما يهمني هو أن لا ينقل حديثه إلى القراء بضمير المتكلم، ولقد اشترطت عليه ذلك عند البدء في كتابة هذه السيرة، فأنا هو من يحق له ـ حسب بنود الاتفاق ـ أن يتحدث بضمير المتكلم في حلقات هذه اليوميات.
لم أكن أرغب إطلاقا في أن أقاطع الكاتب، ولكن حديثه الجريء في بداية هذا الحلقة أجبرني على مقاطعته، حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء، ويتحدث للقراء عن أسرار اتفقت أنا وهو أن تظل محجوبة عنهم، إلى أن تكتمل الرواية.
فكرت في أن أقول له بأن ما يعتبره هو سخيفا، كان هو أروع ما في الحلقات الماضية، وكان قمة في الإبداع. فاتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وبقلة الإبداع، كان فكرة إبداعية في حد ذاتها، ولا أعتقد أن هذه الفكرة ظهرت في أي عمل آخر من قبل هذه الرواية. ووددت لو قلت له بأن أكبر دليل على قلة الإبداع لدى "كاتبنا المبدع"، هو قوله بأن اتهام بطل الرواية لكاتبها بالفشل وبقلة الطموح كان فغلا سخيفا.
ولكن في تلك اللحظات لم يكن بإمكاني أن أحدثه بذلك، فقد بدأت أشعر بأن مشروع كتابة سيرتي كان في خطر، وكان عليَّ أن أتحدث معه بطريقة أخرى، فيها شيء من التهديد، وشيء من الحزم، حتى لا يتجاوز الخطوط الحمراء، والتي يبدو أنه قد أراد في هذه الحلقة بالذات أن يسير على حافتها، تماما كما يسير أبطال السيرك على حبل رقيق معلق على مكان مرتفع جدا.
كان عليَّ في تلك اللحظات أن أذكِّر كاتب الرواية بأن العلاقة التي تربطني به، ليست مجرد علاقة بين كاتب رواية وبطلها، بل هي أكثر تعقيدا من ذلك، وكان عليَّ أن أذكره بأنه ليس من مصلحتنا نحن الاثنين ( أنا وهو) أن نتخاصم، بعد أن قررنا أن نتعاون معا لإكمال مشروع رواية "يوميات شخص عادي جدا".
كان عليَّ أن أقول له وبنبرة صارمة جدا:
ـ عليك أن تتذكر دائما بأنه إذا تخاصم الذئبان نجت الفريسة، وإذا تخاصمت أنا وأنت فسينجو القارئ من حبائلنا، ولن يخسر حينها إلا نحن.
أجابني الكاتب وكأنه لا يريد أن يستفيد من الحكمة التي ذكَّرته بها.
ـ وعليك أن تعلم أنت بأنك ستكون الخاسر الأكبر، فأنت منذ ولدت في النصف الثاني من الستينات، وحتى يومنا هذا، لم تستطع أن تقدم نفسك للناس، ولولا فكرة هذه الرواية لعشت مغمورا، وإني أتحداك الآن أن تقدم لهم "شخصك الكريم" دون الاستعانة بي، وبلوحة مفاتيح جهازي المتهالك هذا.
لم أكن أتصور قبل ذلك الوقت، أن الكاتب بإمكانه أن يحدثني بهذه الطريقة المستفزة، لذلك فقد فوجئت كثيرا بكلماته الأخيرة، وأحسست بأنه قد قرر أن يخاطر بكل شيء، وهو ما سيؤدي حتما إلى إعادة تنظيم العلاقة بيننا، أو إلى التوقف النهائي لمشروع كتابة يومياتي.
ترك الكاتب القرار النهائي بيدي، وذلك بعد أن حشرني في زاوية ضيقة جدا، ووضعني أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن نراجع بنود الاتفاق بيننا، وستكون تلك المراجعة لصالحه، لأنها ستسلبني الكثير من الامتيازات التي كنت أتمتع بها، وإما أن نعلن توقف مشروع كتابة الرواية، ولم يكن أمامي من خيار ثالث.
كنت أعلم أنه كان عليَّ أن أختار بين خيارين سيئين جدا، ولكني مع ذلك قررت أن أراوغ قليلا، حتى استجمع كل قدراتي التفاوضية لكي أقلل من حجم الخسارة، وكثيرا ما يُقال بأنه بإمكان الكل أن يربح في المفاوضات الناجحة، ولكن كيف أجعل من المفاوضات بيني وبينه، مفاوضات ناجحة لا يخسر فيها أي واحد منا؟
كان عليَّ أن أقول شيئا يخفف من حدة التوتر، ويخرجني ـ ولو قليلا ـ من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها.
ـ ألم تقل لي بأن العديد من القراء قد اتصل بك للتعبير عن إعجابه بما نُشر من حلقات الرواية حتى الآن؟ أو ليس القارئ هو الحكم الفصل الذي علينا أن نلجأ إليه إذا ما اختلفنا في تقويم أي حلقة من حلقات هذه الرواية؟
ـ بلى، ولكن علينا أن لا نغالط الحكم، وأن لا نخدعه.
ـ وبِمَ خدعنا القراء؟ أرجوك أن تحدثني بصراحة.
ـ خدعناهم أولا بعنوان هذه الرواية، وخدعناهم ثانيا لأننا لم نحدثهم عن بعض الأحداث التي عشتها في طفولتك، والتي قد تعطيهم صورة أخرى، مغايرة تماما للصورة التي رسمنا في أذهانهم، من خلال الحلقات الأربع الماضية.
أعطتني الكلمات الأخيرة للكاتب فرصة رائعة لأن أخرج من الزاوية الضيقة التي حشرني فيها، فهو وإن كان محقا عندما قال بأن هناك مواقف في طفولتي، أخفيتها عن القراء، حتى لا أشوه الصورة التي كنت أريد أن أثبتها في أذهانهم عن تلك الطفولة، فهو وإن كان محقا في ذلك، إلا أنه لم يكن محقا في ادعائه بأني خدعت القراء بعنوان الرواية، لذلك فقد قررت أن أركز على الخدعة بالعنوان، وأن أجعلها محورا للنقاش بيننا، فالتركيز عليها سيكون في مصلحتي، وسيعزز من قدراتي التفاوضية، والتي بدت في ذلك الوقت ضعيفة جدا.
فعنوان الرواية الحالي كان من اقتراحي أنا، وكان لذلك سبب، فقد كان من المفترض أن يكون عنوانها "واحد من الناس"، ولكن هذا العنوان الذي كان من اختيار الكاتب، لقي معارضة شديدة من طرف صديق لي وله. ولقد انتقد الصديق المذكور وبشدة، اختيار عنوان "واحد من الناس" لهذه الرواية، وكان لرأي ذلك الصديق، قيمة كبيرة عند الكاتب، فقد كان هو الشخص الوحيد الذي يطلعه الكاتب على بعض كتاباته من قبل نشرها.
بعد معارضة صديقنا المشترك للعنوان القديم للرواية، اقترحت أنا العنوان الحالي، وهو العنوان الذي لم يتحمس له الكاتب في بادئ الأمر، رغم التحمس الشديد الذي أبداه صديقنا له.
ـ يبدو أنه لا زالت لديك عقدة من عنواني الذي اقترحت، والذي لقي ترحيبا كبيرا من صديقنا، عكس عنوانك الذي وجد معارضة شديدة منه.
ـ أنت تعلم بأن السبب الذي جعلني لا أتحمس لعنوانك الذي اخترت، والذي أصبح في النهاية عنوانا لهذه اليوميات، هو أن هذا العنوان يقدم للقراء صورة محددة سلفا عن مستقبل البطل الذي سيجبره عنوان الرواية لأن يصبح شخصية عادية، بعد أن عاش في بداية حياته ـ وحسب ما رويتَ أنت ـ  طفولة غير عادية. أما عنوان "واحد من الناس" فكان سيترك للبطل نهاية مفتوحة، كما أنه كان سيترك للقراء حرية تخيل مصائر مفتوحة، لواحد من الناس، اتفقنا على أن نكتب سيرته، وأن نجعله بطلا لهذه الرواية.
وفي اعتقادي أن نقطة ضعف الرواية ستكون نهايتها المحددة سلفا، وبدايتها المغلقة، فلم يكن من المناسب أن نقوم بتنقية طفولتك من كل الأحداث والمواقف التي كانت تثبت أنك لم تكن شجاعا دائما، ولم تكن ذكيا دائما، ولم تكن مشاغبا دائما. كان علينا أن ننقل للقراء حقيقة طفولتك، وكما هي، وكان علينا أيضا أن نترك لهم نهاية الرواية مفتوحة، حتى يكونوا أحرارا في تخيل النهايات التي تعجبهم، وهذا مما لا يسمح به عنوانك الذي اخترت.
إن ما يعجبني في طفولتك الحقيقية، لا طفولتك المغربلة التي قدمت للقراء في هذه اليوميات، أنها كانت طفولة مفتوحة في كل الاتجاهات. إن من يعرف حقيقة طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليفاجأ لو عَلِم أنك بعد أن كبرت وتخرجت أصبحت من كبار علماء وكالة الفضاء الأمريكية. لن يفاجأ إطلاقا بذلك، لأنك  كنتَ قد أظهرت في طفولتك ذكاءً خارقا، كان بإمكانه مع شيء من الحظ، وكثير من الاجتهاد والمثابرة، أن يؤهلك لتلك المكانة. وإن من يعرف حقيقة طفولتك، كما هو الحال بالنسبة لي، لم يكن ليصدم لو عَلِم، في المقابل، بأنك قد أصبحت شخصا فاشلا عندما تقدم بك السن، ففي طفولتك كانت هناك أحداث ليست بالقليلة، لم تذكرها في يومياتك هذه، كان بإمكانها لو مُزجت بشيء من سوء الحظ، أن تجعل منك شخصا فاشلا، بل ومن كبار الفاشلين.
وإن في طفولتك من المواقف الشجاعة، والتي أسهبت في ذكرها، في الحلقات الماضية، ما كان يؤكد بأنك لا محالة ستُظهر عندما تكبر شجاعة لافتة، سيتغنى بها الكثير من الناس. ولكن، وفي المقابل، فإن في طفولتك مواقف عديدة، لم تتحدث عنها في يومياتك، كنت فيها جبانا، وكانت تكفي لأن تجعل من عرفك في طفولتك لا يفاجأ إن علم بأن الناس قد لقبوك بعدما كبرت، بأجبن القوم.
وأيضا فإن في طفولتك من الشغب والمشاكسة ما كان ينذر بأنك ستصبح رجلا مشاكسا مؤذيا لا يسلم منه أحدٌ، كما كان فيها من الهدوء والخمول ـ وهو ما لم تذكره في اليوميات ـ ما كان يبشر بأنك ستصبح رجلا هادئا، خاملا، ورزينا.
لقد كانت في طفولتك ـ وهذا ما يميزها حقا ـ بذور أو جينات لكل أصناف الرجال. كانت فيها جينات الرجل الناجح، وكانت فيها أيضا جينات الرجل الفاشل. كانت فيها جينات الرجل الشجاع، وكانت فيها أيضا جينات الرجل الجبان. كانت فيها جينات الرجل المشاكس، وكانت فيها أيضا جينات الرجل الخامل.
لقد كانت طفولتك ـ وهذا هو أروع ما فيها ـ طفولة مفتوحة على كل الاحتمالات، وعلى كل أصناف الرجال، فقد كانت بذور وجينات كل أصناف الرجال موجودة في طفولتك، وإن كان الفرق يكمن فقط في الكمية الموجودة من كل صنف.
هذه هي طفولتك الحقيقية، التي كان عليك أن تقدمها للقراء، بدلا من خداعهم بانتقاء أحداث ومواقف تصب في اتجاه واحد.
لم أجد ردا مناسبا، أرد به على الكاتب، سوى أن أقول له وبكلمات مهزوزة:
ـ يبدو أنك تعرف عن طفولتي أكثر مما أعرف أنا عنها.
إني أعرف عن طفولتك الشيء الكثير، ليس أقل مما تعرف أنت عنها. فأنا أعرف مثلا أنك في كثير من الأحيان، كنت هادئا خجولا لحد البلاهة ولدرجة جعلت كل عجائز الحي يبرئونك حتى من تلك الجرائم التي كنت ترتكبها لوحدك، ودون شريك. ولأنك كنتَ قد قلت للقراء إنك كنت مشاغبا في المدرسة، لدرجة أنك أصبحت محل شبهة دائما، وأنه كانت تلصق بك كل الجرائم التي لم يكشف مرتكبها، فإنه عليَّ، في المقابل، أن أقول لهم، وحتى تكتمل لهم الصورة، إنك كنت بريئا وبشكل دائم خارج المدرسة، وكانت عجائز الحي يلصقن كل جريمة ترتكبها أنتَ، بطفل بريء آخر، وذلك لأنهن كن قد عرفنك طفلا هادئا مطيعا خجولا. ولأنك قلت للقراء إنك انتقمت مرة من المعلم الملاكم، كما ينتقم الرجل من الرجل، فإنه من الواجب عليَّ أن أقول لهم إنك كنت تفشل في بعض الأحيان في الانتقام من بعض الأطفال، كما ينتقم الطفل من الطفل، وكنت تؤجر أطفالا أكبر منك سنا لتولي عملية الانتقام تلك. ولأنك قلت للقراء إنك كنت شجاعا لدرجة كنت تتعامل فيها مع الأفاعي بشجاعة تستحق تصفيقهم، لأنك قلت لهم ذلك، فكان عليَّ أن أذكر لهم مواقف أخرى كنتَ فيها جبانا. فأنت ربما تكون هو الطفل الوحيد في الشلة الذي كان يخاف من تسلق بعض جبال لعيون، حتى تلك التي كان يتسلقها أطفال أصغر منك سنا. وكنت أنت الوحيد، من بين أطفال الحي، الذي يخاف ركوب الجمال. كما أنك وبعد أن أصبحت طالبا في الثانوية، كنت تتجنب دائما أن تكون في الصفوف الأمامية كلما حدثت مواجهة بين الطلاب وقوات الأمن. ولأنك أيضا قلت للقراء إنك كنت خارق الذكاء، وإنك تمكنت  ـ وفي دقائق معدودة ـ من حل أصعب مشكل حسابي كان يُمتحن به المعلمون، فإنه عليَّ أن أقول لهم في المقابل، إنك في بعض الأحيان، كنت غبيا لدرجة جعلتك تعتقد، ولمدة من الزمن، أن الصحراء الغربية كانت امرأة، وأنها كانت زوجة الرئيس الراحل المختار ولد داداه. كما أنك كنتَ هو الطفل الوحيد الذي لا يستطيع أن يميز بين العجول، وكان ذلك دليلا قويا على الغباء بالنسبة لطفل مثلك، تقاسمت البادية والمدينة سنوات طفولته. وأعتقد أنك لا زلت تذكر إلى الآن ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لتأتي بعجولكم، من قبل قدوم البقر، فعدت وأنت تسوق عجول أسرة أخرى، كان عدد عجولها مساويا لعدد لعجولكم، وهو ما شكل في تلك الفترة فضيحة كبرى، ونكتة عُمِّرت طويلا، خاصة لدى أطفال الحي.
لم أقاطع الكاتب، وتركته يتحدث حتى توقف بمحض إرادته عن الكلام، فلم يكن لديَّ ما أرد به، فكل ما قاله كان صحيحا ودقيقا، إلا أنه بالنسبة لفضيحة العجول فأعتقد بأن أهل الحي قد بالغوا كثيرا في تلك الحادثة التافهة. وعموما فتلك الحادثة التافهة لم تكن دليلا على غبائي، كما أنها لم تكن ـ بالتأكيد ـ دليلا على ذكائي. إنها مجرد حادثة تافهة، لا يمكن أن يُجعل منها مقياس للذكاء أو للغباء، فكل ما في الأمر هو أني لم أكن أهتم بكثير من اهتمامات أطفال البادية في ذلك الزمن. لم يكن تعلم حلب البقر، أو إتقان ركوب الجمال، أو التدرب على ذبح الغنم أو على سلخ جلودها يعني لي شيئا. لم تكن تلك المهام التي تعلمها وتدرب عليها كل أطفال الحي تعني لي أي شيء، ولم يكن يهمني أن أعرف ـ عكس غيري من أطفال الحي ـ أسماء أو ألوان أو أعمار بقراتنا القليلة، والتي لم أكن أميز بينها وبين بقية أبقار الحي، إلا من خلال العلامة التي كنا نَسِم بها بقراتنا.
ولم يكن ذلك بسبب الغباء، كما كان يعتقد الكثيرون، فكل ما في الأمر، وبباسطة شديدة، هو أن تلك الأشياء لم تكن من اهتماماتي في تلك الفترة. لقد كنت في ذلك الوقت أهتم كثيرا بالقراءة، وكانت لديَّ مكتبة رائعة، ولقد قرأت كثيرا عن الأطباق الطائرة، والتي لم أكن أشك في وجودها، في تلك المرحلة من حياتي. ولقد كنت أتوقع من حين لآخر أن يهبط بجنبي طبق طائر، ليأخذني إلى عالم متطور جدا، ومعقد جدا، ويختلف كثيرا عن العالم الذي عشت فيه طفولتي. عالم لا توجد فيه عجول ولا أبقار ولا جمال ولا جبال.
ولقد كنت على يقين بأن سكان تلك العوالم المتطورة جدا، والتي تأتي منها الأطباق الطائرة، لن يشترطوا للحصول على تأشيرة لدخول عوالمهم، أن يكون المتقدم للتأشيرة قادرا على أن يميز بين عجول أسر الحي، أو أن تكون له خبرة في ركوب الجمال، أو أن يكون في سيرة حياته عدد كبير من الخرفان كان قد ذبحها وسلخ جلودها لوحده.
وحتى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا، لا زالت اهتماماتي تختلف كثيرا عن اهتمامات جيلي، وإن قيس ذكائي الآن، بمدى معرفتي بتلك الأمور التي يهتم بها جيلي في هذا الوقت، لاكتشفتم أني في منتهى الغباء.
صحيح أني لم أعد اليوم أنتظر هبوط طبق طائر لينقلني إلى عوالم أخرى، ولكن الصحيح أيضا هو أني لازلت غير قادر على التأقلم والاندماج بشكل كامل مع الواقع الذي أعيشه. ولعل عدم قدرتي على التأقلم مع هذا الواقع، هو الذي جعلني أحلم بعالم آخر، أصبحت الآن على يقين بأنه لن يحملني إليه طبق طائر، وإنما ستحملني إليه أفكار طائرة، ما تزال ترفض، أن تهبط على هذه الأرض المتعطشة لها. إنها أفكار تتزاحم في رأسي، ومنذ مدة، ولا زلت عاجزا ـ حتى الآن ـ عن إنزال أي واحدة منها على صفحات واقعنا الشاحب.
وإذا كان انتظاري في طفولتي لهبوط طبق طائر ينقلني لعوالم أخرى، قد شغلني عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات أطفال الأمس، فإن انتظاري الآن لهبوط بعض الأفكار على أرض الواقع، قد شغلني هو أيضا عن الاهتمام بالكثير من اهتمامات رجال اليوم.
وإذا كان انتظاري للأطباق الطائرة في مرحلة الطفولة، قد جعلني أبدو غبيا لكثير من أطفال ذلك الزمن، فإن انتظاري في مرحلة الرجولة لهبوط الأفكار الطائرة، قد جعلني أبدو غبيا لكثير من رجال اليوم، بمن فيهم كاتب هذه الرواية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق