يعد اختزال الدولة في شخص الحاكم واحدة من أعظم المصائب التي ابتلينا بها
في هذه البلاد، وتزداد هذه المصيبة خطورة عندما يكون المزاج السامي للحاكم كثير
التقلب، ولا يخضع لأي ضابط ولا لأي منطق سليم.
في دولة صاحب المزاج المتقلب يمكن للمواطن ـ أي مواطن ـ أن يصبح مواطنا
شريفا ويمسي عميلا خائنا، ويمكنه أن يصبح عميلا خائنا ويمسي مواطنا شريفا، وكل ذلك
يحدث حسب تقلبات
المزاج السامي للحاكم، وهي التقلبات التي تعكسها ـ وبشكل فوري ـ
أجهزة الدولة، وخاصة منها الأمن والقضاء، والإعلام الرسمي وملحقاته، وإذا ما أردتم
مثالا يوضح ذلك فما عليكم إلا أن تقرؤوا "قصة المحمدين" بتأمل وتدبر.
تقول هذه القصة بأن رجل الأعمال محمد ولد أنويكظ كان في العام 2009 واحدا من كبار رموز الفساد
وناهبي المال العام في البلد، وقد تم اعتقاله في شهر ديسمبر من العام 2009 بتهم
تتعلق بنهب المليارات من خزائن الدولة فيما عُرف حينها بملف البنك المركزي.
هذا الرجل الذي كان في العام 2009 من كبار رموز الفساد هو نفسه الرجل
الذي سيصبح من خيرة رجال الأعمال الوطنيين في دولة صاحب المزاج المتقلب، ولذلك فقد
تم توشيحه بوسام فارس في نظام الاستحقاق الوطني، وكان ذلك في يوم 28 نوفمبر من
العام 2015.
هكذا تحول كبير المفسدين إلى فارس في نظام الاستحقاق الوطني، والآن دعونا
نأخذ الوجه الآخر من "قصة المحمدين"، وهو الوجه الذي يبين كيف يتحول رجل
الأعمال الوطني الموشح بأعلى الأوسمة إلى خائن وعميل في نظر صاحب المزاج المتقلب.
في الفترة التي كان فيها رجل الأعمال محمد ولد انويكظ من كبار المفسدين
تم توشيح رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو بوسام الشرف الوطني (رتبة كوماندور في نظام الاستحقاق
الوطني)، وكان ذلك تحديدا في يوم 28 نوفمبر 2009.
هذا الكوماندور في نظام الاستحقاق الوطني سيتحول إلى مفسد ومتهرب من
الضرائب، وذلك من قبل أن يتحول إلى خائن للوطن، بل وإلى "دولة معادية"
يحقق مع كل مواطن موريتاني تلقى منها مالا قل أو كثر.
يقولون في دولة صاحب المزاج المتقلب بأن
التاريخ بحاجة إلى إعادة كتابة، وبأنهم عاكفون الآن على إعادة كتابته، لا
بأس، سنتقبل بأن تاريخنا بحاجة إلى إعادة الكتابة، بل أكثر من ذلك فسنقبل بأن روايتهم
للتاريخ هي الرواية الصحيحة، وأن التاريخ قد بدأ من فجر السادس من أغسطس من العام
2008، ولكن دعونا نسأل أي رواياتهم
للتاريخ نصدق؟ وهل نصدق روايتهم القديمة لتاريخ موريتانيا الجديدة أم نصدق روايتهم
الجديدة لموريتانيا القديمة؟
لا بأس يمكننا أن نصدق بأن موريتانيا الجديدة يمكن أن تولد من رحم موريتانيا
القديمة، وبإعادة إنتاج أساليب موريتانيا القديمة الأكثر تعفنا ورداءة، كالعبث
بالدستور، وتصفية الحساب مع الخصوم، وتضييق الحريات العامة، وتزوير الانتخابات.
يمكننا أن نصدق كل ذلك، وأن نصدق كل ما يسطر في كتاب تاريخ موريتانيا الجديدة
القديمة، ولكن المشكلة أننا سنجد أنفسنا أمام تناقض عجيب وغريب، فبالعودة إلى
"قصة المحمدين"، وإذا ما اكتفينا بالرواية الرسمية في كتاب موريتانيا
الجديدة القديمة، فسنجد أنفسنا أمام إشكال كبير، فهل يجوز لنا أن نعتبر رجل
الأعمال محمد ولد بوعماتو رجلا وطنيا يستحق أعلى الأوسمة كما جاء في صفحة العام
2009 من كتاب موريتانيا الجديدة (باب التوشيحات)؟ أم أنه يحق لنا أن نعتبره عميلا
وخائنا للوطن كما جاء في صفحة العام 2017 من نفس الكتاب؟
وفي المقابل فهل يحق لنا أن نعتبر أن رجل الأعمال محمد ولد انويكظ هو أحد
كبار رموز الفساد كما جاء في صفحة العام 2009 (باب سجناء الفساد) من كتاب
موريتانيا الجديدة أم أنه علينا أن نعتبره فارسا وطنيا كما جاء في صفحة 2015 (باب
التوشيحات) من نفس الكتاب؟
ما يمكن الجزم به هنا هو أن تهمة الفساد كانت قد وجهت إلى رجل الأعمال
محمد ولد نويكظ في فترة كان فيها الرجل معارضا، وأن التوشيح بوسام فارس قد منح له
في فترة كان فيها الرجل مواليا، وينفق على الموالاة. ونفس الشيء حصل مع رجل
الأعمال محمد ولد بوعماتو، ففي الفترة التي كان فيها الرجل يستثمر علاقاته الواسعة لتشريع انقلاب 2008، والتي كان ينفق فيها
بسخاء على حملة صاحب المزاج المتقلب، كان الرجل وقتها يوضع في أعلى الدرجات حسب
مقياس الوطنية المستخدم لدى القوم، ولما حصل الجفاء مع صاحب المزاج المتقلب، تحول
الرجل إلى خائن وإلى عميل، بل وإلى دولة معادية، يحقق مع كل مواطن استلم منها مالا
قل أو كثر.
إن الاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به من "قصة المحمدين" هو أن
الأوسمة السامية وتهم الفساد والخيانة لا توزع حسب المقياس المعروف لدى الدول التي
تحترم الحد الأدنى من القانون والعدل، وإنما توزع في بلادنا حسب التخندق السياسي
وحسب تقلبات المزاج السامي للحاكم، فرجل الأعمال عندما يعارض صاحب المزاج المتقلب
يصبح وبشكل تلقائي من رموز الفساد والخيانة ( ولد نويكظ 2009 وولد بوعماتو 2017)،
وعندما يوالي صاحب المزاج المتقلب، فإنه يتحول إلى بطل وطني يستحق أعلى الأوسمة (
ولد بوعماتو 2009 وولد انويكظ 2015). والأمر في الحالتين لا علاقة له بالفساد ولا
بالوطنية، وما قلناه هنا عن رجال الأعمال ينطبق على غيرهم من المواطنين، سواء
كانوا سياسيين أو نقابيين أو صحفيين أو فنانين، ولكم في قصة الشيخة الفنانة خير
مثال.
ومن قبل أن اختم هذا المقال فلا بأس من تقديم جملة من الملاحظات السريعة
التي ترتبط بملف رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو.
1ـ من المفارقات العجيبة ـ وهذا
يخدم القراءة التي قدمناها ل"قصة المحمدين" ـ أن تلقي الأموال من رجل الأعمال محمد ولد
بوعماتو يعد خيانة للوطن إن كان المتلقي معارضا، ولا بأس به إن كان المتلقي
مواليا، ويعد من أسمى الأعمال الوطنية التي تستحق التوشيح إن كان المتلقي هو صاحب
المزاج المتقلب، والذي كان نصيبه هو الأكبر من عطايا رجل الأعمال محمد ولد
بوعماتو..
2 ـ في الوقت الذي تحاول فيه أجهزة الدولة أن تجعل من تلقي الأموال من رجل
الأعمال محمد ولو بوعماتو، والذي هو بالمناسبة لا يزال مواطنا موريتانيا، جريمة
فساد كبرى عابرة للحدود، في مثل هذا الوقت بالذات تطالعنا وسائل الإعلام الرسمي
بخبر يتعلق بتبرعات هامة قدمها سفير دولة أجنبية (السفير الصيني) للحزب الحاكم.
تقول المادة 22 من قانون الأحزاب "لا يجوز أن تحصل الأحزاب بأي وجه من الوجوه
على دعم مادي أو مالي من الخارج أو من لدن جهة أجنبية مقيمة في موريتانيا".
يمكنكم أن تلاحظوا بأن المادة لم تتحدث هنا عن مواطن موريتاني مقيم في الخارج،
وإنما تحدثت عن الأجنبي سواء كان يقيم في الخارج أو في الداخل.
3 ـ رغم كل ما قيل عن عطايا ولد بوعماتو، فقد أثبتت التسريبات وما توصلنا
إليه من نتائج التحقيقات بأن رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو كان بخيلا جدا عندما يتعلق الأمر بتقديم يد العون إلى
المعارضة، وأقصد هنا بالمعارضة المنتدى ومجلس الشيوخ الذي أصبح يصنف في دولة صاحب
المزاج بأنه مؤسسة معارضة. فبعد الاستيلاء على حاسوب محمد الدباغ وهاتف السيناتور
ولد غدة، فلا يزال المبلغ الذي يتم الحديث عنه
أقل من مليوني أوقية، كانت عبارة عن مساعدة مُنحت لشيخة وفنانة أقامت سهرة
سياسية وثقافية وفنية كلفت ما يزيد على خمسة ملايين أوقية. إن الاستنتاج الذي يمكن
أن نخرج به من هذه الملاحظة هو أن الشيوخ قد صوتوا ب "لا"، إما لدوافع
وطنية، وإما كردة فعل على المعاملة غير اللائقة التي عاملهم به صاحب المزاج
المتقلب وحكومته وحزبه، ولا دخل لأموال ولد بوعماتو في الموضوع، ومن الساذج جدا أن
نتحدث عن مبلغ لم يصل إلى مليوني أوقية تم تقديمه لفنانة وشيخة أقامت حفلا من بعد
تصويت الشيوخ ب "لا"، على أنه دليل على تلقي الشيوخ لأموال طائلة من رجل
الأعمال ولد بوعماتو.
4 ـ ربما يكون رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو كان كريما مع بعض المعارضين،
ولكن الأمر هنا سيبقى يتعلق فقط ببعض الفرق الفنية أو ببعض الصحف والصحفيين
الفرانكفونيين، أو ببعض الشخصيات الحقوقية أو الإعلامية ذات التأثير المحدود في
المجتمع، وتلك واحدة من أخطاء ولد بوعماتو. يبقى أن أشير في الأخير إلى أن ما
أنفقه ولد بوعماتو على المعارضة الموريتانية وبكل أطيافها، قد لا يصل إلى 10% مما
أنفقه في العام 2009 على حملة ترشح صاحب المزاج المتقلب.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق