السبت، 23 يناير 2010

بطاقة لاغية / ورقة خاصة بندوة الحكامة


تخيلت أنه قد وصلتني ـ عن طريق الخطأ ـ بطاقة دعوة من بين البطاقات الثمانمائة التي تكفل أمين عام وزارة الإسكان ـ بصفته الحزبية ـ بتوزيعها على كل من يهمه مستقبل هذا البلد. تخيلت ذلك، لأني موقن بأنه لا يوجد عمل بشري كامل، فقد يخطئ الأمين العام لوزارة الإسكان وتضيع عليه ـ على الأقل ـ بطاقة دعوة، وقد تقع تلك البطاقة الضائعة في يدي.
ثم تخيلت بعد ذلك بأني ألقيت كلمة ـ بوصفي مدعوا عن طريق الخطأ ـ في ندوة " أية حكامة نريد بعد خمسين سنة؟"
وتخيلت أني قلت :
أيها الحاضرون بأجسادهم والغائبون بعقولهم ... أيتها الحاضرات الغائبات ( هذه الفئة تمثل نسبة هامة من الحضور).
أيها الحاضرون بأجسادهم والحاضرون بعقولهم ... أيتها الحاضرات الحاضرات (هذه الفئة تمثل أقلية في القاعة).
أيها الغائبون بأجسادهم الحاضرون بعقولهم ... أيتها الغائبات الحاضرات (هذه تمثل نسبة ليست بالقليلة من الغائبين).
أيها الغائبون بأجسادهم الغائبون بعقولهم ... أيتها الغائبات الغائبات ( هذه الفئة تمثل أغلبية الغائبين).
حدث هرج ومرج كبير بعد تلك الكلمات، وتخيلت أني سمعت أكثر من في القاعة يطالب بإخراجي أو إسكاتي على الأقل. ثم تخيلت بعد ذلك أن أستاذي الذي أقدره كثيرا ( رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية ) تدخل عندما تذكرني ـ رغم مرور ما يزيد على عقدين من الزمن على آخر لقاء ـ و طلب من الحضور أن يسمحوا لي بالمواصلة، ثم طلب مني في المقابل أن أكون أكثر جدية في حديثي.
من حسن حظي أن رئيس الحزب الحاكم الحالي هو أستاذي للاقتصاد المالي في جامعة نواكشوط ، كما أن رئيس الحزب الحاكم السابق (عادل ) هو أستاذي للتخطيط ، وربما يكون رئيس الحزب الذي سيحكم مستقبلا هو أستاذي أيضا.
استجبت لأستاذي رغم أني كنت أود من خلال تلك التصنيفات التي أغضبت بعض المدعوين أن أثير نقطة هامة وأساسية، تتمثل في أن هناك أصنافا من الناس يتكرر حضورها الجسدي لكل ندوة أو نقاش دون أن تكون لها القدرة على تقديم أي شيء مفيد. في الوقت الذي تحرم فيه مجموعات أخرى من الحضور كان بإمكانها أن تثري النقاش، لذلك فأنا أعتقد بأن أول ما علينا فعله، هو أن لا نجامل في الدعوات عندما يتعلق الأمر بنقاش قضايا هامة ومعقدة كما هو الحال بموضوع ندوة الأغلبية.
المهم أني بدأت في قراءة الورقة التخيلية التي أعددتها بشكل سريع بسبب تأخري في تخيل إمكانية المشاركة. كانت الورقة مملوءة بالكلام المر الذي وجدت من الضروري أن يشاركني المؤتمرون في تجرع مرارته.
أولا عن أزمة مواطنة : هناك سؤال يؤرقني دائما سأطرحه على المؤتمرين عسى أن أجد فيهم من يجيبني : فمن نحن؟ وما هو الموريتاني؟ فهل نحن مجموعات من القبائل المتصارعة والتي كان قدرها أن تعيش على أرض واحدة ؟ أم نحن مجموعة من العبيد التي يحق لها أن تتحالف مع الشيطان لكي يحررها من البربر الظالمين المتوحشين ؟ أم هل نحن مجموعة من الزنوج التي تسعى لتأسيس دولة زنجية على الضفة الثانية من النهر ؟ أم هل نحن عرب عاربة أو مستعربة ؟ هل نحن صحراويون ثوار؟ أم نحن مغاربة ملكيون ؟ أم ليبيون أمميون ؟ أم مصريون ناصريون ؟ أم بعثيون عراقيون أو سوريون ؟ أم أننا لسنا عبيدا، ولسنا زنوجا، ولسنا عربا، وإنما نحن لاتينيون كوبيون وثوار جيفاريون ؟ أم أننا على النقيض من ذلك كله، فنحن إسلاميون تبليغيون لا يهمنا ما يدور في البلد من أحداث سياسية ؟ أم أننا عكس ذلك، إسلاميون غارقون في السياسة حتى التراقي ؟ يهتم بعضنا بما يدور في أطراف العالم الإسلامي أكثر من اهتمامه بما يدور على هذه الأرض المسلمة. ولماذا نحن نقبل ـ وهذا هو السؤال الذي يحيرني دائما ـ أن نكون كل شيء ولا نرفض إلا شيئا واحدا، وهو أن نكون موريتانيين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ هذه ليست دعوة للقطرية الضيقة، وإنما هي دعوة لإعادة صياغة ترتيب الولاءات مع تخيل وجود بلد يستحق علينا واجبات ـ على الأقل ـ مقابل الإقامة فيه.
فمن المؤسف حقا أن أزمة الهوية والمواطنة في هذا البلد، هي أزمة نخبة، قبل أن تكون أزمة عامة. فهناك من النخبة من لا يهمه ـ إطلاقا ـ ما يحدث في هذا البلد الغارق في الأزمات، والذي لا تتركه مصيبة إلا لتسلمه لمصيبة أكبر. ولا تنقشع عنه أزمة إلا بعد أن تكون نذر أزمة أكبر قد بدأت تلوح في الأفق.
وهناك في هذا البلد من لا يكتب ـ رغم شوق القراء لما يكتب ـ إلا إذا أسيء إلى شقيق مجاور، وهناك من لا يكتب ولا يهتم إلا بذكرى ميلاد الزعيم ،أو بذكرى وفاة الزعيم الآخر، أو بذكرى استشهاد الزعيم الثالث، أو بذكرى ثورة الزعيم الرابع، أما غير ذلك من الأحداث فهو تافه لا يهم. ولا يستحق أن نكتب أو نتحدث عنه. حتى ولو تعلق الأمر بأحداث جسام تكاد تعصف "بالبلد الثاني" الذي يحمل ذلك "الموريتاني" جنسيته.
وكثيرا ما يساء إلى هذا البلد دون أن يجد من أبنائه من يرد على تلك الإساءة (هذا إذا ما استثنينا قلة قلية جدا من أبنائه ) وذلك في الوقت الذي توجد فيه كتائب، وطوائف، وميليشيات جاهزة، أو مجهزة، لكل منها خط أحمر، لا يمكن التحدث عنه . فتارة يكون ذلك الخط الأحمر أشقاء يطالبون بالاستقلال ، وتارة يكون زعيما عربيا توفي منذ عقود من الزمن، وتارة يكون رئيسا شهيدا، وتارة يكون زعيما عربيا لم يزل يحكم، وتارة يكون ذلك الخط الأحمر رمزا محليا لشريحة ما، أو لحزب ما، أو لحركة ما.
شيء واحد مستباح ولا توضع أمامه الخطوط الحمراء ولا حتى الصفراء: إنه موريتانيا وسيادتها ورموزها.
فمن المؤسف أنه في هذا البلد يوجد من يقدس بعض الرؤساء العرب، ولا يسمح بالتحدث عنهم، ومع ذلك فهو يصف رئيس موريتانيا بالحاكم العسكري ويصفه بألفاظ لا تليق. إن رئيس موريتانيا ـ للتذكير ـ هو أكثر الرؤساء العرب على الإطلاق شرعية منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، شئنا ذلك أم أبينا. وهو الرئيس العربي الوحيد ـ أقول الوحيد، ثم أكرر الوحيد ـ الذي يمكن للمواطن أن ينتقده ـ سرا وعلانية ـ وينام بعد ذلك قرير العين . (مأساة حنفي التي كانت تشكل استثناء قد تعرف فرجا قريبا، فالرئيس تعهد بأنه سيأخذ بعين الاعتبار توصيات الندوة). وهذا الكلام لا يعني بأي حال من الأحوال أن لا ننتقد الرئيس، بل يجب علينا أن ننتقده، ولكن بوصفه رئيسا للجمهورية، إن كنا حقا نحترم هذا البلد الذي نعيش فيه .والذي يعتبر الرئيس رمزا من رموزه . ولمن سيزايد هنا فليقرأ : " الرئيس على الخط " أو "جحيم خمس نجوم" أو " تأملات في اللاشيء " .....ثم بعد ذلك فليزايد كما شاء. وهنا أغلق القوس الذي فتحته دون إشعار.
ومشكلتنا التي يجب علينا أن نتحدث عنها بشكل صريح هي أننا وطن يتشكل من عدة أوطان وعدة أعراق وعدة وإيدولجيات ...ومشكلتنا هي أننا من أقل بلدان العالم وطنية ( ولو كان هناك مقياس دولي للوطنية لكنا في أسفل اللائحة كما هو حالنا مع القضاء على الفقر والأمية والرشوة) ومشكلتنا أنه يوجد في هذا البلد ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن موريتاني بالبطاقة ، ولا يوجد فيه إلا قلة ممن هم موريتانيون بالشعور وبالانتماء وممن هم قادرون أن يجعلوا ولاءهم للوطن فوق أي ولاء آخر، سواء كان ذلك الولاء للقبيلة، أو للشريحة، أو للايدولوجيا، أو للحزب السياسي .
مشكلتنا في هذه البقعة من الأرض أننا نحن هم البلد الوحيد الذي يُهَمَّش فيه المواطن الصالح الذي يحب وطنه، يهمش لأنه لا يرضى أن يستنفر قبيلة، أو شريحة ،أو حزبا، من أجل أن يحصل على أبسط حقوق المواطنة. فالشهادات العالية لا تكفي للحصول على وظيفة إن لم "تزين" بوساطة وجهاء القبيلة أو الشريحة أو الحزب. الشيء الذي يساهم في تعميق الولاء للقبيلة على حساب الولاء للوطن .وما يحدث في التوظيف يحدث في كل الخدمات الأخرى التي يفترض أن تقدمها الدولة لمواطنيها.
مشكلتنا في هذا البلد هي أن المواطن الصالح يولد مهمشا، ويعيش مهمشا، ويموت مهمشا. ونسأل الله أن لا يبعث مهمشا. في حين أن ابن القبيلة أو الشريحة أو الايدولوجيا، يولد معززا، ويعيش معززا، ويموت معززا، بشكل يتناسب طرديا مع علاقة السلطات الحاكمة بقبيلته أو بشريحته أو بحزبه أو حتى بامتداده وولائه الخارجي.
فأي حكامة نريد بعد خمسين عاما ؟ إننا نريد وطنا نعيش فيه، لأننا لم نعد نطيق العيش بين مجموعة من القبائل التي تتنافس، أو بين مجموعة من الشرائح التي تتصارع ، أو بين مجموعة من الايدولجيوت التي تتباغض.. لقد سئمنا تلك الحياة .. سئمناها ..سئمناها .. أتسمعون يا مؤتمرون ؟؟ أتسمعون أيها الحاضرون ؟؟ أتسمعون أيها الغائبون؟؟
إننا نريد وطنا يحبه الموريتاني الزنجي أكثر من حبه لأي بلد إفريقي آخر، حتى ولو كان مليئا بأقربائه. و نريد وطنا يحبه الموريتاني العربي أكثر من حبه لأي بلد عربي آخر، إننا نريد وطنا يكون لمواطنيه اهتمامات مشتركة، بغض النظر عن الشريحة أو القومية. إننا نريد وطنا يدافع فيه الموريتاني العربي عن كل القضايا التي تهم الموريتانيون الزنوج. ونريد وطنا نري فيه الموريتانيون الزنوج في الصفوف الأمامية في كل تظاهرة تنظم لصالح إخوتهم في الدين، من المظلومين في فلسطين، أو في العراق، أو في أفغانستان.. إننا نريد وطنا يكون فيه الموريتاني الذي لم يعاني من العبودية هو من أشد الموريتانيين تحمسا لمواجهة مخلفاتها.إننا نريد وطنا لا يسمح فيه الموريتانيون العرب لأي كان بأن يكون عربيا قبل أن يكون موريتانيا. ولا يسمح فيه الموريتانيون الزنوج لأي كان بأن يكون إفريقيا قبل أن يكون موريتانيا.
إننا ببساطة شديدة ـ يا سادة يا كرام ـ نريد أن يكون الولاء للوطن على رأس قائمة ولاءاتنا، ثم يأتي بعد ذلك فراغ كبير يرتب بعده كل واحد منا ولاءاته الأخرى وفق ما يحلو له.
فهل ستحققوا لنا ذلك ؟ أم أنه علينا أن نستجلب ذرية صالحة من أمة أخرى تعمر هذه الأرض الطيبة؟ كما كان يقترح الكاتب الكبير أستاذي للفرنسية في ثانوية لعيون حبيب محفوظ رحمه الله.
ثانيا أزمة النخبة : إننا نحن البلد الوحيد الذي تُوَجِّه فيه العامة نخبها ، فبعد أن فشلت النخبة خلال العقود الماضية في التأثير على العامة لأسباب لا يتسع المقام لبسطها، أصبحت العامة هي التي تؤثر وتوجه وتحدد سلوك النخبة. واكتفت النخبة بلعب الدور الذي حدده له المجتمع، على طريقة الفن الهابط " الجمهور عايز كدة ". فأصبح "المثقف" عبارة عن معول لهدم ما بقي من قيم وأخلاق. فهو يسرق المال العام لأن الزوجة عايزة كدة، والقبيلة عايزة كدة، والمجتمع عايز كدة، وهو ينافق ويكذب ويصفق بأياديه وبأرجله لأن الجمهورـ عفوا السلطة ـ عايزة كدة.
ورغم أن الحديث عن أزمة النخبة يحتاج إلى ورقة كاملة، فإنني مع ذلك سأكتفي هنا بملاحظات سريعة عن جزئية واحدة دار حولها جدل كبير ألا وهي ضرورة تجديد النخبة.
الملاحظة الأولى : إن تجديد النخبة ـ خاصة السياسية منها ـ ليست عملية آلية تتم من خلال استقالة النخبة القديمة لتحل محلها نخبة جديدة.
الملاحظة الثانية : لقد أثبتت أغلبية النخب الشابة بأنها قصيرة النفس، عكس النخب القديمة، التي أثبت بعضها نفسا طويلا في النضال وفي الكفاح ، وتلك إيجابية كبيرة تحسب لشيوخ المعارضة.
الملاحظة الثالثة : إن ما يمكن عمله هنا هو إتاحة الفرصة للنخب الشابة لكي تظهر وتثبت وجودها، حتى تصبح بعد ذلك قادرة على سد الفراغ الذي ستخلفه النخب القديمة.
الملاحظة الرابعة : من المضحك المبكي أن بعض النخب الإعلامية القديمة والتي عُرِفَت بالتطبيل لكل الأنظمة السابقة هي التي تطالب ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ بضرورة تجديد النخب السياسية.
فالحكومة ـ يا سادة الإعلام الرسمي ـ لا تستطيع أن تجدد النخبة السياسية خاصة المُعَارِضة منها، والتي هي المستهدفة بخطاب التجديد. ولكن الحكومة في المقابل بإمكانها أن تجدد نخب الإعلام الرسمي التي تضرها أكثر مما تنفعها . كما أنه على المعارضة أن تطالب ـ وتلح على ذلك ـ بضرورة تجديد تلك النخبة الإعلامية التي شوهت في الماضي سمعة المعارضة، وذلك ـ بالتأكيد ـ سيكون أفضل بكثير من مقاطعة البرامج التلفزيونية.
ثالثا أزمة الأفكار: يمكن لنا أن نُعَرِّفَ الموريتاني بأنه هو الكائن البشري الوحيد الذي لا يستطيع أن يفكر لمدة خمس دقائق متواصلة في مشكلة عامة تهم بلده . كما يمكن تقديم تعريف آخر أكثر دقة وهو أن الموريتاني هو الكائن البشري الوحيد الذي يفكر بدماغه عندما يتعلق الأمر بمصلحة خاصة . ويفكر بأمعائه عندما يتعلق الأمر بمصلحة عامة. لذلك فقد أصبح من الضروري سَنُّ قانون يجرم التفكير بالأمعاء أثناء أوقات الدوام الرسمي.
إن لدينا في الحقيقة أزمة في الأفكار لأنه لا أحد يفكر في مصلحة هذا البلد . ولو أن كل واحد منا خصص خمس دقائق يوميا للتفكير وللبحث عن حلول لهموم هذا البلد ، لكان حالنا غير هذا الحال. يقول واحد من الأذكياء وهو " أينشتاين " بأنه من السذاجة أن نتوقع نتائج مغايرة إذا ما استخدمنا نفس أساليبنا القديمة. ولقد كان واحد من أغنياء هذا العالم وهو " بيل كيت" الذي يملك ثروة تعادل ميزانية خمس دول من "نمور آسيا" يُجَرِّدُ ـ قد لا يكون ذلك في يوم الخميس ـ كل عامل يكرر نفس الفكرة مرتين!
أما نحن فإننا نكرر نفس الفكرة الغبية أكثر من خمس مرات متوالية .
فالتعليم ـ كمثال ـ فشل فشلا كبيرا، وهو فشل انعكس سلبا على كل شيء، ولكننا بدلا من أن نفكر في إصلاحه فقد اكتفينا بدمج وتقسيم وزارة التعليم بشكل عبثي وصبياني حتى أصبحت هي الوزارة الأكثر انشطارا في العالم.
أتدرون كم من مرة انشطرت وزارة التعليم خلال السنوات الخمس الأخيرة ؟ لقد كانت وزارة واحدة قبل 3 أغسطس، ثم تحولت إلى وزارتين في المرحلة الانتقالية الأولى، ثم توحدت من جديد بعد تنصيب الرئيس السابق ، ثم انشطرت من جديد مع حكومة أستاذي الأولى، ثم توحدت في حكومته الثانية، ثم انشطرت من جديد مع الحكومة الحالية ، وربما تتوحد للمرة الرابعة بعد أن انشطرت ثلاث مرات في أقل من خمس سنوات!!!
أليس من السذاجة الكبيرة أن نتوقع إصلاحا للتعليم بهذه الطريقة ؟؟؟ وكيف يصلح التعليم ونحن منذ خمس سنوات مشغولون ومنشغلون بالإجراءات المصاحبة للدمج و للانشطار؟؟
ألا تسمعون... فما لكم إذاً لا تجيبون ؟؟؟
رابعا الأزمة الأخلاقية :
نحن كنا دولة بلا بنية تحتية، فلم تكن فينا مدارس ،ولا شوارع،ولا مستشفيات، لذلك فإن الواقع السيء لبنيتنا التحتية والتي تعتبر أسوأ بنية تحتية في المنطقة، ليس هو أسوأ ما نعاني منه .
إن أعظم مصائبنا هي أننا كنا بلدا له بنية أخلاقية، تشكل نظام وقاية لنا ضد كل الأخطار.
وهذه البنية انهارت تماما، وبسرعة مخيفة، فأصبحنا اليوم نعيش أزمة قيم ،وأزمة أخلاق، وأزمة نخبة، وأزمة مواطن، وأزمة مجتمع، وأزمة إدارة ...
لقد انعكست تلك الأزمة الأخلاقية على الإدارة، فالتعيين والاكتتاب أصبح يعتمد أساسا على مدى الاستعداد للتزلف والنفاق للسلطات الحاكمة. وبالطبع فإن من هو أقل كفاءة ،وأقل أخلاقا، هو الأكثر استعدادا للنفاق والتزلف. أما الأكفاء الذين يمتلكون شيئا من الأخلاق، فيصعب عليهم القيام بتلك التصرفات المشينة، الشيء الذي جعل الإدارة تستقطب الأسوأ وتطرد الأفضل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
ومنذ سنوات استوقفتني ظاهرة غريبة أثناء إعداد دراسة عن الأمية تحت عنوان " الأمية في موريتانيا مشاكل وحلول". لقد استغربت حينها أن نسبة محو الأمية كانت أعلى قبل إنشاء وزارة خاصة بمحاربة الأمية ،هناك إحصائيات رسمية تؤكد ذلك، أي أن القضاء على الأمية كان أفضل قبل أن تخصص موارد ضخمة ووزارة لمحاربة الأمية. هذا ما لم يكن الرئيس الأسبق معاوية يحب سماعه. (لقد أرسلت له ـ إبراء للذمة ـ نسخة من تلك الدراسة عن طريق البريد المضمون، وسلمت نسخة أخرى لعمال القصر لكي يوصلوها إليه).
نفس الشيء حدث بعد ذلك مع التعليم عندما خُصِصَّت له ولأول مرة وزارتان في المرحلة الانتقالية الأولى . ولقد اعترف الوزير الأول بعد انتهاء مأموريته بأن حكومته فشلت تماما في التعليم.
الظاهرة تكررت أيضا مع الرئيس السابق الذي انصب اهتمامه على محاربة الفقر، وأطلق برنامج التدخل الخاص، ومع ذلك فقد شهد عهده أول ثورة جياع ماتت فيها نفس بريئة.
وقبل محاربة الأمية حدث نفس الشيء مع الزراعة التي أعطت أسوأ النتائج في الأعوام التي خُصِصت فيها الموارد الضخمة للزراعة. وقبل الزراعة حدث نفس الشيء مع الصيد البحري.
فلماذا يزداد انهيار القطاع كلما زاد اهتمام الدولة به، من خلال تخصيص الموارد الضخمة لإصلاحه ؟ ثم أليس من الأفضل أن تحجب الدولة الموارد المالية عن القطاعات التي تريد إصلاحها، إذا كان ضخ الأموال لا يؤدي إلا لمزيد من الانهيار ؟؟
إن أزمتنا الأخلاقية هي التي يمكن لها أن تقدم تفسيرا منطقيا لتلك الظاهرة الغريبة ، فضخ الأموال في قطاع ما، سيجعله قبلة لكبار المفسدين واللصوص والمنافقين والمتزلفين في الإدارة، الشيء الذي يجعل ضخ الأموال في قطاع ما نقمة عليه لا نعمة .
خلاصة : إننا نعيش أزمات عميقة في كل المناحي ، أزمات عن اليمين ، وأزمات عن الشمال ، أزمات من فوق ، وأزمات من تحت، أزمات تأتي فرادى، وأخري تأتي مثني مثني، وأزمات أخرى لا تأتي إلا بالجملة.
وإنه لن يكون بإمكاننا أن نواجه تلك الأزمات ، إلا إذا استحضرنا مقولة لأينشتاين أيضا تقول : " إن الأزمات العميقة لا يمكن مواجهتها بنفس العقليات والأساليب التي أنتجتها".
وهذه المقولة سنكتشف أهميتها عندما نحصد ـ إن شاء الله ـ النتائج المثمرة للحوار مع السجناء السلفيين، والذي شكل بالفعل أسلوبا جديدا وطريقة جديدة تختلف عن أساليبنا التقليدية التي كانت تتسبب في المزيد من التطرف والإرهاب.
تصبحون وأنتم موريتانيون ........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق