الأربعاء، 5 يونيو 2013

هنا أخطأ "أردوغان"


جاءت الاحتجاجات الأخيرة في تركيا لتربك الكثير من المتابعين، ولتزيد من حيرتهم، ولتخلط أوراقهم، ولتُسقط أقنعتهم الزائفة، ولتكشف أن المزاج هو الذي يتحكم في مواقفهم، فظهرت بذلك حقيقتهم الصادمة، تلك الحقيقة التي تقلق ـ أكثر من غيرها ـ على مستقبل هذه الأمة.

لقد أظهرت احتجاجات تركيا بأن المزاجية هي التي تحدد مواقف الكثير من نخبنا، فهاهم أعداء الربيع العربي، والذين طالما وقفوا ضده، واعتبروه مؤامرة تحاك ضد الأمة، هاهم يبدلون ـ وبسرعة مذهلة ـ موقفهم من الثورات، فلم تعد هذه الثورات هي مجرد مؤامرات، بل أصبحت حقا مشروعا، وعملا نضاليا عظيما، وذلك لأنها في هذه المرة كانت موجهة ضد رئيس الوزراء التركي وحكومته.
وفي المقابل فإن الكثير من أنصار الربيع العربي، والذين طالما تغنوا بأمجاده، بدلوا هم كذلك من مواقفهم، وذلك عندما تعلق الأمر باحتجاجات ضد أردوغان داعم الثورات، فوقفوا هذه المرة، وعلى غير عادتهم، ضد المحتجين، بل واتهموهم بأن هناك أيادي عميلة ومجرمة هي التي تقف وراءهم وتحركهم، تماما كما كان يقول أعداء الربيع العربي من قبل أن تصل رياحه  أو زوابعه ـ  إذا شئتم ـ إلى ميدان تقسيم باسطنبول.
إن هذا التناقض الحاصل في المواقف لدى الكثيرين، سواء كانوا من أنصار الربيع العربي أو من معارضيه، ليؤكد بأن الرأي لدى نخبنا لا تصنعه العقول، بل تصنعه الأمزجة، وتلك ليست إلا مصيبة واحدة من مصائبنا الكثيرة.
ونحن إذا ما تأملنا الحالة التركية بعيدا عن المزاجية، فسنجد بأنه لا بد لنا ـ من أجل الوصول إلى موقف سليم مما يجري في تركيا ـ من أن نأخذ بالاعتبار حقيقتين اثنتين، إحداهما تحسب لأردوغان، أما الثانية فتحسب عليه.
الحقيقة الأولى: لا مجال إطلاقا للمقارنة بين رئيس الوزراء التركي وأي رئيس عربي آخر من الذين أسقطتهم ـ أو تكاد أن تُسقطهم ـ شعوبهم. لا مجال إطلاقا للمقارنة، فرئيس الوزراء التركي، والذي كان في الأصل مجرد بائع للمشروبات في حي  كاسيمباسا بإسطنبول، لم يرث الحكم، ولم يصل إليه بانقلاب، وإنما أوصلته انتخابات شفافة لا يتجرأ حتى من يُعارضه اليوم على التشكيك في شفافيتها. كما أنه أيضا، وهذا مما يميزه عن الجميع، قدم انجازات عظيمة لشعبه، وهي انجازات لا يتسع المقام لبسطها، ويكفي أن نذكر منها على سبيل المثال، أنه تمكن منذ وصوله إلى الحكم من مضاعفة دخل المواطن التركي ثلاث مرات.

ولذلك فيمكننا القول بأن رئيس الوزراء التركي يمتلك شرعية ديمقراطية لا يمكن الطعن فيها، ويمتلك شرعية انجاز لا لبس فيها، عكس غيره من الدكتاتوريين العرب الذين لم يمتلكوا في أي يوم من الأيام أي شرعية، لا بالانتخاب، ولا بالانجاز، ولا بأي شيء آخر.

الحقيقة الثانية: لا يمكننا القول بأن تعامل أردوغان مع المحتجين من شعبه لا يختلف في أي شيء عن تعامل الدكتاتوريين العرب مع احتجاجات شعوبهم، لا يمكننا قول ذلك. ولكن في المقابل يمكننا أن نقول ـ وباطمئنان كبير ـ بأن تعامل أردوغان مع المحتجين كان صادما ومفاجئا للكثيرين، فمن جهة فقد تم استخدام القوة بشكل مفرط، وذلك ما اعترفت به الحكومة التركية نفسها. ومن جهة ثانية فإن اللغة التي تحدث بها أردوغان تتشابه كثيرا مع لغة الدكتاتوريين، خصوصا في جانبها المتعلق بوصف المتظاهرين بالمتطرفين، وبربط احتجاجاتهم بجهات خارجية، وبتوعدهم بأن مناصريه سيقدمون لهم الدرس الصحيح.
كان على أردوغان أن يتعامل مع الاحتجاجات كما تتعامل الحكومات في الديمقراطيات العريقة مع الاحتجاجات التي تنظم ضدها. فلا استخدام مفرط للقوة، ولا اتهامات بالتآمر، ولا إطلاق نداء استغاثة للمناصرين، للوقوف ضد المتظاهرين وكأنهم ينتمون إلى شعب آخر.
وهنا قد يقول قائل بأنه لا مبرر أصلا لتلك الاحتجاجات خصوصا وأن تركيا تعيش نهضة كبيرة في ظل الحكم الحالي، ولمن يقول ذلك فعليه أن يتذكر بأنه ليس وصيا على الشعب التركي، ولا يحق له أن يحدد للشعب التركي، ولا لأي طائفة منه، الوقت المناسب للاحتجاج، لأن ذلك يعد من أبسط حقوق الشعب التركي، والتي لا يجوز لأي كان أن يتدخل فيها.
وبالمناسبة فإنه يكثر في الديمقراطيات العريقة أن تنظم جماعات من شعوب تلك الدول مظاهرات واعتصامات قد لا تكون في ظاهرها ـ على الأقل ـ في مصلحة تلك الدول، بل إنها في بعض الأحيان قد تضر من مصالح تلك الدول ضررا بينا، ومع ذلك فلم تتهم حكومات تلك الدول أولئك المتظاهرين بالتآمر وبالعمالة للخارج ضد مصالح بلدانهم.
كان على رئيس الوزراء التركي، وهو المنتخب ديمقراطيا، أن يتعامل مع الاحتجاجات في بلده، كما تتعامل الحكومات في الديمقراطيات العريقة مع الاحتجاجات في بلدانها، حيث لا يتم الإفراط في استخدام القوة، ولا توزع الاتهامات على المحتجين، ولا يتم استنفار الأنصار ومطالبتهم بتقديم الدروس للمتظاهرين.
وبالمختصر المفيد، فيمكننا القول بأن أردوغان وهو الذي يختلف قطعا عن كل الرؤساء في المنطقة، كاد بتعامله الفظ والصادم مع المتظاهرين الأتراك أن يهبط بنفسه إلى شلة نادي الدكتاتوريين العرب الذين هم ليسوا أهلا لقيادة الدول، خاصة في مثل هذه الفاصلة الحرجة من تاريخ الأمة.
حفظ الله موريتانيا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق