ستحاول هذه الورقة ـ التي لا أنصح القارئ بإكمال قراءتها ـ أن تكشف النقاب عن الوجه الحقيقي لأول عام من حكم "رئيس الفقراء" بعد انتخابه. وهي ستحاول أن تقدم ذلك الوجه ـ وكما هوـ دون أن تضيف له مساحيق تجميل كما يفعل البعض، ودون أن تبالغ ـ أكثر من اللازم ـ في التركيز على مواطن القبح فيه كما يفعل البعض الآخر.
ولن تقتصر هذه الورقة على كشف النقاب عن الوجه الجديد القديم لموريتانيا الجديدة القديمة، بل إنها ستحاول أن تتبع ملامح ذلك القبح وتكشف عن أسبابه وتقترح ـ كلما كان ذلك ممكنا ـ بعض العمليات التجميلية التي أصبح من الضروري إجراؤها للتخفيف من تلك التشوهات التي يعتبرها البعض ـ عكس حقيقتها ـ تشوهات خلقية وبنيوية لا يمكن علاجها.
وهذه الورقة المعدة بمناسبة مرور عام تقريبا على انتخاب "رئيس الفقراء" ليست إلا مقدِّمة لورقة أخرى، ستكون ـ إن شاء الله ـ أكثر تفصيلا، وستتحدث عن عقود خمسة من الإحباط بمناسبة الاحتفال بخمسينية ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي أنعم الله عليها بمساحة شاسعة غنية بالثروات والخيرات. ورغم ذلك لا زالت بعد عقودها الخمسة عاجزة عن توفير أبسط ضرورات الحياة الكريمة لسكانها الذين لا يصل عددهم لسكان مدينة واحدة من كثير من المدن العالمية. ولازالت ـ وهذا هو المؤلم حقا ـ تلفظ شبابها إلى الإجرام، والإرهاب، أو في أحسن الأحوال إلى دول أجنبية لمزاولة أعمال قد لا تكون لائقة من أجل البقاء على قيد الحياة.
لقد أصبحنا بحق في أمس الحاجة لميلاد موريتانيا جديدة طال انتظارنا لميلادها، خصوصا أننا سنحتفل قريبا بمرور نصف قرن على الميلاد الرسمي لموريتانيا التي لم تولد بعد في عقول وقلوب أغلب أبنائها. وتلك واحدة من أعظم مصائبنا الكثيرة.
لماذا هذا العنوان بالذات؟
لا جدال في أن النصف المعارض من الشعب الموريتاني قد أصيب بإحباط وبصدمة كبيرة بعد ظهور نتائج انتخابات الثامن عشر من يوليو. ولا جدال كذلك في أن الكثير من المعارضين لم يفق حتى الآن من آثار تلك الصدمة الكبيرة رغم مرور عام تقريبا على ظهور النتائج المفاجئة التي لم يكن يتوقعها متشائمو المعارضة ولا متفائلو الموالاة.
في حين أن النصف الثاني (الموالاة ) ـ لحسن حظه أو لسوئه ـ لم يعش ذلك الإحباط دفعة واحدة، وإنما تجرعه بالتقسيط على شكل جرعات متفاوتة على مدار العام كله.
فكل أنصار "التغيير البناء"، من وجهاء وشيوخ قبائل ورجال أعمال وساسة وحتى من فقراء يشعرون اليوم بإحباط كبير لأنه لا يوجد من بينهم من حصل على الحد الأدنى مما كان يتوقع بعد مرور عام على انتخاب وتنصيب أول "رئيس للفقراء" في تاريخ بلد الفقراء.
وإذا كان إحباط رجال الأعمال والوجهاء ورجال السياسة قد يعتبر بشارة خير، فإن إحباط الفقراء الذين يعود لهم الفضل في نجاح أول رئيس لهم ليس كذلك. فهو يمثل انتكاسة للوعود الكبرى التي حلموا بها أثناء الحملة الانتخابية.
ولقد عبرت سيدة فقيرة من مقاطعة عرفات عن ذلك الإحباط بطريقة مؤثرة جدا، عندما طالبت وبإلحاح من الرئيس بأن يعيد لها "صوتها" الذي منحته له في انتخابات يوليو، لأنها لم تعد تأمل أن يتحسن حالها ولا حال الفقراء في عهده. ( انظر الرسالة العاشرة من الرسائل المفتوحة الموجهة لرئيس الجمهورية في عام الإحباط هذا).
إذن لقد كان الإحباط هو السمة الأبرز لموريتانيا الجديدة، في عامها الأول، ورغم تعدد أسباب ومظاهر وتجليات ذلك الإحباط فإن هذه الورقة ستركز أساسا على إحباط الفقراء. وستبدأ هذه الورقة بقانون عجيب غريب "اكتشفه" فقير أمي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك للتعبير عن إحباطه عاما بعد عام، وتغييرا بعد تغيير، وتصحيحا بعد تصحيح، وانقلابا بعد انقلاب، وتنصيبا بعد تنصيب.
قانون مُحْبِط
لا شك في أن وعود المانحين في بروكسل قد أعطت " جرعة أمل " كبيرة مع نهاية هذا العام الذي لم يشذ عن القانون المحبط . يقول القانون بعد شيء من التصرف بأن كل عام يمر بهذا البلد يتحول بطريقة عجيبة من عام شقاء إلى عام رخاء. فهو يكون جحيما في الحاضر ونعيما في الماضي، أي أنه يكون عام شقاء عندما نعيشه، وفي الوقت نفسه عام رخاء عندما نودعه. فالفقير لا يكتشف بأنه كان يعيش في رخاء ونعيم إلا بعد أن يستقبل عاما جديدا. فهو دائما ـ أي الفقير ـ يظل يكرر بأن هذا العام سيء جدا، ولا شيء أسوأ منه، ولكنه عندما يأتي عام جديد، يكتشف بأن العام الماضي الذي كان يعتبره عاما صعبا، لم يكن صعبا، بالمقارنة مع العام الجديد.
فمثلا كان فقراء هذا البلد يقولون بأن العام 2006 كان عاما صعبا على المستوى المعيشي. ولكنهم اكتشفوا بأنه كان عام رخاء مع قدوم 2007 . ثم اكتشفوا بعد ذلك أن 2007 كانت نعيما عندما عاشوا جحيم العام 2008 الذي تحول إلى نعيم مع حلول العام 2009 . ولقد تحول العام 2009 بدوره إلى جنة مع قدوم العام 2010 وهو العام الذي قد يتحول أيضا ـ وفق القانون المُحْبِط ـ إلى جنة مع قدوم العام 2011 الذي قد تُبَذر فيه المليارات من تمويلات بروكسل كما بُذرت سابقا المليارات دون أن يتحسن ـ ولو قليلا ـ المستوى المعيشي للمواطن الموريتاني.
هذا هو القانون الذي وضعه أحد بسطاء البلد، وهو القانون الذي أتمنى من كل قلبي أن يثبت لنا "رئيس الفقراء" عدم صلاحيته خلال عامه الثاني في الحكم والذي سيستقبله ـ عكس عامه الأول ـ بتمويلات سخية لم تكن تحلم بها حكومته.
ذلك ما أتمناه حقا، ولكن قبل ذلك دعونا نعود للعام الماضي ليس فقط من خلال قوانين البسطاء، بل من خلال أحدث معادلات التغيير التي وضعها العلماء والخبراء في هذا المجال. فلنستمع إذن لكلام الخبراء.
كلام خبراء: يُجمع خبراء التغيير على أن التغيير الذي يُحدث نهضة، ليس مجرد عملية فوضوية تتم بشكل عفوي. وإنما هي عملية معقدة جدا، وتحكمها قواعد وقوانين علمية صارمة. وسنتوقف في هذه الفقرة مع بعض تلك القوانين من خلال إسقاط معادلة التغيير على التغيير البناء، بعد مرور عام من الأعوام الخمسة التي من المفترض أن يحصل فيها ذلك التغيير.
تقول المعادلة : C = A x B x D > X
أي أن فرص نجاح التغييرـ أي تغييرـ التي يرمز لها بـ "سي" تساوي حاصل ضرب درجة الاستياء من الظاهرة " آ"، في معامل وضوح الرؤية "بي"، في معامل مستوى الانجاز في الأشهر الأولى"دي". ويقول هذا القانون بأن الناتج يجب أن يكون أكبر من "الإكس" التي ترمز لكلفة التغيير.
وقبل الحديث بشكل مفصل عن عناصر معادلة التغيير فإنه من المهم جدا أن نتحدث قليلا عن بعض المفاهيم المرتبطة بالتغيير وبقوانينه.
1ـ رغم أننا قد نختلف في قياس بعض الظواهر الإنسانية لأن تلك الظواهر لا يمكن حسابها بشكل دقيق بالأرقام، إلا أن ذلك لا يقلل ـ إطلاقا ـ من أهمية معادلة التغيير.
2ـ لكل تغيير كلفة لا بد أن يتم دفعها مع البدء في التغيير نفسه. عكس عدم التغيير الذي لا يدفع الناس كلفته إلا بشكل مؤجل ( وهذا سبب من أسباب عديدة تجعل الكثير من المستهدفين بالتغيير يتخذون مواقف سلبية منه).
3 ـ كثيرا ما يتحول بعض المستفيدين من التغيير إلى خصوم و أعداء له. و يمكن ذكر المثبطين الذين يحاولون التشكيك في استحالة أي تغيير، رغم أن مصلحتهم في نجاح التغيير. كما أن هناك فئة الخاملين التي تعمل جاهدة من أجل أن تبقى الأمور خاملة.
4 ـ إن هذا القانون يصلح لكل أشكال التغيير، سواء كان ذلك التغيير فرديا يخص الأفراد، أو كان تغييرا داخل مؤسسة، أو منظمة، أو دولة. والشيء الذي يتغير في الأساس هو حرف (دي) الذي يرمز لمستوى الانجاز في الفترة الأولى للتغيير . فهو يجب أن تكون مدته قصيرة جدا بالنسبة للأفراد، ومتوسطة بالنسبة للمنظمات والمؤسسات، وطويلة نسبيا بالنسبة للدول.
5ـ إنه عندما يكون أي عنصر من عناصر التغيير الثلاثة يساوي صفرا، فإن مستوى التغيير سيكون صفرا، لأنه حاصل عملية ضرب بين العناصر الثلاثة.
6 ـ إن من الأخطاء التي يقع فيها البعض النظر إلى نصف الكأس، وسواء منهم من ينظر إلى نصفها الفارغ، أو من ينظر إلى نصفها المملوء. علينا أن ننظر إلى الكأس بنصفيها الفارغ والمملوء. وهذا بالضبط هو ما تحاول معادلة التغيير أن تتحدث عنه بطريقة رياضية رائعة. فالبعض لسبب أو لآخر لا يرى من عملية التغيير إلا كلفته، وهو بذلك ينتقده انتقادا فظيعا. وأما البعض الآخر فهو يتغاضى عن ثمن التغيير، ويغالط المستهدفين، ولا يحدثهم عن الكلفة التي يجب عليهم دفعها وهو ما يصعب عملية التغيير.
7ـ إنه ليس من المناسب أن نغرق في تحليلات رياضية في ورقة معدة لقراء من مستويات شتى، لذلك فسأكتفي بتقديم عناصر معادلة التغيير. والمهم أن يعلم القراء أن لكل تغيير عناصر ثلاثة لا يمكن أن يحدث دونها، وأن حاصل ضرب تلك العناصر الثلاثة يجب أن يكون أكبر من كلفة التغيير. فلنعد إذن إلى عناصر المعادلة الثلاثة:
العنصر الأول : مستوى درجة الاستياء من الظاهرة المراد تغييرها، وكلما ارتفع ذلك المستوى كلما أدى ذلك إلى نتيجة أكبر. والحقيقة أن كل الشعب الموريتاني بنخبه وعامته، وبمعارضته وموالاته مستاء من هذا الواقع البائس الذي نعيشه، خصوصا أننا سنحتفل ـ بعد أشهر قليلة ـ بالذكرى الخمسين لتأسيس الدولة الموريتانية التي لازال نصف شعبها أمي لا يقرأ ولا يكتب. في حين أن النصف الثاني "المتعلم" لا تختلف تصرفاته وسلوكياته كثيرا عن النصف الأمي. ولا زالت بطون نصف شعبها جائعة، أما النصف الثاني فقلوبه جائعة لا تشبع أبدا. ولا زال نصف شعبها مفسد، أما النصف الثاني فهو يتحين الفرص لكي يجد شيئا يفسده. فالكل مستاء لأن البلد يتربع منذ خمسين سنة ـ وحسب المؤشرات الدولية ـ على أعلى درجات سلم التخلف، والفقر، والأمية، والمرض، والجوع، والرشوة، وهو ينافس حتى الدول التي تعيش حروبا أهلية منذ سنوات.
وهنا قد يطرح البعض السؤال التالي: لماذا لم يحصل تغيير ما دام الكل مستاء من الواقع؟ والجواب هو أن درجة الاستياء لا تكفي لوحدها لكي يحصل تغيير. فهناك عناصر أخرى في معادلة التغيير، ثم إن إعلامنا الرسمي كان يعمل جاهدا لامتصاص ذلك الاستياء. فكان الناس عندما يستاءون من القمامة ـ مثلا ـ يطل عليهم طبيب بائس، في تلفزيون بائس، ويقول لهم بأن انتشار القمامة بشارة خير، لأنه يعكس حجم الطفرة التي حصلت في مستوى الاستهلاك. وعندما يتألم العمال من سوء حالهم يطل عليهم نقابي بائس، في تلفزيون بائس، ويقول لهم بأن العامل الموريتاني، هو العامل الأكثر حظا في العالم لأن الزيادات تأتيه تترا دون عناء ودون نضال. وعندما يتألم البعض من غياب البنى التحتية في العاصمة، وفي المدن الكبرى، يطل عليهم صحفي بائس، في تلفزيون بائس، ليحدثهم عن تعاونيات ريفية، في قرى ريفية، تفكر في تسويق منتجاتها الزراعية عن طريق الانترنت!!
وعندما يتألم الناس من تفشي الأمية، أيام كانت الأمية ـ في عهد مضى ـ تشكل عائقا من عوائق التنمية، كان يطل ناشط مدني بائس، في تلفزيون بائس، ليعد بأن منظمته التي لا عنوان لها ستقضي على الأمية في ستة أشهر.
وكخلاصة يمكن القول بالنسبة لهذا العنصر بأن "رئيس الفقراء" كان جريئا ـ ومنذ وصوله إلى السلطة ـ في التحدث عن هموم الناس، وهي جرأة فاقت في بعض الأحيان جرأة المعارضة. وقد ساهمت تلك الجرأة في فك العقدة عن لسان الكثيرين وأصبحوا لا يجدون صعوبة في الحديث عن الهموم الحقيقية للبلد.
العنصر الثاني : وضوح الرؤية والذي ترمز له المعادلة بحرف (بي )، ولا يكفي فقط أن تكون الرؤية واضحة لمن يقود مشروع التغيير، بل لابد لها أن تكون واضحة لأغلب المستهدفين من عملية التغيير. فوضوح الرؤية يحتاج لخطاب قوي جدا، وواضح جدا، يساعد في اكتتاب أنصار جدد من خلال إقناع الخاملين والمثبطين والمترددين وحتى المعارضين، بدلا من خطاب مشوش يؤدي إلى انسحاب الكثير من أنصار التغيير.
لقد كاد "التغيير البناء" أن يتحول إلى "غموض بناء" ( الغموض البناء مصطلح أمريكي كالفوضى الخلاقة، وإن لم يكتسب شهرتها في التداول، وقد تم استخدامه لأول مرة بعد " أوسلو" عندما تم تجاهل ملف القدس والاستيطان واللاجئين فقيل أن ذلك التجاهل هو نوع من الغموض البناء).
وحتى لا نتجاهل نحن ـ على الطريقة الأمريكية ـ أهم "بنود" التغيير البناء، فقد ارتأيت أن أعود في هذه الورقة إلى بعض تلك البنود.
حقيقة لقد كانت فكرة مشروع موريتانيا الجديدة، فكرة ذكية و رائعة، وكان بالإمكان أن تكون فكرة تغيير جامعة، تجمع حولها غالبية نخب وعامة هذا الشعب، لو كانت تلك الفكرة واضحة بالنسبة لأصحابها. فمشروع موريتانيا الجديدة يحتاج أولا إلى عقلية جديدة، وإلى أساليب وأنماط جديدة في الحكم. أما استخدام نفس الأساليب القديمة فلن يؤدي إلا لنفس النتائج المعروفة، حتى ولو رفعنا شعار موريتانيا الجديدة. وخلال العام الماضي يمكن القول بأن النظام كان يُتبع كل خطوة جديدة إلى الأمام عدة خطوات إلى الوراء، وهو ما يعكس ـ بالتأكيد ـ عدم وضوح الرؤية بالنسبة له.
وفوق ذلك فقد عانى النظام خلال العام الماضي من عجز كبير في "تسويق" بعض الانجازات الهامة، التي وصلت إلى المواطن العادي بشكل مشوش وملتبس. وقد يكون السبب الأكبر في ذلك يعود إلى أغلبية الرئيس، وإلى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية خاصة، والذي يمكن تصنيفه بأنه هو حزب السلطة الأكثر فشلا في تاريخ أحزاب السلطة في هذا البلد. إن هذا الحزب الذي يديره رئيسه بنفس الطريقة التي كان يدير بها وزارة الدفاع سابقا أي عدم التصرف إلا بأوامر لا يمكن أن يُسَوق مشروع موريتانيا الجديدة ( وهذا ما ستتحدث عنه بتفصيل أكثر البطاقة الحمراء الثانية).
لقد أضاع هذا الحزب ـ الذي يعمل لا كحزب وإنما كإدارة حكومية في مقاطعة نائية ـ سنة كاملة في تبادل الشتائم والكلام التافه مع المعارضة، بدلا من أن يشتغل ـ كما تفعل أحزاب الأغلبية في الدول الديمقراطية ـ في تسويق البرنامج الانتخابي لرئيسه المنتخب، وفي الدفاع عن ما تحقق من انجازات. ولم يختلف بيانه الأخير عن بياناته وتصريحاته السابقة، فقد قزَّم ذلك البيان نجاح طاولة بروكسل عندما جعل منها مناسبة جديدة للتشفي و لتخوين المعارضة. وإذا عدنا لتراث الأغلبية والمعارضة فلن نجد ـ قطعا ـ ما يثبت أن المعارضين للنظام الحالي وللأنظمة السابقة، كانوا أكثر خيانة وعمالة من الموالين له الذين جُبلوا على موالاة كل الأنظمة، وظلوا يتوارثون تلك الموالاة كابرا عن كابر، وصاغرا عن صاغر. حتى أداء الحزب في البرلمان كان باهتا، ولو وضع أداء نوابه الثلاثة والخمسين في كفة، ووضع أداء نائبين أو ثلاثة من المعارضة في كفة أخرى لرجحت كفة نواب المعارضة. وبالمختصر المفيد فإن وضوح الرؤية لمشروع موريتانيا جديدة يحتاج أولا لأن تكون كل تصرفات المبشرين بها، تصب في ذلك المشروع ولا تناقضه.
العنصر الثالث : مستوى الانجاز في الفترة الأولى: إن هناك واقعا صعبا نعيشه اليوم، وهناك وضعية أفضل نحلم بها، ومن المفترض أن تكون هناك خطة حكومية، تنقلنا من الوضعية السيئة التي نتخبط فيها، إلى الوضعية الأفضل التي نحلم بها، في مدة زمنية تقدر بخمس سنوات، ومن أهم تلك السنوات الخمس العام الأول.
ويقول الخبراء بأن ما ننجزه في السنة الأولى، هو الذي سيحدد سرعة سيرنا في السنوات الخمس القادمة. وأهمية الإنجاز في العام الأول تكمن في أن كل تغيير ستنتج عنه لا محالة مقاومة لذلك التغيير وتلك المقاومة تزداد قوتها ومناعتها كلما كان التغيير في بدايته ضعيفا لأن ذلك سيساعدها كثيرا في جمع قدراتها وفي تنظيم صفوفها لإحباط عملية التغيير. وهذا ما جعل البعض يفضل التغيير الفجائي على التغيير التدريجي، لأن التغيير الفجائي (الثورة) يشكل صدمة قوية لقوى مقاومة التغيير، ولا يعطيها فرصة لمقاومته. وحتى لا نغرق بعيدا في نقاشات نظرية فإننا سنعود في هذا الورقة ـ والتي أطلب من جديد من القارئ أن يتوقف فورا عن قراءتها ـ إلى ملامح موريتانيا الجديدة، وذلك لنبين أن مستوى الانجاز في العام الأول لم يكن قويا، وأن مقاومة التغيير كانت حاضرة وبقوة، وأنها استطاعت أن تُحوِّل الحرب على الفساد ـ والتي كانت هي العنوان الأبرز للتغيير البناء ـ إلى هدنة معه.
الهدنة مع الفساد: لقد عرفت البلاد ـ على الأقل في الأشهر الأولى من عهد الرئيس الحالي ـ حربا معلنة وميدانية ضد الفساد، أعقبتها هدنة غير معلنة. ولتقييم نتائج تلك الحرب الخاطفة التي أثارت جدلا كبيرا بين المعارضة والموالاة لابد من التحدث عن خمسة أنواع من الأسلحة التي تم استخدامها، أو التي كان من المفترض أن يتم استخدامها في هذه الحرب، وذلك من أجل الخروج بحصيلة دقيقة وميدانية لنتائج تلك الحرب الخاطفة.
السلاح الأول: يتعلق بعصا العقوبة التي تستخدم لمعاقبة المفسدين و لتخويفهم. وهذه قد تم استخدامها في الأسابيع الأولى من هذا العام من خلال تجريد بعض المفسدين الموالين، ومن خلال استرجاع بعض الأموال المنهوبة، و من خلال فتح ملف رجال الأعمال المتهمين في ملف البنك المركزي.
السلاح الثاني: وهو سلاح الجزرة و يستخدم في العادة لحماية الموظفين ضد الفساد، من خلال تعيين وترقية وتكريم الموظفين النزهاء الأكفاء. وهذا السلاح لم يستخدم إطلاقا خلال كل العقود الأخيرة فالتعيينات والتكريمات والتوشيحات ظلت حكرا على المفسدين، أو على الأقل لمن يستخدم أساليب وطرق غير شفافة للحصول عليها. لقد حدث في هذا البلد أن تم توشيح مفوض شرطة بوسام سام، ولقد فوجئ المهنئون بظلام "دامس" يلف منزل الموظف الموشح ليلة توشيحه. لقد ظل ذلك الموظف لسنوات يسرق الكهرباء دون أن يتجرأ أحد على محاسبته، إلى أن حُوِّل لفرع شركة الكهرباء في تفرق زينة رئيس مركز، تعينه الشركة ـ عادة ـ كلما كانت تعاني من نقص حاد في الموارد، فهو معروف بالاستقامة والصرامة الشيء الذي جعله يصر على قطع الكهرباء عن منزل الموظف الموشح. تأملوا في هذه الصورة: موظف يسرق الكهرباء لسنين يتم توشيحه عدة مرات، وموظف آخر معروف بالاستقامة في شركة معروفة بالفساد لم يوشح أبدا.
فسلاح الجزرة لم يستخدم إطلاقا في موريتانيا الجديدة، فلا يوجد تعيين واحد أو ترقية واحدة تمت فيها العودة إلى الكفاءة، رغم كثرة التعيينات والترقيات التي بلغت في أحد مجالس الوزراء سبعين تعيينا.
بل أكثر من ذلك فإن موريتانيا الجديدة لا تكتفي بأنها لا تكرم الأكفاء النزهاء من أبنائها، بل أنها لا تترك الرحمة تنزل على هؤلاء. ويكفي هنا أن أقدم كمثال الشرطي المعروف بشرطي نادي الضباط المحروم من أي تكريم رسمي حتى الآن ، رغم أنه سيحال إلى التقاعد مع مطلع العام القادم. وهو الشرطي الذي يشهد له الجميع بالكفاءة والنزاهة والاستقامة والتفاني في العمل. لقد رفض والي نواكشوط الترخيص لوقفة تكريمية كانت ستنظمها " ضحايا ضد الفساد" لتكريم هذا الشرطي المميز. أنظر مقال "أقبل رأسك.. يا الشيخ صار".
السلاح الثالث: تجفيف منابع الفساد وهذا السلاح قد تم استخدامه بقوة، خاصة في مجال تعميم علاوات السكن والنقل، والتي كانت تشكل بؤرة كبيرة من بؤر الفساد. ومن المؤسف أن تعميم العلاوات قد واجه انتقادات حادة من المعارضة، وهي انتقادات لم تكن صائبة في أغلب الأحيان برغم وجود بعض الأخطاء التي كان يجب أن يتم تفاديها في هذا التعميم. ومن هذه الأخطاء عدم التشاور مع النقابات في المراحل الأولى، ومنها أيضا استخدام كلمة " معتبرة " التي أطلقها الوزير الأول والتي فتحت شهية العمال لزيادات "معتبرة" قبل ظهور الحجم الحقيقي لتلك الزيادة. وربما يكون من المفيد هنا أن ننصح بترشيد استخدام بعض الكلمات أثناء الخطابات الحماسية، بل وسحبها من الخطاب الرسمي ككلمة معتبرة أو جبارة. والكلام هنا موجه بالأساس إلى الوزير الأول الذي تسبب في مشاكل جمة بكلماته "الحماسية". فقد تسببت كلمة " معتبرة " في إضرابات عمالية، كما تسببت كلمة" دبر حالك" في مواجهات عرقية في الجامعة.
السلاح الرابع : إقصاء المفسدين: لم تكن الغالبية ممن صوت لـ "محارب المفسدين" تعتقد بأن رموز الفساد سيعودون بهذه السرعة، وبهذه القوة ،وبهذا الحجم، وبهذه الكثافة وقبل أن يكتمل العام الأول من عمر موريتانيا الجديدة التي لا مكان فيها للفساد والمفسدين، كما كان يؤكد دائما الرئيس بمناسبة وبغير مناسبة.
لقد تم تعيين من ارتبط اسمه بأشهر قضية فساد في قطاع التعليم في أعلى منصب دستوري في البلاد. كما تم تعيين من ارتبط اسمه في قضايا فساد عديدة، تبدأ بالدواء ولا تنتهي بالإرهاب والكتاب على رأس أشهر مؤسسة أنجبتها موريتانيا الجديدة!
ويكفي أن نعلم بأن كل رؤساء الحكومات في عهد "الفساد الأول" تم تعيينهم في وظائف سامية، وبذلك تكون موريتانيا الجديدة وفي وقت قياسي جدا قد تصالحت مع المفسدين واستعادت كل مشاهير الفساد، ولم تستبعد من "المشاهير" إلا المفسدين الذين فيهم خصلة حسنة وهي الوفاء لأولياء نعمهم.
السلاح الخامس : انحراف بعض المؤسسات عن دورها في محاربة الفساد ، ولعل المثال الأبرز الذي يمكن تقديمه هنا هو المحكمة السامية، التي قامت لها الدنيا ولم تقعد، والتي كان تأجيل تأسيسها لأسابيع معدودة هو أبرز حجة لتشريع الانقلاب. لقد تحول رئيس هذه المحكمة إلى مدافع عن النظام بأسلوب وبلغة وبطريقة تستحق النقد، حتى وإن جاءت من مواطن ريفي أمي لا يفقه من القانون شيئا. يمكن العودة للنقد الذي وجهه رئيس المحكمة لأعلى سلطة دستورية في البلاد، وذلك للدفاع عن قانون الإرهاب. كما يمكن العودة لانتقاداته اللاذعة لمنسقية المعارضة، والتي لا تليق بشخصية سامية، تم اختيارها لرئاسة محكمة سامية.
لقد خسرنا معركة حاسمة من الحرب على الفساد، كما خسرنا حروبا سابقة مع الأمية، ومع الفقر. ورغم أن النظام الحالي يتحمل المسؤولية الكاملة في خسارة هذه المعركة، إلا أن ذلك لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أن نغفل الأدوار السلبية لبعض الأطراف الأخرى.
من هذه الأدوار السلبية الدور الذي لعبته المعارضة التي وقفت بشدة ضد معاقبة رجال الأعمال، وهم الذين تركوها ـ بالمناسبة ـ بعد خروجهم من السجن وانخرطوا في الإتحاد من أجل الجمهورية. لقد أخطأت المعارضة كثيرا في موقفها ذاك والذي أصبح حجة يستخدمها أنصار الأغلبية كلما طالبت المعارضة بمعاقبة بعض المفسدين. لقد كان الأولى بالمعارضة في تلك الفترة أن تستغل فتح ذلك الملف للمطالبة بفتح المزيد من الملفات، وبتوسيع الدائرة حتى تشمل رجال الأعمال المقربين من النظام، والذين توجد لبعضهم ملفات كان يمكن تقديمها للرأي العام. اللافت للانتباه هنا أن الرئيس يمتلك جرأة كبيرة للتحدث عن ما تعتبره المعارضة مفسديها. أما المعارضة فلا تستطيع ـ لسبب لا أفهمه ـ أن تتحدث عن مفسدي النظام بنفس الجرأة. أنظر مقال " تفاديا للالتفاتة القاتلة" ومقال " إعلان حرب".
أيضا أخطأت النخبة بصفة عامة، وبالأخص من هم ضحايا للفساد. فهي بدلا من أن تقود انتفاضة شعبية ضد الفساد، لمؤازرة الحرب على الفساد، عندما بدأ إطلاق الرصاص الحي، اختارت أن تلعب دورا سلبيا ومثبطا. فصورت فتح ملف رجال الأعمال وكأنه عمل خطير سيؤدي لهلاك البلاد والعباد. والحقيقة أن ترك ذلك الملف وترك غيره من ملفات الفساد هو الذي سيؤدي إلى كارثة حقيقية تهدد البلاد والعباد، بمن فيهم من مصلح ومفسد على حد سواء. فالدولة قد تستقيم على الكفر ولكنها لا تستقيم أبدا على الظلم. ونحن المسلمين علينا أن نخاف من الأضرار التي قد يتسبب فيها ترك مفسد يسرق طعام جائع، أو دواء مريض. فذلك عليه أن يخيفنا ـ إن كنا مسلمين حقا ـ أكثر من خوفنا من معاقبة كل رجال الأعمال المفسدين، بل ومعاقبة كل المفسدين في هذا البلد دفعة واحدة، حتى ولو كانت نسبتهم على هذه الأرض الطيبة تفوق كثيرا نسبة الأميين ونسبة الفقراء التي تجاوزت نصف السكان.
ومن أخطاء النخبة أيضا أنها تحولت إلى "نخبة ببغاء" فإذا تحدث الحاكم عن السمنة تحدثوا هم عن السمنة. وإذا تحدث عن الأمية تحدثوا عن الأمية، وإذا تحدث عن الأزمة الأخلاقية تحدثوا، وإذا سكت الحاكم عن الأخلاق سكتوا، وإذا تحدث عن الطاولة المدرسية تحدثوا عنها، وإذا حارب الفساد حاربوه، وإذا هادنه هادنوه. لقد أصبح الحاكم هو الذي يحدد لنا أوجاعنا وآلامنا وهمومنا ويختار لنا التوقيت المناسب للتحدث عن أي معاناة، والتوقيت المناسب للتوقف عن الحديث عن تلك المعاناة، والبدء في التحدث عن معاناة أخرى. فالحاكم هو الذي يحدد لنا بالضبط متى نشكو من كثرة القمامة، ومتى نتوقف عن الشكوى من القمامة، ومتى نتألم بسبب الفساد، ومتى نئن بسبب نقص الطاولات المدرسية، ومتى نقول عندما لا يكون هناك أي أمل في الحصول على تمويلات أجنبية ـ كما حدث بعد انقلاب السادس من أغسطس ـ بأن بلدنا غني جدا ولا يحتاج لأي تمويل. ومتى نقول عكس ذلك تماما عندما تتعلق القلوب والأفئدة ببروكسل.
وتمشيا مع ما جرت به العادة عند سلاطين هذا البلد الذين تعودوا على أن يشعلوا حربا جديدة كلما أخمدوا أخرى. فقد أعلن الرئيس الحالي عندما هادن الفساد إشعال حربين تحريريتين جديدتين ومثيرتين : إحداهما برية انطلقت من مقاطعة عرفات لتحرير الشوارع، وهي حرب لن نتحدث عنها في هذا المقام. أما الثانية فهي حرب فضائية انطلقت من مبنى بيت الشعوذة المرئي ( التلفزيون) وهي التي سنخصص لها فقرة في هذه الورقة التي أنصح القارئ للمرة الثالثة بأن لا يكمل قراءتها.
تحرير الفضاء السمعي البصري: لن أعود في هذه الورقة لعورات الإعلام الرسمي وما أكثر عوراته. فقد تحدثت بما فيه الكفاية عن تلك العورات في مقالات سابقة: " بيوت الشعوذة"، " خبر عاجل"، "تأملات في اللاشيء"، "أسئلة على الطاولة"...إلخ
لن أعود لمساوئ الإعلام الرسمي بل سأكتفي بتسجيل بعض الملاحظات على الحرب التحريرية المعلنة. وسأقتصر على التلفزيون كنموذج لأنه هو الذي خصه الرئيس بالزيارة الميدانية التي وعد أثناءها بتحرير الفضاء السمعي البصري.
الملاحظة الأولى: إن تحرير الفضاء السمعي البصري يجب أن يسبقه ـ حسب اعتقادي ـ تحرير بيوت الشعوذة ( التلفزيون، الإذاعة، الشعب) من ممارسة الدجل والشعوذة حتى تعود ـ على الأقل ـ إلى مستوى أدائها في المرحلة الانتقالية الأولى، حيث كانت يومية "الشعب" تنافس الصحف المستقلة في الأكشاك، وحيث كانت الإذاعة والتلفزيون يقدمان بعض البرامج التي تستقطب المستمع والمشاهد.
ولقد كان الأجدر بالرئيس ـ الذي أعتقد بأنه مستاء فعلا مما يقدمه إعلامنا الرسمي ـ أن يختار لإدارة تلك المؤسسات موظفين أكفاء لهم القدرة والرغبة في تطوير وتقريب إعلامنا الرسمي من المواطن العادي، بدلا من تعيين موظفين لم يشتهروا في الماضي، ولا في الحاضر، بنضالهم لتحرير الإعلام الرسمي، ولا أعتقد بأنهم سيشتهرون في المستقبل. فمدير التلفزيون مثلا لا زال لسانه رطب بمدح الرئيس السابق معاوية، فهو الذي كان يفلسف ـ عندما كان مديرا للأخبار بالإذاعة ـ الخطابات البسيطة والعادية لذلك الرئيس ويقدمها على أنها مليئة بالدرر والجواهر وبالأفكار النادرة والعظيمة.
الملاحظة الثانية : إن النفر الثلاثة الذين يديرون مؤسسات الإعلام الرسمي لا زالوا يتصرفون بعقلية مناقضة لمشروع موريتانيا الجديدة .ولا زالوا يوصدون أبواب تلك المؤسسات عن جزء كبير من نخب هذا البلد، رغم أوامر الرئيس الصريحة في هذا المجال. فالتلفزيون مثلا لا زال يغلق أبوابه أمام بعض الصحفيين الأكفاء، الذين قدموا برامج متميزة أثناء الفترة الانتقالية الأولى، وشدوا المشاهد لمتابعة تلفزيونه الوطني. أكرر وطني لأني أتحدث عن التلفزيون في المرحلة الانتقالية الأولى، أما قبل ذلك، وبعده، فهو تلفزيون رسمي.
الملاحظة الثالثة : إن من يتابع التلفزيون اليوم سيدرك كم هو شاحب ومريع ذلك التلفزيون. وكم هي شاحبة تلك البرامج الحوارية التي يقدمها، والتي هي في مجملها برامج فاشلة، و بلا هوية، ولا يفرق بينها إلا اسم البرنامج أو اسم مقدمه.
الملاحظة الرابعة : لقد لعبت مؤسسات الإعلام الرسمي أدوارا "جبارة" (وهنا يمكن استخدام هذه الكلمة ) في انهيار القيم الأخلاقية والوطنية في هذا البلد. فهي التي كانت تجعل ـ ولا زالت ـ من الولاء للرئيس لا للوطن شرطا للولوج إليها. وهي التي كانت ترفع الرئيس ـ أي رئيس ـ مكانا عليا ثم تخفضه إلى الحضيض بعد أن يصبح رئيسا سابقا. والمفارقة أن "رواد" هذه المدرسة التطبيلية هم الذين يراد منهم ـ عبثا ـ أن ينهضوا بإعلامنا الرسمي (لا يمكن تسميته بالوطني) ويجعلوا منه أداة فعالة لبناء القيم الأخلاقية والوطنية التي تسببوا في انهيارها.
أزمة قيم وأزمة مواطنة : يحتاج مشروع موريتانيا الجديدة إلى إطلاق صفارة إنذار، للحد من الانهيار السريع للقيم والأخلاق، والذي أثر كثيرا على سمعتنا في الخارج التي كانت ـ وحتى وقت قريب ـ توفر لكل موريتاني أينما ولى وجهه رصيدا كبيرا من الاحترام والتقدير. لقد نهبنا كل شيء في السنوات الأخيرة، حتى رصيد السمعة الذي وَرَّثه لنا الآباء والأجداد نهبناه و"ادخرنا" مكانه رصيدا سيئا في مصارف السمعة العالمية، لدرجة أصبح فيها الموريتاني يمثل رمزا للتحايل والخداع، ويثير مخاوف الجميع أينما حل وارتحل. ورغم أن الرئيس الحالي كان هو أول رئيس يعلن صراحة بأن البلد يعيش أزمة أخلاق، إلا أنه مع ذلك لم يتخذ خطوات ملموسة للتخفيف من حدة تلك الأزمة، وهو ما يعكس وجها آخر من أوجه الإحباط.، في عام الإحباط هذا. ولأن الأزمة الأخلاقية أكثر تعقيدا من أن نتحدث عنها في فقرة قصيرة كهذه فسأكتفي هنا بالاقتصار على وجه من أوجه تلك الأزمة لم أتحدث عنه في ورقة "البطاقة اللاغية".
فالمؤسف حقا أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية عملت جاهدة ـ في العقود الأخيرة ـ من أجل تنمية وتطوير كل الظواهر السيئة، وكل نزعات الشر لدى مواطنيها. فكان كل من يمتلك القدرة و الجرأة لأن ينافق، ويتحايل، ويخدع، وينهب، ويكذب، ويميل حيث السلطة مالت هو الذي يتمكن في النهاية من أي يكون "قدوة" في القبيلة وفي الجهة وفي الإدارة وفي المجتمع بصفة عامة .. في حين أن من يحتفظ ببقية أخلاق، يتم نبذه وتهميشه وإقصاؤه اجتماعيا وسياسيا وإداريا. وكان الشعار المطبق في العقود الأخيرة هو : " احتقر نفسك كثيرا لتعلو علوا كبيرا... واحترم نفسك شيئا قليلا لتُزدرى وتُهمش كثيرا..". هكذا ظلت الأنظمة المتعاقبة ترفع صغار الناس، وتقصي كبارهم. وكان الصغار كلما زاد صعودهم طغوا و تمادوا أكثر في إذلال وإقصاء واحتقار من له ولو شيء يسير من أخلاق. وكان كل حاكم جديد يأتي بانقلاب أو بانتخاب أو بتصحيح أول ما يقوم به هو أن يرفع من شأن أنصاره الذين هم حقيقة ليسوا أنصاره، وإنما هم عصابات مرتزقة لهم قدرة عجيبة على تعويض كل نقص يعانون منه بمزيد من التصفيق والتطبيل. وكان يقصي معارضيه والذين هم أيضا قد لا يكونون معارضين، وإنما يرفضون ممارسة قبائح الأقوال والأفعال.. هكذا ظلت الأمور تسير تغييرا بعد تغيير، وتصحيحا بعد تصحيح، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
وكمثال على ما يمكن أن يقوم به النظام من إفساد لأخلاق الناس، سأقدم لكم مثالا بسيطا لما تسبب فيه قرار واحد من أضرار. والمثال من العهد الذي كانت فيه الأمية والسمنة من أهم مشاكلنا. وذلك قبل أن تظهر مشكلة الفساد ومشكلة الأزمة الأخلاقية. لقد قرر وزير أهم وزارة في ذلك العهد، أي وزارة محاربة الأمية أن يشرك الأئمة وشيوخ المحاظر في محاربة الأمية . ولقد قرر الوزير الفقيه ـ بحسن نية ـ أن لا يحصل أي شيخ أو إمام على راتب كامل، إلا إذا كان يدرس خمسين أميا. ولقد قيل للوزير وقتها بأنه لا يمكن تقديم درس في القراءة أو الكتابة لخمسين أمي في وقت واحد. كما أنه لا يمكن جمعهم في غرفة واحدة. ولا جمعهم من حي واحد، يوجد فيه العديد من الفصول المنافسة.
أصر الوزير الفقيه على قراره. وكانت النتيجة هي أن كل من هو على استعداد لأن يتحايل ويجمع خمسين من جيرانه، يوم توزيع الرواتب، يتم اكتتابه ويحصل على راتبه كاملا غير منقوص. أما شيوخ المحاظر والأئمة الجادين الذين قالوا بأنهم على استعداد لأن يفتحوا فصولا لعشرة أو لعشرين أميا على الأكثر، فقد تم إقصاؤهم. تأملوا هذا المشهد وزارة التوجيه الإسلامي تشجع الأئمة وشيوخ المحاظر على الكذب والتحايل، والأئمة وشيوخ المحاظر يشجعون في المقابل سكان أحيائهم على الكذب والتحايل, وبأن يشهدوا زورا وبهتانا بأنهم يتعلمون في فصول وهمية لمحو الأمية . والحصيلة معروفة، فقد تحولت محاربة الأمية إلى محاربة للأخلاق والقيم، تقودها وزارة كان من المفترض أن تعزز القيم والأخلاق!!!
واليوم لازالت عملية هدم القيم تتواصل، ويكفي ذكر عملية تنصيب " هياكل" الاتحاد من أجل الجمهورية، الذي يبشر بمشروع موريتانيا الجديدة. فقد كانت عملية التنصيب بحق دورة تدريبية مفتوحة، تدرب فيها نصف المليون (عدد المنتسبين) لاكتساب المزيد من"المهارات" المبتذلة التي ابتكرها الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي.
أيضا لعب بعض الشباب المؤدلج في هذا العام دورا "هاما" في تعميق أزمة القيم وذاك من خلال السجال الذي شهد كثيرا من عبارات القدح والشتم والذم ..
ولعل الملاحظة التي لابد من تسجيلها، هي أنه من الأشياء الصادمة والمحبطة أن الأحزاب الإيديولوجية التي كان من المفترض أن تقدم الشاب النموذج، هي التي فاجأتنا بمجموعة من الشباب تتبارى في سب وشتم وذم كل شيء بما في ذلك كبار العلماء الأجلاء. والمقلق أن الشباب الذين كتبوا بحماس للدفاع عن تياراتهم الفكرية، يغيبون دائما عندما تكون هناك حاجة ماسة لكتاباتهم للدفاع عن الوطن. فهل يعني ذلك أن تلك الأحزاب لا تنمي قيم الوطنية في نفوس شبابها، وإنما تكتفي بتربيتهم على الولاء الإيديولوجي ؟ ذلك سؤال يستحق شجاعة للإجابة عليه.
وساهم النواب بدورهم ـ خاصة في هذا العام ـ بتقديم دروس ميدانية جديدة في الاستهتار بالقيم، وذلك من خلال عدم الوفاء للأحزاب التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه. ولقد كان كل نائب يرحل يصر على أن يبرر رحيله بنفس الحجة التي لم يعد يصدقها أحد: لقد قررت بعد تفكير عميق ودراسة متأنية للوضعية في البلد....إلخ. لقد رحل الكثير من النواب إلى حزب السلطة ومن بين النواب الرحل: 9 تركوا التكتل من أصل 15 نائب تكتلي.. و5 تركوا الحزب الجمهوري من أصل 7.. و3 من أصل4 رحلوا من حزب حاتم...و2من أصل 5 هاجروا من التحالف الشعبي..و2 من أصل 7 تركوا اتحاد قوي التقدم.. حتى النائب الوحيد لحزب الوسط هاجر وترك حزبه بلا نائب.. نفس الشيء حدث مع البديل. تلك مجرد لقطة من لقطات الترحال السياسي في بلاد "الترحال في ظل الاستقرار" أو" الترحال المؤتمن" أو " الترحال البناء" وهي لقطة تدعونا للحديث عن نوع آخر من أنواع الترحال قد لا يجد من يتحدث عنه.
ترحال إداري ومؤسسي : لم يعد الترحال في هذا البلد مقتصرا على الأشخاص، بل أصبحت هناك إدارات كاملة ترحل، ثم ترحل، ثم ترحل حتى لا تتوقف عن الترحال. ولأننا نعيش في عهد رئيس الفقراء فسأكتفي هنا بأن أقدم مثالين لإدارتين مهمتين بالنسبة للفقراء.
لقد رحلت إدارة الشؤون الاجتماعية أربعة مرات في أقل من ثلاث سنوات، رحلت من وزارة الصحة، إلى مفوضية الحماية الاجتماعية، ثم رحلت من الحماية الاجتماعية إلى مفوضية حقوق الإنسان قبل أن ترحل عنها وتستقرـ مؤقتا ـ في وزارة المرأة.
الغريب هو أن الإدارة قد احتفظت بنفس المدير خلال كل هذه الرحلات، فمديرها في ظل التغيير في ظل الاستقرار، هو نفس المدير في ظل التغيير البناء، وهو ما يستدعي طرح بعض الأسئلة على كل قارئ عنيد لازال يصر على مواصلة قراءة هذه الورقة: فهل ذلك الترحال كان ترحالا في ظل الاستقرار، أم هل كان ترحالا مؤتمنا، أم كان ترحالا بناء؟ وأيهما كان أقرب لقلب المدير: قائد التغيير في ظل الاستقرار، أم قائد التغيير المؤتمن، أم قائد التغيير البناء؟ نفس الشيء حدث مع إدارة محو الأمية التي احتفظت بنفس المدير رغم أنها رحلت من وزارة التوجيه الإسلامي، إلى وزارة التعليم أثناء دمج التعليم في وزارة واحدة بعد انشطاره الأول، ثم تركت التعليم بعد أن عاشت معه بعض اندماجاته وانشطاراته التي لا تنتهي أبدا، لتعود مرة أخرى لوزارة التوجيه الإسلامي، والتي كانت بدورها قد عرفت الانشطار في عهد "الترحال في ظل الاستقرار" عندما فشلت في الجمع بين العلماء والفنانين. فقررت أن تلفظ إدارة الثقافة بعيدا، تلك الإدارة التي ظلت ترحل، وترحل، و ترحل ـ تعبيرا عن ثقافة الترحال ـ حتى انتهى بها المقام المؤقت في وزارة الشباب والرياضة.
ولأن الحاكم ـ كما قلت سابقا ـ هو الذي يحدد لنا همومنا، ولأنه حتى الآن لم يعلن بأن الأمية التي يعاني منها نصف السكان هي من مشاكل الفقراء، التي يجوز التحدث عنها. لذلك فسأعوض مثال إدارة محو الأمية، بمثال آخر، يهم "فقراء آخر زمن"، أو فقراء آخر عهد من عهود التغيير. ويتعلق الأمر بلوحة كبيرة على مبنى حكومي كبير كتب عليها : وزارة المياه والطاقة وتقنيات الإعلام والاتصال، وربما تكون اللوحة هي التي ضاقت قبل أن يكتبوا أشياء أخرى. هذه الوزارة لم تعد موجودة ـ قطعا ـ رغم لوحتها ومبناها الكبير. لقد تطايرت، وتفرقت، وتشتت، وتناثرت، كل القطاعات التي كانت ـ ولا زالت ـ تجمعها تلك اللوحة إلى جهات عديدة لا يمكن تتبعها هنا. الشيء المؤكد هو أنه لا يمكن لنا أن نتوقع تنمية في ظل هذا الترحال الإداري العبثي والطائش والصبياني.
مشكلة أخرى قديمة جديدة، تعاني منها الإدارة القديمة الجديدة، وهي التي أشرت إليها بطرح تلك الأسئلة السابقة. فأغلب الموظفين لا تهمهم إداراتهم، وإنما يهمهم في الأساس أن يجتمعوا في فندق مع كل مناسبة سياسية ليعلنوا ولاءهم للرئيس. فتارة يجتمعون بشكل قبلي فيقال أطر القبيلة الفلانية. وتارة يجتمعوا بشكل جهوي فيقال أطر ولاية كذا، أو مقاطعة كذا، اجتمعوا في فندق كذا، ووزعوا البيان كذا، وأعلنوا دعمهم المطلق لقائد التغيير كذا..
المهم أنكم لن تسمعوا أبدا بأن أطر أي ولاية، أو مقاطعة، قد اجتمعوا لتدارس مشاكل ولايتهم وللبحث عن أفضل السبل الكفيلة بتنميتها. ولن تسمعوا بأنهم اهتموا بفقراء ولايتهم في عهد رئيس الفقراء. لن تسمعوا أبدا ذلك، ولن تسمعوا شيئا مثل ذلك، لذلك فعليكم أن لا تتوقعوا تنمية، لأن السماء لا تمطر تنمية.
السماء لا تمطر تنمية : لقد توقع الفقراء في أول عام من حكم رئيسهم أن تمطر عليهم السماء تنمية، وأن يتحقق الشيء الكثير من تلك الوعود الثورية، خاصة أنهم بذلوا جهدا كبيرا، وأنهم هم من حسم المعركة الانتخابية لصالح قائد التغيير البناء.ولم يحسمها المفسدون أو السياسيون أو الوجهاء أو المثقفون.
لقد مر عام كما مرت أعوام من قبله، وكما ستمر أعوام من بعده، والحال كما هو : لاشيء قد تغير في حياة الفقراء رغم كثرة " التغييرات" . ولا شيء تغير في حياتهم خلال هذا العام خاصة، وإليكم بعض اللقطات السريعة من عامكم هذا:
1 ـ نواب يصوتون لرفع الضرائب على الأرز وعلى المحروقات، ويرفضون التصويت على زيادتها على السجائر. المخجل والمعيب والفاضح والمقزز والمقرف أن رئيس مكافحة التدخين في البرلمان كان من أشد المدافعين عن السجائر ومورديها.
2 ـ السلطات تعامل الحمالين بخشونة، وترفض أن تزيد لهم 500 أوقية عن الطن وهي زيادة لا تؤثر على الأسعار إلا بنصف أوقية للكلغ مع العلم أن الأسعار قد ارتفعت خلال العام بمبالغ معتبرة ( وهنا يمكن استخدام كلمة معتبرة). أنظر إلى مقال : " من حمال.. إلى رئيس الجمهورية" و " حمالون بلا حياء" و "كبرياء حمال".
3 ـ عاطلون عن العمل لا يتوقفون عن الاحتجاجات، والاعتصامات، والنداءات، ورغم ذلك لا أحد يهتم بهم . لم تقدم وكالة تشغيل الشباب أي تمويل، ولم تنفذ أي عمل لصالح حملة الشهادات لا في هذا العام، ولا في العام الذي قبله.
4 ـ لقد شهدت وزارة الصحة أسوأ عام في تاريخها، فبدلا من أن تهتم بصحة المواطن، فقد تفرغت لصراعات بلا أول ولا آخر مع الأطباء. ولقد وصل الخلاف لدرجة رفض فيها الأطباء استقبال الوزير في أول سابقة من نوعها.
5 ـ من اللقطات التي قد تظهر وكأنها بسيطة مع أنها ذات دلالة عميقة للتعبير عن الفجوة الكبيرة بين مستوى الوعود، وبين مستوى العمل الميداني اللازم لإنجاز تلك الوعود. يمكن أن نقدم كمثال مستوى العمل التحضيري المقام به حاليا من أجل إنجاح الحملة الزراعية لهذا العام، والتي أعطى الرئيس شخصيا إشارة انطلاقها بعد أن توقفت في العام الماضي.
لقد كان من المفترض أن يكون الأمين العام لوزارة التنمية الريفية على استعداد كامل للعمل ساعات إضافية مع أوقات الدوام الرسمي، خاصة في هذه الفترة بالذات، وذلك من أجل التحضير الجيد والتنسيق بين مختلف قطاعات الوزارة، لضمان نجاح الحملة الزراعية القادمة. المفاجأة هنا هي أن الوزارة بلا أمين عام منذ ما يزيد على شهرين!!!
وبالتأكيد فأنا لا أقول بأن تعيين أمين عام سيحل مشاكل الزراعة، وإنما أردت أن فقط أن أقدم لقطة من عبثية الإدارة. فهي تقول بأنها تحضر بشكل جيد لنجاح الحملة الزراعية، وهي في نفس الوقت تترك منصب من يفترض أن يقود ذلك التحضير شاغرا ولمدة شهرين حاسمين. فهل ذلك يعني أن التحضير ليس إلا مجرد كلمة لا يترتب عليها أي فعل؟ ذلك سؤال يستحق الإجابة في مقام آخر.
ختاما : ربما يكون أهم شيء أختم به، هو أن أعيد تقديم بعض المقترحات التي كنت قدمتها خلال العام ، دون أن تجد ـ كما هو العادة ـ من يهتم بها، وهي مقترحات توجد تفاصيلها في رسائل مفتوحة سابقة. ومن أهم ما يميزها أنها نابعة من الواقع الموريتاني، وتستجيب للحالة الموريتانية، وليست حلولا مستوردة قد تصطدم بالعقلية وبالحالة الموريتانية الفريدة من نوعها، ومن هذه المقترحات:
1 ـ اقتراح برامج رائدة لسد نواقص التكوين المهني المعتمد، وذلك من خلال برامج موسعة للتثقيف الحرفي والمهني قصيرة المدة، وذات كلفة منخفضة جدا، وقادرة على التأهيل في مجال الحرف الصغيرة جدا التي يستنزف من خلالها الكثير من موارد هذا البلد.
2 ـ مقترح لتنظيف العاصمة من خلال التعامل مع القمامة ليس بوصفها مشكلة، وإنما بوصفها يمكن أن تكون ثروة، و مصدرا هاما لتوفير الدخل ولتشغيل الشرائح الأكثر فقرا.
3 ـ مقترح لاعتماد أساليب جديدة في الاكتتاب، تساعد في الحد من تركيز البطالة في الأوساط الأكثر فقرا.
4 ـ مقترح لبرنامج تلفزيوني شبابي تنموي لا زال مدير التلفزيون يرفض إطلاقه.
وأخيرا : أشكركم لأنكم أكملتم قراءة هذه الورقة ولم تستجيبوا لطلبي بعدم إكمالها..وأتمنى لكم عاما جديدا يشذ عن القانون المحبط. وأقول لكم : تصبحون على موريتانيا جديدة بلا تشوهات خلقية ...