الأحد، 2 أكتوبر 2011

من الذي قتل الشاب "لامين مانغان"!؟


لقد شغلني هذا السؤال كثيرا، بعد الأحداث الأليمة، التي عرفتها مدينة "مقامة". وكان من اللازم أن أبحث له عن جواب، يختلف عن الأجوبة النمطية التي عادة ما يتم تقديمها في مثل هذه اللحظات المشحونة بالعواطف والانفعالات.

وحتى لا يذهب القارئ بعيدا، فإنه لابد من القول في بداية هذا المقال، بأني لم أكتبه لأفتح تحقيقا جنائيا، ولا لأحدد من المسؤول جنائيا عن قتل الشاب "لامين مانغان"، فأنا ـ وبكل تأكيد ـ لست مؤهلا لفتح مثل ذلك التحقيق. وإنما كتبته لأفتح تحقيقا من نوع آخر، حول تلك الأحداث الأليمة، وذلك من أجل تحديد المسؤولية السياسية لا الجنائية، لأطراف خمسة شاركت ـ حسب اعتقادي الشخصي ـ في قتل شاب في مقتبل عمره، كان يستحق شيئا آخر في وطنه، غير تلك الرصاصة التي أنهت حياته.

إن فتح أي تحقيق سياسي في هذه الفاجعة، سيقول بأن هناك أطرافا خمسة شاركت ـ وإن بدرجات متفاوتة ـ في قتل الشاب " لامين مانغان"، ومع ذلك فلم يحاول أي طرف منها، بعد حصول الفاجعة، أن يحاسب نفسه، وإنما اكتفى بمحاسبة الآخرين، وتحميلهم كامل المسؤولية فيما يحدث من مصائب وأزمات متكررة، أرجو أن تكون آخرها فاجعة "مقامة". أما إذا ما ظل كل طرف يصر على أن لا يحاسب نفسه، حتى ولو كان مجرد حساب يسير، فإن فاجعة «مقامة" لن تكون هي الأخيرة.

إن هناك خمس جهات، بذلت في الفترة الأخيرة جهودا جبارة لكي يحصل ما حصل. ودفعت بالأمور لتصل إلى منعطف جد خطير، كان لابد أن يتسبب في فاجعة "مقامة". وهذه الأطراف الخمس على الترتيب هي : النظام الحاكم ـ حركة لا تلمس جنسيتي ـ أحزاب المعارضة ـ الإعلام بشقيه الرسمي والخاص ـ الكتاب والمثقفون.

1ـ النظام الحاكم: من المؤكد أن النظام الحاكم، أي نظام حاكم، يتحمل الجزء الأكبر في كل ما يحدث في فترة حكمه من مصائب وأزمات، حتى وإن لم يكن سببا مباشرا في حصول تلك الأزمات والمصائب. فكيف إذا كان النظام نفسه قد ساهم ـ وبشكل مباشرـ في حدوث تلك المصائب، كما هو الحال في فاجعة "مقامة".

إن النظام الحالي يتحمل جزءا كبيرا فيما حدث، وذلك لأنه لم يبذل أي جهد مهما كان حجمه في التوعية والتحسيس بأهمية العملية الإحصائية، ولم يتشاور ـ قبل ذلك ـ مع الموريتانيين بكل أعراقهم وأطيافهم، للبحث عن أفضل السبل لانجاز هذه العملية، والتي تعتبر ـ بحق ـ عملية ذات أهمية قصوى.

إن هذا الإحصاء، الذي كان يمكن له أن يشكل انجازا هاما لحكومة بلا انجازات، أصبح اليوم نظرا لغياب التوعية والتحسيس، ونظرا لغياب التشاور، معرضا لأن يتسبب ـ لا قدر الله ـ في صدامات عرقية بين مكونات هذا الشعب.

2 ـ حركة "لا تلمس جنسيتي": فوجئت عندما تعرفت على هذه الحركة، لأول مرة، وهي لازالت مشروعا قيد التأسيس، يُخَطِّط للقيام بسلسلة من الاحتجاجات ضد عملية الإحصاء، فوجئت بأنها، لم تحاول ـ على الأقل ـ أن تترجم اسمها للغة العربية، وفي ذلك دلالات خطيرة جدا.

فهل أن الحركة كانت تسعى منذ بداية تأسيسها لأن تظل حركة عرقية بدلا من أن تكون حركة احتجاج وطنية؟ وهل من اللائق، في بلد كموريتانيا، أن لا تترجم حركة احتجاجية اسمها للعربية، حتى ولو كان مؤسسوها لا يعتبرون اللغة العربية هي اللغة الرسمية لهذه البلاد؟ أليس في هذا البلد "قلة" من المواطنين لا تعرف إلا العربية، ومن حقها على هذه الحركة أن تترجم لها اسمها، أما البيانات فتلك مسألة أخرى، لا أحد ينتظر من الحركة ترجمتها.

لقد نبهتُ بعض قيادات تلك الحركة على ذلك الخطأ الفادح، فمثل ذلك الخطأ الجسيم لا يمكن أن نفسره بأنه حصل بسبب الصدفة البحتة. وقد تمت ترجمة اسم الحركة فيما بعد، ولكن الترجمة المتأخرة لاسم الحركة، أعطت انطباعا غير جيد، عن هذه الحركة الناشئة.

والخطأ الثاني، يتمثل في أن حركة لا تلمس جنسيتي، لم تحاول أن تخرج من الدائرة العرقية في مطالبها، رغم أن الإجراءات والشروط القاسية في هذا الإحصاء لم تكن موجهة ضد الزنوج لوحدهم. فوزير الداخلية السابق، ونائب رئيس حزب الوئام السيد "محمد يحظيه ولد الحسن" مُنع من التسجيل، والصحفية "سلوى" المعروفة في التلفزيون، والتي هي ابنة أخ رئيس الأغلبية البرلمانية السابق، لم يتم تسجيلها. والأمثلة في هذا المجال كثيرة، ولا يمكن حصرها.

كان على هذه الحركة، أن تحتج ضد الإحصاء ليس لأنه موجه ضد عرق معين، بل لأنه موجه ضد كل الموريتانيين بمختلف أعراقهم، ويهين كرامتهم من خلال شروطه القاسية، والتي يتساوى فيها الموريتاني البيظاني مع الموريتاني الزنجي. وعلينا أن نتذكر دائما بأن الموريتانيين البيظان الذين ولدوا في الخارج، ليسوا بأقل من الموريتانيين الزنوج الذين ولدوا فيه.

والخطأ الثالث الذي وقعت فيه هذه الحركة، هي أنها عندما اختارت أن تكون حركة عرقية ذات مطالب ضيقة، وهذا من حقها الطبيعي، لم تبذل أي جهد لتجنب العنف، الذي قد يتضرر منه موريتانيون من عرق آخر.

فإذا كانت الاحتجاجات العرقية حق طبيعي لكل عرق يرى بأنه متضرر أكثر من غيره بسبب قرار ما أو إجراء ما. فإن ذلك الحق يفرض على المنظمين لأي احتجاجات ذات طابع عرقي، أن يبذلوا جهودا استثنائية، حتى لايحدث عنف في تلك الاحتجاجات، وحتى لا يتضرر موريتانيون من عرق آخر. وهنا يمكن القول بأن حركة "لا تلمس جنسيتي" قد قصرت كثيرا في هذا المجال، بل إنها قد شجعت ومارست العنف ضد موريتانيين أبرياء، ودعت إليه في صفحات بعض قادتها على "الفيس بوك". واختارت أن تتجه باحتجاجاتها إلى المحلات الخاصة والأحياء الشعبية، بدلا من الاحتجاج أمام المباني الحكومية. ولا يكفي لتبرير ذلك الخطأ الفادح، ما قاله أحد قيادي هذه الحركة، بأن الأمن هو الذي أجبرهم على ذلك، لأنه صدهم بمسيلات الدموع، وحال بينهم وبين الاحتجاج أمام البرلمان، وأمام بعض المباني الحكومية الأخرى. ولو كانت هذه الحجة مقبولة لاحتج بها شباب 25 فبراير، عندما احتل الأمن ساحة "بلوكات" التي كان ينظم فيها احتجاجاته. وبالمناسبة فإن حركة 25 فبراير قررت أن تعود من جديد إلى نضالها السلمي، ابتداءً من فجر هذا اليوم.

وإذا ما صح بأن هناك أجانب شاركوا في احتجاجات حركة لا تلمس جنسيتي، ومارسوا العنف ضد موريتانيين في عقر دارهم، فهنا نكون أمام جريمة شنعاء،لا يمكن السكوت عليها.

3 ـ أحزاب المعارضة: إن أحزاب المعارضة التي تعودت على أن تدين النظام في كل كبيرة أو صغيرة، وهذا من حقها الطبيعي، الذي نشجعها عليه، كان عليها أن تدين بلغة صريحة وفصيحة، كل عمليات النهب والسطو على ممتلكات المواطنين الأبرياء، والتي تتم تحت غطاء الاحتجاج ضد النظام. وقبل ذلك، كان على أحزاب المعارضة أن تكون هي المبادرة لتنظيم احتجاجات ضد بعض شروط الإحصاء القاسية، لأن ذلك كان سيحول ضد ظهور أي احتجاجات ذات طابع عرقي.

والحقيقة أن أحزاب المعارضة قد تخلت منذ مدة عن المطالب ذات الأولوية، وانشغلت ببعض الأمور الثانوية. فهذا الإحصاء الذي يمثل ضرورة وطنية ملحة، لم يشكل في أي يوم من الأيام مطلبا رئيسيا للمعارضة. وعندما قررت الحكومة الشروع فيه، لم تستطع المعارضة أن تواكب ذلك القرار، بالقيام بسلسلة من الضغوط والاحتجاجات على الحكومة للتحسين من ذلك القرار، ولإجبارها على تنفيذه بشكل أمثل.

فتخلي المعارضة عن المطالب ذات الأولوية، سيتسبب دائما في ظهور مثل هذه الحركات والصدامات ذات الطابع العرقي. فمثلا تخلي أحزاب المعارضة عن المطالبة بتعريب الإدارة، والذي يعد من أكثر المطالب شرعية وإلحاحا، قد يدفع ببعض الشباب إلى المطالبة به في الجامعة، وهو ما قد تترتب عليه بعض الصدامات العرقية، كما حدث في السابق.

4ـ الإعلام الرسمي والخاص : لم يحاول الإعلام الرسمي أن يواكب عملية الإحصاء، ولم ينظم هذا الإعلام نقاشات وحوارات معمقة وشاملة عن هذه العملية الهامة. ولم يحاول أن يجيب على الشكوك التي يطرحها البعض حول هذه العملية. لقد كان الإعلام الرسمي ـ كعادته ـ غائبا، منشغلا في أمور ثانوية، في وقت كان عليه أن يكون فيه حاضرا، وبشكل قوي ومؤثر.

أما الصحافة الحرة فظلت في الفترة الأخيرة تغذي الشائعات التي تقول بأن هذا الإحصاء موجه ضد الزنوج. فكانت تجعل من رفض تسجيل أي مواطن موريتاني زنجي خبرا رئيسيا. في حين أنها ظلت تتجاهل الكثير من الموريتانيين غير الزنوج، والذين تم رفض تسجيلهم.

ألا يشكل رفض وزارة الداخلية لتسجيل وزير داخلية سابق، خبرا يستحق النشر، بجنب خبر رفض تسجيل مستشار في بلدية ريفية؟ فلأسف لم تهتم الصحافة الحرة منذ انطلاق هذه العملية الإحصائية إلا بالمواطنين الزنوج الذين تم رفضهم. أما غيرهم فلم تهتم به هذه الصحافة. هذا إذا ما استثنينا الصحفية "سلوى" التي تعاطفت معها المواقع والجرائد، لأنها صحفية، ونشرت خبر رفض تسجيلها بشكل واسع.

ومثل هذه الحالات، تتكرر دائما في صحافتنا الخاصة، وفي قضايا ذات ارتباط قوي باللحمة الوطنية. فمثلا بعد مصادقة مجلس الوزراء على قانون تشغيل خدم المنازل، اتصلت أغلب المواقع، وبشكل فوري، بالسيد "بيرام" وطلبت منه رأيه في هذا القرار الوزاري. ولم يتصل أي موقع واحد، من تلك المواقع، بالسيد "بوبكر ولد مسعود" ليسمع رأيه، رغم أن منظمة نجدة العبيد لها تاريخ عريق في النضال ضد العبودية، لا يقارن بأي منظمة أخرى. لكن مشكلة "بوبكر ولد مسعود" أنه يتحدث بلغة مهذبة ومتحضرة وخالية من العنف، وتلك لغة لا تبحث عنها كثيرا صحافتنا المستقلة، ولا يبحث عنها كذلك قراؤها.

5 ـ الكتاب والمثقفون : من المؤسف حقا، وهذا الأمر تكرر كثيرا في الآونة الأخيرة، أن تجد كتابا ومثقفين يتحدثون عن الجنسية الموريتانية بكلام غير لائق، ويقولون بأنها، نظرا لعدم أهميتها، لا تستحق أن تمنع عمن يطلبها.

مؤسف حقا أن يتحدث كاتب أو مثقف بهذا الطريقة المستهجنة.

وإذا كان يجوز لنا أن ننتقد الواقع الذي نعيش بالطريقة التي نشاء، وتجوز لنا المبالغة في هذا النقد، إلا أنه لا يجوز لنا أن ننتقد الجنسية الموريتانية، بل يجب علينا أن نعتز بها جميعا، حتى وإن كان سيترتب عليها أن نعيش في بلد يتربع على "قمة" الفقر والجهل والتخلف.

إن على من يصف الجنسية الموريتانية بأنها شيء تافه، أن يتخلى عنها، وأن يبحث عن جنسية غير تافهة، ولن نذرف عليه الدموع إذا ما فعل ذلك.

وعلى الذين يقولون بأنه من المستحيل أن يسعى غير الموريتانيين للبحث عن الجنسية الموريتانية، أن يعلموا بأن هناك جيوشا من المغاربة، والصحراويين، والسنغاليين، والماليين، والعاجيين، والغينيين، والطوارق... يناضلون ليل نهار من أجل الحصول على هذه الجنسية "التافهة".

ومن المؤكد، بأنه لا أحد من أولئك الكتاب سيتألم عندما يعلم بأن هناك لصوصا يَقتلون ويُقتلون في الخارج، ويسيئون لسمعتنا السيئة أصلا، ويحسبون علينا بسبب جوازات سفرهم المزورة. رغم أنه لا صلة لهم بنا سوى أنهم دفعوا آلافا معدودة، لموظف تافه، فزور لهم تلك الجوازات. ولعل قصة الغيني الذي قتل في أمريكا خير مثال على ذلك.

ولا أحد من أولئك قد تألم عندما تحدثت وكالات الأنباء العالمية، عن عشرات الموريتانيين الذين وجدوا أمواتا في زورق من زوارق الهجرة السرية، والذين تم الكشف بعد ذلك بأنه لا صلة تربطهم بموريتانيا، سوى جوازات سفرهم الموريتانية المزورة.

ختاما: إن من قتل الشاب "لامين مانغان" هو هذه الحكومة التي لم تستطع أن تزيل مخاوفه وشكوكه حول عملية الإحصاء، من خلال التوعية والتحسيس، ومن خلال الإجابة على كل التساؤلات التي كانت تقلقه حول هذه العملية. وقتلته أيضا حركة لا تلمس جنسيتي التي دفعته للمشاركة في احتجاجات عنيفة ذات طابع عرقي. وقتلته الصحافة المستقلة التي كانت تصور له أن هذا الإحصاء يستهدفه هو لأنه زنجي. وقتلته المعارضة التي تخلت عن دورها. وقتله كتاب ومثقفون لا يقيمون وزنا لما يكتبون ولا لما يتحدثون به.

تصبحون وأنتم لستم قتلة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق