عندما طالعت المجموعة القصصية للكاتب " المبدع " معمر القذافي أحسست برغبة جامحة للغثيان. فهذه المجوعة القصصية التي اختار لها كاتبنا "المبدع" عنوانا أطول من فترة حكمه، وأغرب من نظريته العالمية: " القرية القرية الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء"، قد وجدت مع ذلك من يمدحها بشكل عجيب ومثير للاشمئزاز.
والمؤلم حقا أن من بين من "حُظِي" بمدح تلك المجموعة القصصية السخيفة، و"تشرف" بكتابة مقدمة أو بتذييل لها، الأديب الليبي الكبير "أحمد إبراهيم الفقيه" والذي كتب : "القائد معمر القذافي حالم كبير، ولا شك أن حلمه هو الذي قاده إلى إبداع النظرية الجماهيرية، التي أصبحت واقعا يعيشه و يمارسه ملايين الناس. وإذا كان القائد قد استخدم حسه العملي، ووعيه التاريخي، وجملة المعارف والخبرات التي اكتسبها، من أجل تحقيق هذا الحلم، فما الذي يمكن أن يضيفه مفكر له هذه التجربة إلى فن القصة الذي يعتمد أول ما يعتمد على الخيال؟ لقد مر وقت طويل قبل أن أعرف أن هاتين القصتين هما من تأليف قائد الثورة. كنت قد قرأتهما، ووقفت ذاهلا أمام هذا الإبداع الجديد الذي يمتلئ بشحنات انفعالية غاضبة، وهذه الصياغة المتميزة التي تجعل من الغضب طاقة هائلة قادرة على تفجير اللغة، لإعادة ترتيب الواقع، وتوظيف"التقنية" الفنية توظيفا بارعا من أجل الوصول إلى معالجة قصصية تشحن الوجدان، و تعبئ المشاعر، وتفيء المناطق الغامضة في النفس البشرية. من أين لموهبة جديدة في كتابة القصة أن تحقق منذ البداية هذا المستوى الرفيع في الأداء و(التقنية)؟ ولم تنته حيرتي إلا بعد أن عرفت أن كاتب هاتين القصتين ليس إلا قائد الثورة نفسه، فهو قبل أن يكون مفكرا وقائدا ورجل ثورة، إنما هو كاتب بارع، ومبدع له القدرة على تطويع ملكاته التعبيرية، والاستفادة من الأشكال الإبداعية التي تستجيب للأفكار والانفعالات والتأملات التي يريد تقديمها للناس عن طريق هذه الوسائط الأدبية. إن ميدان الكتابة الإبداعية الذي يستلهم أفكاره ونماذجه من تركيبة قوامها الواقع والتاريخ والخيال، سيكون أكثر ثراء عندما يجد أن واحدا من صانعي التاريخ، قد اختار هذا الشكل الأدبي، وهو القصة القصيرة، ليكون وسيلته لمخاطبة القراء."!!!!!
هذا شيء يسير مما كتبه "أحمد إبراهيم الفقيه" عن المجموعة القصصية للكاتب المبدع"معمر القذافي."
والمجموعة القصصية التي كتب عنها "أحمد إبراهيم الفقيه" هذا التقديم العجيب، موجودة على الانترنت، ويكفي أن تبحث عنها ـ عزيزي القارئ ـ من خلال عنوانها، لتجدها كاملة، لذلك فسأترك تتعرف بنفسك على هذه "التحفة النادرة"، وتحكم عليها وعلى من كتب مقدمة لها.
وربما تفاجأ عندما تجد هذه المجموعة كاملة مع الكثير من خطابات القذافي على موقع "صوت إفريقيا"، والذي يبدو أنه لم يستطع أن يتخلص منها حتى كتابة هذه السطور، فما كان من القائمين عليه إلا أن كتبوا على شريطه الإخباري، بحثا عن موقع في العهد الجديد : " بسم الله, الله أكبر , تم تحرير طرابلس من القذافي وأعوانه وأزلامه ". بالتأكيد لن يكون "صوت إفريقيا" هو الوحيد، في هذه الأيام، الذي سيبدل جلده في طرفة عين.
وعندما تقرأ هذه المجموعة القصصية ـ والتي أتحداك أن تكملها ـ فستكتشف بأن هناك جيوشا من المثقفين والأدباء والعلماء والمفكرين والكتاب والإعلاميين يجب أن يحاسبوا قبل محاسبة الدكتاتوريين، لأنهم شركاء معهم في كل ما اقترفت أياديهم من بطش وخراب في بلداننا.
ولأن هذه المقال ليس لمحاكمة أبواق الأنظمة المستبدة ، لذلك فإني لن أتوقف عند تلك الإشكالية، وإنما سأعود لمجموعة "الكاتب المبدع" معمر القذافي والتي تضم القصص، أو على الأصح السخافات التالية : المدينة ـ القرية ـ الأرض ـ الموت ـ انتحار رائد الفضاء ـ الفرار إلى جهنم ـ دعاء الجمعة الأخير ـ وانتهت الجمعة الأخيرة ـ افطروا لرؤيته ـ عشية الخلعة والشجرة الملعونة ـ (.....) عائلة يعقوب، ومباركة أيتها القافلة ـ المسحراتي ظهرا.
ففي سخافة "انتحار رائد الفضاء"، ختم "المبدع" معمر القذافي القصة بانتحار رائد الفضاء الذي يئس من الحصول على عمل في عالمه الجديد (الأرض) . فهل سينتحر القذافي كما انتحر رائد الفضاء الذي اضطر للانتحار لأنه لم يستطع أن يتكيف مع واقعه الجديد؟
أما في "الفرار إلى جهنم" فإن الجنون لدى القذافي يصل إلى قمته، لدرجة يتحول فيها إلى إبداع. يكتب القذافي وكأنه يتحدث عن ليبيا في أيامنا هذه : " ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا..!! ياله من سيل عرم لا يرحم من أمامه!! فلا يسمع صراخه.. ولا يمد له يده عندما يستجديه وهو يستغيث.. بل يدفعه أمامه في غير اكتراث! إن طغيان الفرد أهون أنواع الطغيان، فهو فرد في كل حال.. تزيله الجماعة، ويزيله حتى فرد تافه بوسيلة ما.. أما طغيان الجموع، فهو أشد صنوف الطغيان، فمن يقف أمام التيار الجارف!؟.. والقوة الشاملة العمياء!؟. كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكنى كم أخشاها وأتوجس منها!!"
ويمضي القذافي في الفرار إلى جهنم فيقول: "لذا قررت أن أفر بنفسي إلى جهنم.وسوف أروى لكم قصة فراري إلى جهنم، وأصف لكم الطريق الذي يؤدى إليها، ثم أصف لكم جهنم ذاتها، وكيف رجعت منها مع نفس الطريق.. إنها مغامرة حقا، ومن أغرب القصص الواقعية، وأقسم لكم أنها ليست من صنع الخيال.. إني هربت بالفعل إلى جهنم مرتين؟ فرارا منكم، ولكي أنجو بنفسي فقط، إن أنفاسكم تضايقني.. وتقتحم على خلوتي.. وتغتصب ذاتي.. وترغب بنهم وشراهة شرسة في عصري، وشرب عصارتي، ولعق عرقي، ورشف أنفاسي.. ثم تغطني مودعة لتعاود الكرة.. أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة، ولمجيل لعابها في شوارع مدينتكم العصرية المجنونة، وعندما أهرب منها تتعقبني عبر خيوط العنكبوت وورق الحلفاء، لذلك فررت إلى جهنم بنفسي فقط. الطريق إلى جهنم ليست كما تتوقعون ولا كما وصفها لنا الدجالون الذين يصورونها لنا من خيالهم المريض، أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين، وتمكنت من المنام والراحة في قلب جهنم، وأقول لكم إني جربت ذلك، وكانت أجمل ليلتين في حياتي تقريبا هما اللتان قضيتهما في قلب جهنم بنفسي فقط.. إن ذلك أفضل عندي ألف مرة من معيشتي معكم.. أنتم تطاردونني، وتحرمونني من الراحة مع نفسي، فاضطررت إلى الهروب لجهنم.. إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق، وأنا أشق طريقي نحوها بفرح وغبطة.. وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل الناعم.. وصادفتني أسراب من الطيور البرية من نفس الأنواع التي تعرفونها، بل وجدت حتى بعض الحيوانات المستأنسة ترتع وتفلي!! ولكنى فوجئت بانحدارات شديدة أمامي، وأرض منخفضة حتى توقفت بتردد وإذا بجهنم تطل من الأفق.. ليست حمراء كالنار.. وليست ملتهبة كالجمر.. وقفت لاخوفا من التقدم نحوها، فأنا أحبها، وأرغب في وصالها، فهي الملاذ عندما تطاردونني في مدينتكم المثلثة.. وعندما تراءت لي من الأفق أمامي كدت أطير من الفرح.. وقفت لأسلك أقصر الطرق إليها.. وأختار أقربها إلى قلبها.. ولعلى أسمع لها زفيرا، ولكن جهنم ساكنة تماما وهادئة للغاية.. وثابتة كالجبال التي حولها.. ويحوطها سكون عجيب.. ويلفها وجوم رهيب.. لم أر لهبا.. ولكن الدخان فقط يخيم فوقها.. انحدرت نحوها بشوق.. مسرعا في الخطى قبل مغيب الشمس؛ أملا في الحصول على مرقد دافئ في قلبها قبل محاصرتي بحراسة جحيمكم التي انطلقت ورائي دون وعى، مستخدمة أحدث وسيلة وأقدم استعمالا.. أخيرا اقتربت جدا من جهنم.. واستطعت مشاهدتها عن كثب.. وأستطيع الآن أن أصفها لكم كما شاهدتها… وأستطيع أن أجيب عن أي استفسار يتعلق بجهنم التي اقتربت منها: أولا- جهنم شعاب مظلمة ووعرة يخيم عليها الضباب، وحجارتها سوداء محروقة منذ الأقدم . والعجيب حقا هو أن الحيوانات البرية وجدتها تأخذ طريقها إلى جهنم قبلي؛ فرارا منكم، فحياتها في جهنم، وموتها فيكم.. تلاشى كل شيء من حوالي عدا نفسي التي أحست بوجودها أكثر من أي مكان وزمان آخر. تقزمت الجبال.. ويبست الأشجار.. وجفلت الحيوانات، وغاصت في أدغال جهنم؟ طلبا للنجاة، وفرارا من الإنسان، حتى الشمس حجبتها عنى جهنم، وأصبحت لاشيء.. لم يبق بارزا إلا جهنم، وأبرز ما فيها قلبها، فاتجهت إليه دون صعوبة تذكر.. أنا أيضا ذبت في نفسي، ونفسي ذابت في، واحتمى كل منا بالآخر وعانق كل منا الثاني، وأصبحنا شيئا واحدا لأول مرة."
تصبحون على "قادة مبدعين" ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق