السبت، 3 ديسمبر 2011

همسة في أذن الكنتي




طالعت في موقع "أقلام"، مقالا للدكتور "محمد إسحاق الكنتي"، تحت عنوان "وطن النخبة"، وكان مما فاجأني في المقال المذكور أن الدكتور خصص جزءا كبيرا من مقاله لانتقاد "مبادرة 3 من أجل1"، والتي حملها نصيبا لا بأس به من إخفاقات النخبة، في العقود الخمسة الأخيرة، رغم أن المبادرة لم تولد إلا منذ أسبوع واحد قبل نشر مقال الدكتور، ولم تكن تلك إلا واحدة من عجائب الدكتور الذي عودنا دائما على أن تكون مقالاته حبلى بالعجائب والغرائب.
ولقد كنت أتمنى أن يعبر الدكتور عن انتقاداته ل"مبادرة 3 من أجل1" بطرق أخرى، غير تلك الطريقة التي اختارها. وكنت أتمنى أن تصلني منه رسالة عبر البريد الالكتروني، أو عن طريق "الفيس بوك"، يبين لي فيها مآخذه على الحركة، وذلك لكي يعطيني الفرصة لأن أرد على انتقاداته، بعيدا عن الصحافة المستقلة، خاصة أني أنا والدكتور نتواصل من حين لآخر، عبر تلك الوسائط. ولكن الدكتور أراد أن يكون حوارنا علنيا، فليكن إذاً ما ا أراد الدكتور.
ورغم أن الدكتور كان قاسيا على المبادرة الناشئة، إلا أن ذلك لن يجعلني ـ بأي حال من الأحوال ـ أقسو عليه، ولا أن أنتقد بعض أفكاره وآرائه الغريبة والعجيبة حقا. وإنما سأكتفي هنا بأن أرد عن المبادرة وعن مؤسسها، وذلك حتى أبين للدكتور، بأنه كان مخطئا في انتقاده ل"مبادرة 3 من أجل1"، وأنه كان عليه أن يشجعها بدلا من التهجم عليها، حتى لا يكون من المثبطين الذين لا ينزلون أبدا إلى الميدان، ولا يسمحون لغيرهم بالنزول إليه.
والمثبطون سواء كانوا من العامة أو من النخب، هم أشخاص لا تظهر مواهبهم ولا قدراتهم إلا عندما يبدؤون في نقد من قرر أن يخرج من حظيرة الخمول والسلبية التي يتزاحمون هم فيها، ولا يفكرون إطلاقا في الخروج منها. والمثبطون يبذلون قصارى جهدهم من أجل صد كل من يفكر في الخروج من تلك الحظيرة.
ولقد تعلمت من أساتذتي، وهذا مما أعلمه أنا بدوري للمتدربين في المركز، بأن أفضل شيء يمكن أن نتعامل به مع المثبطين، هو أن نتجاهلهم بشكل كامل، وأن لا نهتم بما يقولون، وأن لا نضيع وقتنا في الرد عليهم.
ولكني هذه المرة، لن أعمل بما تعلمت، ولن أتجاهل مقال الدكتور، لأن ذلك قد يعد نوعا من سوء الأدب، ولا يجوز لمثلي أن يتجاهل دكتورا مثله.
وأنا أتفق تماما مع الدكتور، عندما يقول بأننا وبعد خمسين عاما، لازلنا في الصفحة الأولى، صفحة تحديد الهوية، وأننا تقاسمنا هويات الجوار شمالا وجنوبا. وأعتقد بأني كنت أكثر صراحة من الدكتور حول هذه الجزئية بالذات، ويمكن التأكد من ذلك بالعودة إلى "فاصلة خارج النص"، والتي نشرتها بمناسبة الذكرى 51 للاستقلال، ويمكن العودة إلى هذه الفاصلة، من خلال زيارة مدونتي الشخصية "تصبحون على وطن".
وأتفق كذلك مع الدكتور في نقده للنخبة، خاصة السياسية منها، والتي لا تقوم بأي جهد خيري أو تثقيفي ينفع الناس، ولا تظهر إلا في مواسم الانتخابات. ولكني اختلف مع الدكتور، في وصفه ل"مبادرة 3 من أجل1" بأنها ثالثة الأثافي، وتسميته لها تهكما "ثلاثة من أجل نهب واحد"، وأنها جاءت لتستثمر قضايا الفقراء لصالح القائمين عليها، وادعى الدكتور بأن هذه الحركة إنما تسعى لنظام المحاصصة الذي لا يخدم إلا الرديئين من كل طائفة، وأن ما تبشر به هذه الحركة سيؤدي في النهاية إلى أن تُسند المهام للرديئين، ويهاجر الأكفاء.
كم أنت عجيب يا دكتور.
ومن المفارقات العجيبة، أن يصنف الدكتور القائمين على "مبادرة 3 من أجل1" ضمن أولئك الذين لا يقومون بأي جهد خيري أو تثقيفي، وذلك في الوقت الذي كنا قد أعلنا فيه بأن هذه المبادرة ستكون مفتوحة فقط لمن هو على استعداد لأن ينزل إلى الميدان. وتمهيدا للإعلان عن ميلاد هذه المبادرة، كنت قد كتبت مقالا تحت عنوان: "ساعتان للوحدة الوطنية" خصصت جزءا مهما منه لنقد النخب التي تعتقد بأنها لم تخلق للفعل، وإنما لتوجيه النصائح والانتقادات من برجها المتهاوي. ولقد قلت في ذلك المقال بأني لن أكتفي بالكلام، وبأني سأنزل لمدة ساعتين في أحد ملتقيات العاصمة، وسأقف تحت الشمس، ألبس ثوبا إفريقيا تقليديا، كتعبير رمزي عن اللحمة بين مكونات هذا الشعب الواحد. وهذا ما قمت به بعد ذلك، في أولى وقفاتنا الصامتة، والتي تعرفت فيها على أخي "الكوري" الذي جاء أيضا لنفس المكان، يلبس ثوبا تقليديا للبيظان.
والحقيقة أني لم أكن أتوقع أن يلحقني الدكتور بذلك الصنف من النخب، ولا أن يتهمني بالسعي لاستغلال الفقراء، وأنا الذي لا أرتاح لمجالس النخب، ولا لندواتهم ولا لمؤتمراتهم ولا نقاشاتهم في الفنادق، لا أرتاح إلا عندما أكون في الميدان، مع عامة الناس، خصوصا الفقراء منهم، وبالأخص الأكثر فقرا.
ولم أكن أتوقع أن تلصق بي تلك التهم من طرف دكتور أحترمه كثيرا، رغم أني لا أشاطره الكثير من آرائه العجيبة، ولكن ما دام الأمر قد حدث، فلا بأس أن أهمس في أذن الدكتور ببعض الحقائق التي غابت عنه وهو يكتب "وطن النخبة":
1 ـ إننا في "مبادرة 3 من أجل1" مجموعة من فقراء هذا البلد، ونحن هنا لا نفتخر بأننا فقراء، وإنما نصف واقعا، ليس إلا، لذلك فإننا لسنا ممن نهب خيرات هذا البلد على حساب فقرائه. ومؤسس هذه المبادرة، وهو العبد الفقير لله، كاتب هذا الرد، يعد من 46% من الموريتانيين التي تعيش تحت خط الفقر.
2 ـ إنني، وحتى الآن، لم أمارس أي نشاط سياسي، ولم يحدث أن طلبت من أي مواطن، في أي انتخابات، أن يدعم أي جهة سياسية، لذلك فإني لست ممن يستغل الفقراء في المواسم الانتخابية.
3 ـ لقد آلمني جدا، أن يلحقني الدكتور بالذين لم يقدموا في حياتهم أي جهد خيري أو تثقيفي، رغم أني أخصص جل وقتي وجهدي وتفكيري للخدمة العامة، وعلى حساب مصالحي الشخصية. ولكن ما دام الدكتور قد ألحقني بذلك الصنف، فلا بأس إذاً من أن أقدم له بعض النماذج مما قمت به، وسأكون سعيدا إذا ما قدم لي الدكتور عملا تطوعيا واحدا قام به من أجل هذا البلد المتعطش لجهود كل أبنائه، وذلك حتى لا يكون ممن ينتقد الناس بعيوبه هو.
فاعلم يا دكتور بأنه عندما فرضت عليَّ سنوات طويلة من البطالة بأن أقبل بأن أكون أستاذا لمحو الأمية، كان أول شيء قمت به هو أني أعددت دراسة من مائة صفحة، أنتقد فيها تلك المسرحية الهزيلة، وقدمتها للرئيس آنذاك، وكانت نتيجة ذلك أني خسرت الوظيفة الهزيلة التي كنت محتاجا لها. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأني قدمت دراسة أخرى، لرئيس المرحلة الانتقالية الأولى، عن 16 مركزا صحيا منهوبا، في أربع ولايات، وكنت أنا الوحيد الذي تحدث عن تلك المراكز، والتي لم تكتشف مفتشية الدولة قصة نهبها أثناء تفتيشها ل:(AMEXTIP) المؤسسة المشرفة على تشييد تلك المراكز. ولقد تم تشييد تلك المراكز استجابة لتلك الدراسة، واستجابة لرسائل مصورة كنت أكتبها في ذلك الوقت، والدليل على ذلك موجود. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأني عندما قابلت لأول مرة في حياتي رئيسا أثناء مزاولته لمهامه، لم أحدثه عن همومي الشخصية، وكنت وقتها عاطلا عن العمل. ولم أقل له بأن في وفده المرافق له وزراء من دفعتي، أما أنا فلازلت عاطلا عن العمل، رغم أني لم أكن الأكثر غباءً في الدفعة. لم أقل له شيئا من ذلك، خلال تلك "الفرصة الثمينة"، ولم أحدثه عن همومي الشخصية، وإن كان يحق لي ذلك، بل حدثته عن الفقراء، وعن همومهم. ولتفاصيل ذلك اللقاء، اقرأ إذا ما شئت مقال" هكذا حدثني الرئيس". فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأني كتبت عشرات الرسائل المفتوحة لعدد من رؤساء هذا البلد الذين تعاقبوا عليه. فكتبت باسم "عجوز أمبود" التي تمنت أن تكون ناقة لأحد "كبار القوم" بدلا من أن تكون مواطنة موريتانية، وذلك حتى تملأ بطنها من قمح مفوضية الأمن الغذائي. وكتبت باسم الحمَّال، وباسم العاطل عن العمل، وباسم المريض، وباسم السجين، وباسم طفل الشارع، وباسم ربات البيوت. ولقد وصلت رسائلي المفتوحة التي كتبت في عهد الرئيس الحالي إلى 24 رسالة مفتوحة، والرسالة رقم 24 كتبتها على لافتة، وسأرفعها غدا أمام الرئاسة للمطالبة بديوان للمظالم، والذي كان الرئيس قد وعد به في حملته الانتخابية. هذا فضلا عن عشرات الرسائل الأخرى التي نشرتها باسم أصحابها، ويضاف إلى ذلك مساعدة الكثيرين في صياغة بياناتهم وشكاويهم. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأني وأنا العاطل عن العمل، هو مؤسس مركز الخطوة الأولى للتنمية الذاتية الخيري، والذي يقدم كل خدماته بشكل مجاني. ولقد استطعنا في المركز بتوفيق من الله، أن نقدم دورات تكوينية وتدريبية لم تقدم من قبلنا في موريتانيا. وقد استطعنا بفضل الله، أن نُخَرِّج العشرات من المسعفات الأوليات، وأن ندرب العشرات من أرباب الأسر ورباتها على مهن لا يزال يحتكرها الأجانب، وأن نقدم دورات في الفرنسية لحملة الشهادات، وأن نقدم دروس تقوية للمئات من أبناء الفقراء، وأن ندرب عشرات الطلاب على العمل التطوعي. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأن في سجلي التطوعي تأسيس "ضحايا ضد الفساد"، والتي تسعى لجعل الضحية ينتفض ضد الفساد، بدلا من أن ينتظر الآخرين يخوضون نيابة عنه حربه ضد الفساد. ويكفينا في "ضحايا ضد الفساد" بأننا نحن هم من أثار قضية إغلاق مشروع (PDRC)، والذي لم تتحدث عن إغلاقه، وحتى كتابة هذه الهمسة، أي جهة أخرى، رغم تضرر 850 قرية ريفية من إغلاقه. وهذه القضية لابد وأنها ستثير جدلا واسعا في الأيام القادمة، إذا ما أصرت الحكومة على إغلاق المشروع المذكور. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأننا في "ضحايا ضد الفساد" هم من ابتدع فكرة الأوسمة الشعبية لتشجيع البسطاء على التميز كل في مجاله . وقد فاز بوسامنا الشعبي في العام الماضي الشرطي المتميز "الشيخ صار"، أما في هذا العام فقد قررنا منحه للفتية السبعة الذين قدموا مثالا رائعا في رفض الظلم، بعدما ظُلموا في العام2000 وحُرموا من دخول المدرسة الوطنية للإدارة، رغم تفوقهم في المسابقة التي نظمتها المدرسة آنذاك، ولكنهم لم يقبلوا بالظلم، ودافعوا عن حقهم حتى سُمح لهم بدخول المدرسة في هذا العام، أي بعد 10 سنوات من النضال المتواصل. أما الوسام الشعبي للمركز فسنمنحه للبرنامج التلفزيوني المتميز " ويؤثرون على أنفسهم" الذي ساهم في علاج مرضى في حالة صعبة جدا. فهل يُعد ذلك يا دكتور حسب نظرياتك العجيبة استغلالا للفقراء واستثمارا لقضاياهم؟
وأعلم يا دكتور بأن في سجلي التطوعي "مبادرة 3 من أجل1" والتي تسعى لتعزيز اللحمة الوطنية، والوقوف أمام دعوات التفرقة العنصرية، تلك الدعوات التي تمنح لها صحافتنا الخاصة مساحة واسعة، في حين أنها تبخل على دعوات التلاحم بين مكونات الشعب، حتى بنشر خبر وقفة، وتلك قصة أخرى سأتحدث عنها مستقبلا إن شاء الله. ولا يفوتني هنا أن أشكر موقع "أقلام"، والذي عودنا دائما على أن ينشر كل أنشطتنا التي ترفض أغلب المواقع والجرائد ـ لسبب أو لآخر ـ نشرها، رغم أنها تَدَّعِي بأنها مواقع وجرائد مستقلة، ومفتوحة أمام الجميع.
لقد كان عليك يا دكتور أن تكون شجاعا، وأن تكون صريحا، فتتحدث عن أصحاب الدعوات الانفصالية، بدلا من إساءة الظن ب"مبادرة 3 من أجل1" الوليدة، والتي كان ميلادها عسيرا، وكان حجم التحديات التي واجهتها ولا زالت تواجهها كبيرا.
وفي الأخير، فاعلم يا دكتور بأن هذه مجرد همسة، لذلك فأرجو أن لا تدفعني للصراخ، لأن الصراخ يصعب دائما ضبط إيقاعه.
وأختم كما ختمتَ، ولكن بالمقطع السادس من فاصلتي الخارجة عن النص.
بلادنا عجيبة وأحوالها غريبة..
بلادنا استقلت في العام الستين ..
وزادت مقاطعاتها بواحدة في الذكرى الخمسين..
للقبيلة في بلادنا أبناء وأبناء..
للأعراق فيها أحباء وأحباء..
للايدولوجيا كثير من الولاء..
للدول الشقيقة والمجاورة حلفاء وعملاء..
ونحن جميعا لوطننا أعداء..
ولاؤنا مشتت بين القبائل والأشقاء..
بلادنا بلا أبناء..
بلا أحباء..
بلا أصدقاء..
بلادنا يسكنها ثلاثة مليون مهاجر كلهم لها أعداء..
تصبحون وأنتم لستم من المثبطين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق