هناك قصة كثيرا ما
أرويها في مجالات بعيدة ـ كل البعد ـ عن السياسة، سأرويها اليوم في إطار التعليق
على زيارة "روصو". تقول القصة بأن أحد المستشارين الكبار قرر في يوم من
الأيام أن يذهب إلى أحد السهول الخضراء خارج المدينة، وذلك لكي يأخذ قسطا من
الراحة بعد أسبوع من العمل الشاق. ويقال أن ذلك المستشار صادف في طريقه راعي غنم
يرعى غنما سوداء، تكاد لكثرتها تغطي السهل بكامله، فما كان من المستشار إلا أن
أوقف سيارته الفاخرة، واتجه نحو الراعي، ودار بينهما الحوار التالي:
المستشار للراعي : ـ إذا أخبرتك بعدد غنمك فهل ستعطينني
واحدة منها؟
ـ إذا حددت لي عددها
بالضبط فسأعطيك منها واحدة.
أرسل المستشار رسالة
نصية إلى صديق له، يعمل في شركة للتصوير الفضائي، وطلب منه أن يحدد له عدد النقاط
السوداء الموجودة في السهل الذي كانت توجد به غنم الراعي.
وبعد وصول الجواب على
الرسالة النصية، التفت المستشار إلى الراعي، وقال له : ـ غنمك عددها بالضبط 1639
شاة.
ـ عجيب كيف عرفت!؟
ـ لا يهم، المهم أنه
عليك أن تفي بما تعاهدنا عليه.
أخذا الراعي واحدة من
"النقاط السوداء" ووضعها في مؤخرة سيارة المستشار.
وهنا توجه المستشار نحو
سيارته، بخطوات مغرورة، وعندما وصل إليها اتجه إلى مقعد السائق، ثم بعد ذلك أدار
محرك سيارته، ولكن قبل أن تنطلق السيارة، التفت الراعي بكل ثقة إلى المستشار، وقال
له بصوت واثق:
ـ إذا حددت لك وظيفتك
بالضبط فهل ستعيد لي ما أخذت من غنمي؟
ـ إذا حددت لي وظيفتي
بالضبط فسأعيد لك ما أخذت منك.
ـ أنت تعمل مستشارا.
ـ ولكن كيف عرفت؟
ـ لا يهم، المهم أنه
عليك أن تلتزم بما قلت.
ـ سأعيد لك ما أخذت،
ولكن أرجوك قل لي كيف عرفت وظيفتي؟
ـ عرفتها بثلاثة
أشياء، أولها أنك جئتني دون أن أطلب منك ذلك، وهذه واحدة من صفات المستشارين فهم
دائما يأتون لعرض خدماتهم دون أن نطلب منهم ذلك (هذا ما أفعله أنا مع الرئيس). أما
الثانية فهي أنك لم تأتيني بمعلومة جديدة، والمستشار دائما لا يضيف معلومة جديدة،
فأنا كنت أعرف عدد غنمي من قبل أن تخبرني أنت به ( هذا أيضا يحدث دائما معي، فأنا
لا أضيف معلومة جديدة فيما أكتب). أما الثالثة وهي التي تأكدت من خلالها أنك تعمل
مستشارا فهي أنك لا تفرق بين النعجة والكلب ففي
سيارتك لا توجد نعجة بل يوجد كلب (هذه لن أنازع فيها مستشاري الرئيس).
تذكرت قصة الراعي
والمستشار وأنا أتابع زيارة الرئيس لروصو، فبعد تلك الزيارة تأكدت بأن مستشاري الرئيس
لا يفرقون بين النعجة والكلب، هذا بافتراض أنه عينهم ليستشيرهم، وبافتراض أنه يعمل
باستشارتهم، إذا ما قدموها له.
تصوروا المشهد
التالي: ماذا لو ظهر الرئيس في "روصو" وهو يرتدي ثوبا إفريقيا، في مثل هذا
اليوم الذي أراد له الرئيس أن يكون يوم مصالحة بين الموريتانيين ؟ وماذا لو ألقى
خطابه بالولفية مثلا ( أعتقد أنه يتقنها جيدا)؟ وماذا لو خطب وزير الداخلية بإحدى
اللغات الوطنية بدلا من اللغة الفرنسية؟ ولماذا يتحدث دائما بعض المسؤولين الكبار
ممن لا يعرف اللغة العربية باللغة الفرنسية بدلا من الحديث بواحدة من اللهجات
الوطنية؟
إن مشكلتنا في هذا
البلد هي في طغيان اللغة الفرنسية في الخطاب الرسمي، وفي العمل الإداري، لذلك فمن
الأسلم أن يتحدث المسؤول بلغته الوطنية إذا لم يكن يحسن الحديث باللغة الرسمية
للبلد، بدلا من اللجوء للغة الفرنسية التي
لا يمكن أن نعتبرها لغة لأي موريتاني.
إن من حق الموريتانيين
العائدين لوطنهم أن يُخاَطَبوا بلغاتهم الوطنية في مثل هذا اليوم الذي يُراد له أن
يُطوى فيه ملف الإرث الإنساني، بدلا من مخاطبتهم باللغة الفرنسية.
أيضا من المعلومات
التي كنا نعرفها، والتي لم نكن بحاجة لتأكيدها، هي أن وزير التجارة يرحب بالرئيس
في "روصو". فالوزير لم يكن بحاجة إلى لافتات وأبواق ليؤكد لنا ذلك، لا
هو، ولا شيخ "روصو".
إن ما يحتاج لتأكيد
هو هل أن المواطنين البسطاء في "روصو" يرحبون بالرئيس أم لا يرحبون به؟
تصبحون وقد غابت
الفرنسية من الخطاب الرسمي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق