الاثنين، 2 مايو 2011

الأُخُوَّة في الحظيرة!!!


سأل أحدهم الشيخ عبد الحميد "كشك" رحمه الله فقال: رضعت أنا وأخي هذا من نفس المعزاة، فهل نكون بذلك إخوة في الرضاعة؟
أجاب "كشك": لا لستما إخوة في الرضاعة، ولكنكما إخوة في الزريبة أو في الحظيرة.
إن الأخوة في الحظيرة ـ وهذا لم يعد كلام الشيخ "كشك" ـ تختلف عن أي أخوة أخرى، فالأخ في الحظيرة قد يرفس أخاه، وقد يركله دون سبب وجيه، ودون أن يثير ذلك استغراب بقية القطعان في الحظيرة. والحظيرة أو الزريبة لا يحكمها أي قانون، فهي مجرد مكان ضيق تحشر فيه مجموعة من البهائم التي جُبلت على الخشونة في التعامل، وعلى ممارسة العنف لحسم أي خلاف صغير أو كبير، يحدث داخل الحظيرة أو خارجها.
وفي بلدنا حظائر كثيرة، فهناك "الحظيرة الفتية" التي ولدت فتية، وشاخت وهي لا تزال فتية، وشُوهد طلابها في الأيام الماضية، يتعاركون بالعصي، ويتراشقون بالحجارة، لحسم خلافاتهم، وفق منطق وتقاليد الحظيرة، في مشهد بائس، إن لم يكن هو البؤس بعينه.
ومما يزيد ذلك المشهد بؤسا هو أنه حدث في عام عربي جميل، ابتدع فيه الشباب العربي أساليب راقية من النضال والتضحية والتوحد للدفاع عن القضايا الحقيقية لأوطانهم، متجاوزين بذلك كل المصالح العرقية أو الحزبية الضيقة.
ففي اليمن مثلا، واليمن تعتبر الدولة العربية الأكثر تماثلا معنا من حيث مؤشرات التنمية، والأكثر تشابها معنا حتى في الأشكال، ترك الشاب اليمني سلاحه ـ وفي الأغلب يملك اليمني ترسانة أسلحة ثقيلة ـ وخرج بصدره العاري للدفاع عن قضايا وطنه. خرج بعد أن ترك وراءه ظهره المصالح الضيقة للقبيلة وللطائفة وللحزب السياسي وللايدولوجيا.
والشاب اليمني بذلك الفعل الراقي برهن على أنه قد تحرر من ثقافة الحظيرة، أصبح قادرا على أن يبدل الأخوة في الحظيرة بالأخوة في الوطن.
أما في موريتانيا فقد خرج شباب بعصيهم، وقيل أن أحدهم حمل بندقية، إلى المكان الذي كان من المفترض أن يكون بمنأى عن ثقافة الحظيرة، خرجوا ليركل بعضهم بعضا، وليرفس بعضهم بعضا، وكأن الشاب الموريتاني بذلك الفعل البائس، أراد أن يغرق بلده أكثر في ثقافة الحظيرة، وأن يبعده أكثر وأكثر عن ثقافة المواطنة.
فلماذا سعى الشاب الموريتاني لدخول الحظيرة؟ ولماذا سعى جاهدا لإدخال مجتمعه إلى الحظيرة التي لم يخرج منها، في الوقت الذي كان فيه الشاب اليمني يعمل جاهدا لتحرير نفسه ومجتمعه من ثقافة الحظيرة؟
ذلك سؤال سأرفع العمامة لكل شاب موريتاني يجيب عليه.
وقد يقول قائل وما أكثر القائلين ـ عفوا الصائحين ـ في الحظيرة، بأن الطالب الجامعي الموريتاني يتعرض لضغوط قوية من أعراق وإيديولوجيات وعشائر وطوائف سياسية تجبره أن يثبت من حين لآخر بأنه لا زال يتشبث بتراث وبتقاليد الحظيرة البالية.
وهنا سأطرح السؤال التالي: كيف استطاع الشاب اليمني أن يجبر طوائفه وعشائره وأحزابه وحركاته أن تترك حظائرها لتلتحق به، وتناصره في المطالبة بمشروع وطني ثوري راقي وطموح؟
وكيف فشل الشاب الموريتاني في ذلك؟ بل وكيف استطاعت العشائر والطوائف والأيدلوجيات الموريتانية أن تجبر الشاب الموريتاني على السير خلفها، و على ممارسة طقوسها البائدة في قلب جامعته الفتية، عفوا في قلب حظيرته الفتية؟
ذلك سؤال سأرفع القبعة لكل شاب موريتاني يجيب عليه.
لقد ارتكب الطلاب الجامعيون في يومي الأربعاء والخميس خطيئة كبرى وجرما عظيما، لابد من التوبة العلنية منه، والتكفير عنه بالإكثار من العمل الوطني الصالح والهادف، الذي يخدم ـ حقا ـ المصلحة العليا للبلد، ولا يخدم غيرها.
لقد حاول من أدلى برأيه ـ حتى الآن ـ أن يفسر ما حدث بكشف جزء يسير من الحقيقة، وبالقول بأنه كان نتيجة مؤامرة حاكت خيوطها ـ حسب بعضهم ـ رئاسة الجامعة، وحاكت خيوطها حسب البعض الآخر بعض المواقع الالكترونية، وبعض الأحزاب السياسية التي لها أتباع ـ حتى لا أقول قطعان ـ في الحظيرة الفتية، توجهها كيف ما شاءت، وأنى ما شاءت.
إن تبرير تلك الخطيئة الشنيعة بفكرة التآمر يعتبر مغالطة كبرى، وهو تبرير سيجعل الطلاب يتقمصون دور الضحية، ولا يعترفون بخطئهم ولا يتوبون منه، وهو ما ظهر في بيانهم الأخير، مما يعني بأننا قد نعيش في المستقبل أخطاء أخرى من هذا القبيل.
ورغم أني لا أنفي أصلا فكرة التآمر إلا أني مع ذلك أرفض استخدامها لوحدها لتبرير ما حدث. ويبقى السؤال المطروح هنا: لماذا يقبل الطلاب بأن يكونوا ضحية لمؤامرة من هذا النوع؟
على الطلاب أن يتحلوا بالشجاعة والصراحة والجرأة وأن يعترفوا علنا بأنهم ارتكبوا خِطْئا كبيرا، وعليهم أن يتركوا تمثيل دور الضحية التي تتعرض لمؤامرة شرسة من "قوى الشر".
ولو كان هذا المنطق التبريري للأخطاء يكفي لقبلنا تبريرات حكوماتنا التي تبرر كل أخطائها وحماقاتها بأنها ضحية لمؤامرات لا تنتهي من قوى الشر العالمية.
إننا إذا لم نتحمل مسؤولية الأخطاء التي نرتكبها فإنه لن يكون بإمكاننا تفاديها مستقبلا، وبالتأكيد ستكون دائما هناك جهات بإمكاننا اتهامها بالتآمر ضدنا، كلما أخطأنا في حق أنفسنا، وفي حق الوطن.
وعندما يعترف الطلاب بأخطائهم فسيكون بعد ذلك بالإمكان أن نتبع أطرافا عديدة، وتراكمات كثيرة ساهمت في صنع الأحداث العرقية المشينة التي شهدتها "الحظيرة الفتية". وهذه التراكمات يمكن أن نجملها في نقاط ثلاث:
1 ـ في نفس الفترة تقريبا من العام الماضي شهدت الجامعة أحداثا عرقية مشابهة، كانت نتيجة لردة فعل غاضبة، على اهتمام خطابي باللغة الدستورية للبلد، لم يصاحبه أي إجراء ملموس حتى ولو كان هزيلا. ولقد تزامنت تلك الأحداث مع حدث آخر تمثل في مبايعة مجموعة من الأحزاب السياسية للقذافي. ولقد تعاملت "القطعان السياسية" بعقلية الحظيرة وبمنطقها مع تلك الأحداث. ولقد كان كل قطيع سياسي يتخذ موقفا متشددا مع أحد الحدثين، ويتجاهل ـ وبشكل فاضح ـ الحدث الآخر.
لقد انتقد البعض ـ وبقسوة مبررة ـ مبايعة القذافي، والتي كانت بالفعل خطيئة تستحق أن يندد بها، ولكن أولئك الذين انتقدوا تلك المبايعة صمتوا صمتا رهيبا، ولم ينددوا بالجرم الذي ارتكبه بعض الطلاب الذين تسببوا في صدامات عرقية، لمجرد أن هناك من قال ـ وهو مجرد قول عابر في مناسبة عابرة ـ بأن اللغة العربية لا الفرنسية هي اللغة الرسمية للبلاد.
أما الطائفة الأخرى من القطعان فقد انتقدت ـ وبقسوة مبررة أيضا ـ التظاهر ضد اللغة العربية، ولكنها لم تنتقد ـ ولو بشطر كلمة ـ مبايعة القذافي.
ولقد أظهرت تلك المواقف ـ أو على الأصح أنصاف المواقف ـ أن ثقافة الحظيرة لا زالت تتحكم في ردود أفعالنا وفي مواقفنا، وأن هذه المواقف لا زالت تتخذ استجابة لمصالح القطيع الضيقة، أما المصلحة العليا للبلد ، فإنها لا تجد ـ إطلاقا ـ من يهتم بها.
إن هذه القطعان السياسية التي أفلست أخلاقيا وسياسيا، لم يعد لديها ما تفعله سوى المتاجرة بورقة الفتنة واللعب بها بحثا عن ناخبين متطرفين من كل الفئات.
فمبايعة القذافي، والتظاهر ضد اللغة العربية كلاهما كان جريمة نكراء تستحق التنديد، ومع ذلك لم يستطع أي فصيل سياسي في هذا البلد أن يندد بهما معا، رغم تزامنهما.
2 ـ إن من ثقافة الحظيرة ما يمارسه البعض من عنصرية بشكل خفي، فكل تمييز بين المواطنين ـ وبغض النظر عن أسبابه ـ إنما هو نوع من العنصرية، يجب أن نتخلص منه بشكل فوري، إذا ما كنا نريد حقا أن نتحرر من ثقافة الحظيرة.
فالمواطنون يجب أن يكونوا سواسية في الحقوق وفي الواجبات، والذين يخطئون منهم في حق الوطن هم مواطنون مخطئون، علينا أن نقولها بصراحة، وعلينا أن نندد بأخطائهم بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية. أقول هذا الكلام لأن البعض أصبح يتجنب انتقاد بعض التصرفات الخاطئة، التي قد تصدر من بعض المواطنين الذين ينتمون لشريحة غير شريحته، وذلك خوفا من أن يوسم بالعنصرية، متجاهلا أن ذلك الخوف إنما يعبر عن عنصرية دفينة.
ولتوضيح ذلك أكثر يكفي أن نتأمل ردود أفعال "القطعان السياسية" على حدثين متشابهين:
فبعد أحداث الجامعة التي مورس فيها عنف طائش من طرف الطلاب، ألقت الشرطة القبض على مجموعة من الطلاب وكانوا كلهم زنوجا. وبعد يوم الغضب الذي لم يمارس فيه أي عنف ألقت الشرطة القبض على مجموعة من الشباب وكانوا كلهم عربا.
لقد نددت "القطعان السياسية" ـ ولها الحق في ذلك ـ بإلقاء القبض على المجموعتين، ولكن المؤسف أنها ـ وربما لعنصرية دفينة ـ اكتشفت أن مجموعة الطلاب كانت من فئة عرقية واحدة، وهو ما احتجت به في بياناتها وتصريحاتها، ولكنها لم تكتشف أن مجموعة شباب يوم الغضب كانت هي أيضا من فئة واحدة.
لقد أصبح من اللازم ـ إذا ما كنا نريد حقا أن نكون إخوة في الوطن لا إخوة في الحظيرة ـ أن نتجاوز هذه العقد التي تكشف عن عنصرية دفينة. فإذا ارتكبت مجموعة من المواطنين عملا مخالفا للقانون فعلينا أن ندين فعلها ذلك، حتى ولو كانت من شريحة واحدة، وإذا ما استحقت مجموعة أخرى من المواطنين مكافأة أو امتيازا فعلينا أن نمنح لها ذلك الامتياز، حتى ولو كانت من شريحة واحدة. كما أنه علينا جميعا ـ سواء من كان منا معارضا أو مواليا ـ أن نندد بلغة صريحة وفصيحة، بكل قول أو فعل يصدر من أي موريتاني ـ بغض النظر عن عرقه أو شريحته ـ يسيء لديننا أو لوطننا ( لا أقصد بالوطن النظام).
وإن السكوت عن الإساءة للدين أو للوطن، مخافة أن نتهم بالعنصرية، إنما هو مظهر شائن من مظاهر الحظيرة وثقافتها التي لا تقدس شيئا، أي شيء.
3 ـ غياب روح الوطنية، وغياب الفضاءات التعليمية والسياسية والثقافية والإعلامية التي تنمي تلك الروح في نفوس ثلاثة مليون "أجنبي" وزيادة تسكن هذه الأرض.
فالحكومات كانت ولا زالت تربي المواطنين على أن الولاء للنظام الحاكم يأتي قبل الولاء للوطن.
والأحزاب السياسية كانت ولا زالت تربي منتسبيها على أن الولاء لزعيم الحزب يأتي قبل الولاء للحزب، والولاء للحزب أهم من الولاء للوطن بمائة درجة.
والحركات الإيديولوجية كانت ولا زالت تربي " مناضليها" على أن كل كلمة يقولها "مناضل" دفاعا عن عرض"الزعيم" أو "القائد" أو "الأخ" أو "الرفيق" أو "المرشد" هي خير من ألف كلمة يقولها دفاعا عن عرض وطنه ، أو على الأصح دفاعا عن الحظيرة التي يقيم فيها بجسده لا بقلبه، والتي تمتد من "فصالة" شرقا إلى "كرمسين" غربا.
والقبيلة كانت ولا زالت تثبت ميدانيا بأن الولاء لها ـ عكس الولاء للوطن ـ هو الذي يوفر الوظائف، وهو الذي ينفع صاحبه ساعة العسرة، وهو الذي يحميه من ظلم الآخرين ومن اعتداءاتهم.
إن الأخوة في الحظيرة ستظل هي التي تجمعنا، وثقافتها ستظل هي التي تحكمنا، ما دام لا يشعر في الغربة في هذا البلد إلا من كان في قلبه مثقال ذرة وطنية. وما دام لا يرتقي فيه إلا أبناء القبيلة أو أبناء الايدولوجيا أو أبناء الشريحة الذين لم ينتصروا يوما إلا لقبائلهم أو لإيديولوجياتهم أو لشرائحهم، والذين لم يتمعر وجه أي واحد منهم ـ ولو لمرة واحدة ـ انتصارا للوطن.
تصبحون وأنتم إخوة في الوطن....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق