لم يفاجئني على المستوى الشخصي الخلاف الذي نشب بين حزب تواصل وإحدى نائباته، فمثل هذا الخلاف كان لابد أن يقع، وكان لابد لحزب تواصل أن يكتوي بنار ما يمكن تسميته بالمجاملة السياسية التي قدمها خلال السنوات الماضية لأصحاب الخطابات الشرائحية والفئوية المتشنجة.
وما يحدث الآن داخل حزب تواصل قد يكون هو أفضل مناسبة للفت
الانتباه من خلال هذه الورقة الكاشفة الجديدة على ما يقع من خلط خطير بين النضال
الحقوقي وإذكاء النعرات الشرائحية والفئوية، وعلى ما كان يحصل عليه أصحاب الخطابات
الشرائحية والفئوية المتشنجة من دعم رسمي وحزبي وإعلامي، وهو الشيء الذي كان من
نتائجه هذا الانفلات اللفظي الذي نعيشه منذ سنوات، والذي أصبحت فيه الإساءة إلى
الشرائح والأعراق وإلى الثوابت الدينية أمرا عاديا ومألوفا في نقاشاتنا اليومية.
في اعتقادي الشخصي أنه قد أن الأوان لنقاش هذا الموضوع بشكل أكثر
عمقا، ومن زوايا لم تطرق من قبل إلا قليلا، وكمساهمة في نقاش هذا الموضوع الذي
سيبقى يحتاج إلى المزيد من النقاش المعمق، جاءت هذه الورقة الكاشفة، والتي سنحاول في بدايتها أن نعود
بكم قليلا إلى الوراء، وإلى العقد الماضي،
والذي كان ـ بحق ـ هو عقد نمو وانتشار الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج.
عن عقد الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج
لا خلاف على أن الخطاب الفئوي والشرائحي المتشنج قد ظهر منذ فترة
طويلة، ولكن لا خلاف أيضا على أنه نما واتسع كثيرا وازداد تشنجا خلال العقد
الأخير.
هناك جهات عديدة بعضها على طرفي نقيض في كثير من الأحيان، ساهمت
بشكل مباشر أو غير مباشر، في بروز واتساع هذا الخطاب الفئوي والشرائحي المتشنج
خلال العقد الأخير، وبطبيعة الحال فلكل جهة من تلك الجهات دوافعها المختلفة، والتي
على أساسها قدمت الدعم لذلك الخطاب ولأصحابه.
على رأس تلك الجهات التي دعمت واحتضنت هذا الخطاب السلطة في عهد
الرئيس السابق، والتي حاولت ـ ولأسباب معلومة ـ أن تخلق قيادات وزعامات بديلة لبعض
قيادات المعارضة التقليدية وتشكيلاتها السياسية التي وقفت بقوة ضد انقلاب 6 أغسطس
2008.
اللافت في الأمر، أن المعارضة التقليدية، والتي ستتضرر كثيرا من
أصحاب هذا الخطاب المتشنج الذي يجد الدعم المباشر وغير المباشر من السلطة، قدمت هي
الأخرى دعما كبيرا له، معتقدة أنه سيكون بإمكانها تعزيز صفوفها بمثل أصحاب ذلك
الخطاب، أو ربما اعتقدت أن السحر سينقلب يوما ما على الساحر.
المهم أن البحث عن المصالح الضيقة الآنية، وعلى حساب المصلحة
العليا للبلد، خلال العقد الماضي أدى إلى تنافس قوي بين السلطة وبعض أطراف المعارضة على تقديم الدعم
المباشر وغير المباشر لأصحاب الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج، كما تنافس الإعلام
المحسوب على الإسلاميين (وهو الإعلام الأقوى تأثيرا في موريتانيا) مع الإعلام
المحسوب على اليسار على تسويق الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج، وفي ترويج وتلميع
أصحابه.
حدث كل ذلك في فترة شهدت فيها البلاد انفلاتا لفظيا غير مسبوق، زاد
من حدته مستوى الانتشار الكبير وقوة التأثير الذي عرفته مواقع تواصل الاجتماعي خلال
العقد الأخير. ومن المعروف أن لغة السب والشتم والإساءة هي اللغة الأكثر رواجا في
مواقع التواصل الاجتماعي، وهي التي تجد تفاعلا أكبر من نشطاء هذه المواقع. وبطبيعة
الحال فقد استفاد أصحاب الخطاب الفئوي والشرائحي المتشنج، والذين لا يتورعون عن
استخدام أي لفظ مسيء من ذلك. إن التفاعل هنا لا يعني فقط الإعجاب والتعليق
الإيجابي، إنه يعني أيضا التعليق الناقد، فالتعليق الناقد والإكثار من الحديث ـ
ولو سلبا ـ عن أصحاب تلك الخطابات المتشنجة يشكل هو أيضا ترويجا وتسويقا لخطابهم
المتشنج، لأنه يعطيه مساحة أوسع من التداول في النقاشات العامة، حتى ولو كان ذلك
من خلال انتقاده. ما أريد أن الفت الانتباه إليه في هذه الجزئية هو أن انتقاد
أصحاب الخطاب الشرائحي والفئوي، والإكثار من التعليق على ما يكتبون أو ما يقولون،
يشكل هو الآخر شكلا من أشكال الدعاية والتسويق الإعلامي لهم..إن التجاهل الكامل
لما يكتبون أو ما يتحدثون عنه سيبقى هو الأسلوب الأنجع لمواجهة ذلك الخطاب والحد
من انتشاره واتساع تداوله.
نعم لقد وجد أصحاب الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج في العقد
الأخير دعما قويا، مباشرا أو غير مباشر، مقصودا أو غير مقصود، عن وعي أو عن غير
وعي، من السطلة والمعارضة والإعلام المحسوب عليها، وكذلك من مواقع التواصل
الاجتماعي، وخير مثال يمكن تقديمه هنا هو الدعم المتعدد الأطراف الذي وجده زعيم
حركة "إيرا"، والذي سينقلب فيما بعد على كل داعميه واحدا بعد الآخر وبمن
فيهم أولئك الذين أسسوا معه حركة "إيرا". لقد وجد زعيم حركة "إيرا"
ـ والذي يمكن اعتباره "رائد" الخطاب الشرائحي المتشنج في العقد الأخيرـ دعما قويا من السلطة والمعارضة، ومن الإعلام
المحسوب على الإسلاميين واليسار، ومن بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي..هذه
الخلطة الغريبة التي تجمع بين السلطة والمعارضة والإعلام المحسوب على الإسلاميين
واليسار، قد استغلها زعيم حركة "إيرا" أحسن استغلال، وبذكاء يحسد عليه،
وكان في كل مرحلة من مراحل صعوده، وكلما شعر بأنه لم يعد بحاجة إلى جهة ما كانت قد
وفرت له الدعم في مرحلة ما، انقلب على تلك الجهة وهاجمها بأحدث ما أنتج قاموسه اللفظي
من عبارات السب والشتم.
لم أكن من المعارضين الذين انخدعوا في فترة ما بنضال زعيم حركة
"إيرا"، وأذكر أني نشرتُ مقالا على وجه الاستعجال بُعَيد حرق الكتب
الفقهية، طالبتُ فيه من المعارضة أن تستنكر بشدة حرق الكتب الفقهية، وأن تخرج في
مسيرة على وجه الاستعجال تندد فيها بذلك الفعل المسىء، وتحمل في مسيرتها المسؤولية
لحركة "إيرا" والنظام الحاكم. ما حدث بعد ذلك كان هو العكس تماما، فقد
نددت أحزاب الأغلبية وبسرعة كبيرة بالمحرقة، وحملت المسؤولية ل"إيرا"
وأحزاب المعارضة، وقام النظام الحاكم بسجن "بيرام" وبعض أعضاء الحركة
لفترة من الزمن، وذلك من قبل أن يطلق سراحهم فيما بعد.عندما خرج "بيرام"
من السجن وجه للمعارضة التي وقفت معه أكثر من صفعة قوية، فشارك في الانتخابات
الرئاسية التي قاطعتها، وخصص كل حملته الانتخابية للهجوم على المعارضة بدلا من
الهجوم على منافسيه في تلك الانتخابات.
لقد كانت مواقف أحزاب المعارضة من محرقة الكتب الفقهية مواقف سيئة
جدا، وهذا ما قلته في حينه، وكان أسوأ تلك المواقف موقف حزب تواصل والذي كان يفترض
فيه أن يكون من أول المنددين بحرق الكتب الفقهية.
لقد أصدر حزب تواصل في ذلك الوقت بيانا ناعما جاء فيه "أن كل
كلام يؤخذ منه ويرد، وأن الملزم هو الكتاب والسنة".. بالطبع هذه حقيقة لا
جدال فيها، ولكن التذكير بها في يوم حرق مجموعة من كتب الفقه المالكي له دلالته
السياسية التي لا تخفى على أحد.
خلاصة هذه الفقرة هي أن العقد الأخير قد دفع برموز الخطاب الفئوي
والشرائحي المتشنج، إلى واجهة المشهد السياسي والإعلامي والحقوقي، وبمساهمة قوية
من السلطة وبعض أطراف المعارضة، والإعلام المحسوب على المعارضة. أما أصحاب الخطاب
الحقوقي الناضج، مثلهم مثل أصحاب الخطاب الوطني الجامع فقد عانوا كثيرا خلال ذلك
العقد، من تجاهل السلطة والمعارضة والإعلام المحسوب عليها، ومنهم من اعتزل، ومنهم
من ظل يحاول أن يوصل خطابه المبحوح إلى جمهور لم يعد يهتم إلا بالخطابات المتشنجة،
والمشحونة بعبارات السب والشتم والإساءة.
عن الخيط الرفيع الفاصل بين النضال الحقوقي وإذكاء الشرائحية
يقع خلط كبير عند الكثير من المهتمين بالشأن العام بين النضال
الحقوقي وإذكاء النعرات الشرائحية نظرا لقوة التداخل بينهما، مع أن الفرق بينهما،
وعلى الرغم من قوة التداخل، واضح وبين، وللتفريق بين النضال الحقوقي لصالح الفئات
والشرائح التي عانت وما تزال تعاني من الغبن والتهميش، وإذكاء النعرات الشرائحية
والفئوية، للتفريق بين هذا وذاك، فإليكم النقاط السبع التالية:
1 ـ إن النضال الحقوقي الجاد والذي يستحق الدعم من الجميع، هو ذلك
النضال الذي يدافع عن حقوق المهمشين والمغبونين دون أن يسيء أصحابه إلى الشرائح
والمكونات الأخرى في المجتمع. أما الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج، والذي يجب أن
يرفضه الجميع، فهو ذلك الخطاب الذي يسيء أصحابه إلى شرائح ومكونات أخرى بحجة
الدفاع عن المغبونين والمهمشين من فئات وشرائح معينة.
2 ـ لا أظن أن هناك أي خلاف على أن الأنظمة التي حكمت هذه البلاد
خلال الفترات الماضية قد فشلت في إحداث تنمية في هذه البلاد..فشلت في التعليم
والصحة ومكافحة الفقر والتشغيل ومحاربة الرق والترقية الاجتماعية...إلخ.
إن طبيعة النظرة إلى هذا الفشل المتراكم هي التي تفرق بين أصحاب
الخطاب الحقوقي الجاد، والساعين إلى الفتنة من خلال إذكاء النعرات الشرائحية
والفئوية، فأصحاب الخطاب الحقوقي الجاد ينظرون إلى الفشل في القضاء على مخلفات
الاسترقاق وإحداث ترقية اجتماعية في المجتمع على أنه مجرد وجه من أوجه الفشل
المتعددة للأنظمة المتعاقبة، وهو لا يختلف عن الفشل في التعليم أو الصحة أو التشغيل
أو الزراعة ...إلخ. أما أصحاب الخطاب الفئوي والشرائحي الساعي إلى إحداث الفتنة،
فهم ينسون كل أوجه فشل الأنظمة المتعاقبة، ويركزون فقط على الفشل في محاربة آثار
الاسترقاق والترقية الاجتماعية، ويعتبرون ذلك الفشل فشلا مخططا له، وأنه نتيجة حتمية لعنصرية تلك الأنظمة ودولة "البيظان".
3 ـ إن من النقاط التي يمكن أن نفرق من خلالها بين يناضل حقوقيا
بشكل جاد ومن يسعى إلى إذكاء النعرات الشرائحية هو أن الأول يضع مصالح من يناضل من
أجلهم على أعلى القائمة، ثم تأتي مصالحه الشخصية من بعد ذلك، وقد لا تأتي. أما من
يسعى لإذكاء الفتنة الشرائحية، فهو لا يفكر في مصالح شريحته ولا فئته ولا وفي
مصالح وطنه، وإنما يفكر فقط في مصلحته الخاصة، ولا شيء غير مصلحته الخاصة، ولكم أن
تتأملوا حال أصحاب الخطابات الشرائحية والفئوية المتشنجة، فإن تأملتم حالهم،
فستجدون ما يدعم قولي هذا.
4 ـ إن أصحاب الخطابات الشرائحية والفئوية المتشنجة، لا يبحثون إلا
عن مصالحهم الخاصة، وهذا ما قلناه في النقطة السابقة، ولذا فستجدون مطالبهم تنحصر
أساسا في المحاصصة على مستوى الوظائف، ومن النادر جدا أن تجدهم يتحدثون عن تنمية
قطاعية قد تفيد الشريحة أو الفئة التي يرفعون راية النضال باسمها. لا حديث لهم عن
تطوير الصناعة التقليدية مثلا، ولاعن الاهتمام بالزراعة الموسمية، أو باليد
العاملة، أو بالتعليم والصحة في المناطق الهشة، والاهتمام بمثل هذه الأمور هو ما
سيفيد بالفعل الشرائح والفئات التي يدعون النضال باسمها.
إنهم يبحثون فقط عن وظائف وعن امتيازات شخصية على حساب الشريحة أو
الفئة، ومن المعروف أن منح وظيفة أو امتياز لشخص ما لن يفيد فئته أو شريحتة أو جهته.
فبماذا استفادت إحدى شرائح مجتمعنا من تولي أحد أبنائها رئاسة البرلمان
الموريتاني؟
لم تستفد تلك الشريحة من ذلك، وكل ما حدث هو أن المعني شيد قصرا
على هضبة مرتفعة، وأخذ ينظر باستعلاء إلى ساكنة المدينة التي شيد بها ذلك القصر،
ونسي تماما معاناة أبناء شريحته، وظل ذلك هو حاله إلى أن فقد رئاسة البرلمان مع كل
الامتيازات التي كان يحظى بها.
إن من يتأمل حال هذه البلاد ـ وهذه فقرة قصيرة لأصحاب الخطاب
الجهوي المتشنج ـ سيجد أن المدينة الأكثر
بؤسا في وطننا هي تلك المدينة التي تتميز بأنها هي المدينة الوحيدة في موريتانيا
التي تولى اثنان من أبنائها الرئاسة، ثم إن المدينة الأكثر معاناة في موريتانيا هي
عاصمة الولاية التي احتكرت منصب الوزير الأول لربع قرن تقريبا. أما الولاية التي
حكم أحد أبنائها لأكثر من عقدين من الزمن فإنها تعاني اليوم من كل أشكال البؤس
والمعاناة. هذه مجرد أمثلة سريعة تؤكد أن تنمية أي منطقة معينة وترقية أي شريحة أو
فئة لن يتحقق إطلاقا بتعيين شخص ما من تلك الشريحة أو الفئة وتقديم امتيازات خاصة
له .
5 ـ من الفوارق الأخرى بين
النضال الحقوقي الجاد وإذكاء النعرات الشرائحية أن المناضل الحقوقي الجاد لا مشكلة
لديه مع العلماء والمقدسات الدينية، أما أصحاب الخطاب الشرائحي والفئوي المتشنج
فيبدو أن لديهم أكثر من مشكلة مع العلماء والثوابت الدينية، ولذا فهم يسارعون دوما
إلى الإساءة إلى العلماء، وإلى كل ما له صلة بقيمنا الدينية، فلم يسلم من إساءاتهم
العالم والشيخ الجليل الزاهد في الدنيا، والذي عاش كل حياته في شبه عزلة تامة
الحاج ولد فحفو رحمه الله، ولم يسلم منهم الداعية الكبير محمد ولد سيدي يحيى الذي
تفرغ للدعوة والتعليم، ولم ينافس أحدا على مال أو جاه، ولم يسلم من إساءاتهم بقية
العلماء والدعاة.
6ـ ويمكن أن نفرق أيضا بين من يناضل حقوقيا ومن يسعى إلى إذكاء النعرات
الشرائحية والفئوية بخطاباته المتشنجة، هو أن خطاب الطائفة الأولى يسعى لاستقطاب
الجميع، أما خطاب الطائفة الثانية فهو يقوم على الإساءة إلى الجميع، مع محاولة
تحميل المسؤولية فيما تعاني منه بعض الشرائح والفئات إلى جهة واحدة أو مكونة واحدة
من مكونات المجتمع. وللأسف فقد ساعدت هذه "التهمة الجاهزة" دائما وأبدا في
ظهور خطابات عنصرية ومتشنجة تحاول أن تدافع عن "الشريحة المتهمة" بنفس
الأسلوب المتشنج الذي يستخدمه الساعون إلى إذكاء النعرات الشرائحية والفئوية من
أبناء الفئات والشرائح المهمشة.
إنه لمن الظلم البين أن نحمل شريحة واحدة من شرائح المجتمع كل ما
تعاني منه الشرائح والمكونات الأخرى. إن الكثير من أبناء هذه "الشريحة
المتهمة" يعاني من الفقر والبؤس والتهميش، ومع ذلك فقد يحمله البعض من دعاة
الشرائحية والفئوية المسؤولية الكاملة فيما تعاني منه بقية شرائح ومكونات المجتمع
من معاناة!! المستفز في الأمر أن من يحمله ذلك من أصحاب الخطابات الشرائحية
والفئوية المتشنجة قد يكون يعيش في نعيم يحسده عليه الكثير من أبناء "الشريحة
المتهمة" دائما وأبدا، بكل ما حصل ـ وما سيحصل ـ في هذه البلاد من مصائب.
إن الاستمرار في تحميل كل مشاكل البلد لشريحة واحدة من المجتمع، هو
الذي جعل بعض أبناء تلك الشريحة يحاول في الفترة الأخيرة أن يستنسخ خطابا شرائحيا
متشنجا يدعي من خلاله أنه يدافع به عن شريحته التي تتعرض لاتهامات بلا أول ولا
آخر. وإذا ما استمر الحال على هذا الحال، فلن يكون غريبا أن ينمو الخطاب الشرائحي
والفئوي المتشنج داخل هذه الشريحة، وقد بدأ شيء من ذلك يحدث.
أختم هذه الفقرة بتقديم مثال سريع عن أحد الذين يناضلون بشكل جاد
ومسؤول عن إحدى شرائح المجتمع، ومع ذلك فلم يجد ـ مثله مثل كل صاحب خطاب حقوقي جاد
ـ من يسوقه إعلاميا ولا من يرشحه
انتخابيا.
يعدُّ محمد يحيى ولد عبد الرحمن من أوائل الذين رفعوا شعار "أمعلم
وافتخر"، ويشهد له الجميع أنه لم يترك أي منبر يمكن أن تطرح فيها قضية شريحة
لمعلمين إلا وطرحها فيه بقوة، ويمتاز هذا المناضل الحقوقي، وهو يستحق أن يوصف
بذلك، بأنه لم يسئ في أي يوم من الأيام لأي شريحة أو مكونة أخرى، وأنه من أكثر
المدافعين عن العلماء والثوابت الدينية في مواقع التواصل الاجتماعي.
عن المجاملة السياسية والكيل بمكيالين
سأحاول في هذه الفقرة من الورقة الكاشفة أن أقدم مثالين من بين
أمثلة أخرى كثيرة لا يتسع المقام لبسطها ولا لتعدادها، أول المثاليين سيعطيكم
صورة واضحة عن المستوى المقلق الذي وصل إليه
الكيل بمكيالين عند بعض الأحزاب السياسية، والمثال الثاني سيعطيكم صورة لا تقل
وضوحا عن الصورة الأولى تبين لكم ماذا يمكن أن تفعل المجاملة السياسية بالأحزاب،
وإلى أي مدى يمكن أن تنحرف الأحزاب عما كان متوقعا منها بسبب مبالغتها في المجاملة
السياسية.
بخصوص الكيل بمكيالين فإليكم هذا المثال الذي كنتُ قد قدمته في وقت
سابق.
في مقاطعة "أنبيكت لحواش"، وفي يوم 16
مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني في وفاة شيخ مسن (80 عاما)، وفي
قرية "ويندنيك" التابعة لمقاطعة "أمبان"، وفي يوم 28 مايو
2020 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني آخر في وفاة شاب ثلاثيني.
دعونا نجري مقارنة سريعة بين هاتين الحادثتين
الأليمتين:
من حيث التوقيت : حادثة أمبان وقعت ليلا
(الساعة التاسعة) وفي فترة حظر بسبب كورونا، أما حادثة انبيكت لحواش فقد وقعت في
وضح النهار.
في حادثة أمبان كان الأمر يتعلق بمطاردة مجموعة
من المهربين حسب بيان الجيش، وفي حادثة انبيكت لحواش فكان الأمر يتعلق بشيخ أعزل
يبحث عن قطيع سائم.
عن ردود الفعل السياسية على الحادثتين
الأليمتين:
في حادثة أنبيكت لحواش لم يصدر على الإطلاق أي
بيان من أي حزب سياسي، ومرت الحادثة وكأن شيئا لم يكن، وفي حادثة أمبان أصدر كل من
حزب تواصل واتحاد قوى التقدم والتكتل وإيناد بيانات منددة بالحادثة، وكان ذلك بعد
ساعات قليلة من نشر خبر عنها.
كان حزب تواصل هو أول حزب يصدر بيانا منددا بالحادثة، على الأقل
كان هو الأول من حيث توقيت النشر، وقد وصف الحزب العملية بأنها تتعلق "بمقتل
مواطن موريتاني رميا بالرصاص"، وقد عبر من خلال البيان بأنه "يدين بشدة
هذا الفعل البشع الذي يظهر فيه استخدام مفرط لقوة"، وقد دعا الحزب في بيانه
" كل الموريتانيين إلى رص الصفوف ووحدة الكلمة واستحضار الأخوة الإسلامية في
وجه دعاة التفرقة".
ولكم أن تسألوا بأي منطق تتم إدانة إطلاق جندي للرصاص ليلا على شاب
كان رفقة مجموعة في زورق في فترة حظر
تجوال، ولا تتم إدانة إطلاق جندي آخر للرصاص على شيخ في وضح النهار، كان يبحث عن
قطيع سائم؟
أما بخصوص المجاملة السياسية، فسنقدم مثالا يبين كيف جعلت المجاملة
السياسية حزبا كبيرا كتواصل يتجاهل ـ وبشكل كامل ـ واحدة من أهم القضايا التي كان يجب عليه أن
يكون أول المدافعين عنها..سنبين ذلك من خلال طرح بعض الأسئلة وتقديم أجوبة عليها.
سؤال : ما هو الحزب الذي يفترض فيه أن يكون أول المدافعين عن اللغة
العربية في موريتانيا؟
جواب : في اعتقادي أنه حزب تواصل، وذلك لأنه أولا حزب إسلامي،
واللغة العربية ـ وكما هو معروف ـ هي لغة القرآن والسنة النبوية والفقه الإسلامي،
وثانيا لأن جماهيره هي من أكثر جماهير الأحزاب السياسية تضررا من سيطرة اللغة
الفرنسية في الإدارة والتعليم.
سؤال : ما هو الحزب الذي لم يصدر في كل تاريخه أي بيان يندد بتهميش
اللغة الرسمية في الإدارة، ولم يطرح أي نائب من نوابه سؤالا شفهيا أو مكتوبا عن
تهميش اللغة العربية في الإدارة؟
جواب : كل أحزاب المعارضة تقريبا، وعلى رأسها حزب تواصل.
لا يوجد أي تفسير يمكن أن نفسر به عدم دفاع حزب تواصل عن اللغة
العربية، سوى أن المجاملة السياسية التي يتعامل بها الحزب مع بعض أصحاب الخطابات
الشرائحية والفئوية المتشنجة هي التي جعلت الحزب لا يندد بتهميش اللغة العربية،
ولا يدافع عنها.
ومن المفارقات اللافتة أن الأمين التنفيذي للإعلام والاتصال في الحزب،
وهو من الذين يتفاعلون بشكل دائم مع قضايا الشأن العام من خلال حسابه على الفيسبوك، نشر منذ أيام
قليلة منشورات تنتقد بشدة السلطة والنخبة على تقصيرها في حق لغاتنا الوطنية، وكان
ذلك على هامش وقفة تم تنظيمها أمام البرلمان. اللافت في الأمر أن أرشيف حساب الأمين
التنفيذي للإعلام في الحزب لا يوجد به منشور
واحد يتحدث عن تهميش اللغة العربية في الإدارة.
إن الدفاع عن اللغة الرسمية واللغات الوطنية هو واجب الجميع، ولكن
من حيث ترتيب الأولويات فإن الدفاع عن اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية
الموريتانية، يجب أن يسبق الدفاع عن أي لغة وطنية أخرى.
وتبقى توضيحات وتوصيات في ختام هذه الورقة الكاشفة
من التوضيحات التي يجب التنبيه إليها هي أن هذه الورقة تحدثت
بالأساس عن حزب تواصل، ويعود ذلك إلى سببين اثنين: أولهما أن ما يجري الآن في
تواصل هو حديث الساعة، وثانيهما أن حزب تواصل هو الحزب الأكثر مؤسسية في هذه
البلاد، وهو حزب يعول عليه كثيرا، ولذا فلا غرابة إن وجه إليه من النقد أضعاف ما
يوجه للأحزاب الأخرى.
التوضيح الثاني هو أني لم أتحدث في هذه الورقة عما تعاني منه بعض
شرائح وفئات المجتمع من غبن وتهميش، ويوجد من ذلك الشيء الكثير، والسبب هو أني
كنتُ قد تحدثت في مناسبات كثيرة عن ذلك، كما أن ذلك الغبن والتهميش هو موضوع حديث
مستمر ولا يتوقف أبدا، ويكفي أن رئيس الجمهورية قد تحدث عنه وبشكل صريح في خطاب
وادان. لقد ارتأيت أن أتحدث في هذه الورقة عن جوانب أخرى من الموضوع لا تجد في
الغالب الأعم من يتحدث عنها.
وبخصوص التوصيات، فإليكم هذه التوصيات الثلاث:
1 ـ ضرورة تكاتف جهود
الجميع من أجل القضاء على كل مظاهر الغبن
والتمييز الذي تعاني منه بعض شرائح المجتمع؛
2 ـ ضرورة تكاتف جهود الجميع في مواجهة كل الساعين إلى إذكاء النعرات
الشرائحية والقبلية والفئوية والجهوية؛
3 ـ الصرامة في تطبيق القانون في حق كل من يسعى إلى المساس بالوحدة
الوطنية والانسجام المجتمعي.
حفظ الله
موريتانيا...