(1)
يُقَدِّر "جوفروا بوسو" مدير تنسيق جهود مكافحة التهريب
في مجموعة "سانوفي" الفرنسية للصناعات الدوائية الأرباح التي يمكن أن
تجنى من استثمار1000 دولار في الهيرويين
أو العملات المزورة ب 20000 دولار. في حين تصل هذه الأرباح إلى 500000 ألف دولار
(نصف مليون دولار) عندما يستثمر نفس المبلغ في الأدوية المزورة، أي أن الأرباح
التي يمكن أن يجنيها من يستثمر 1000 دولار في تجارة الأدوية المزورة تضاعف 25 مرة
ما يجلبه نفس المبلغ من أرباح إن هو استثمر في الهيرويين أو في العملات المزورة!
إن هذه المقارنة بين الأرباح التي يحققها الاستثمار في الأدوية المزورة
وتلك التي يحققها الاستثمار في الهيرويين
لتؤكد بأن محاربة الأدوية المزورة ليست بالمهمة السهلة، ويتأكد الأمر أكثر
عندما يتعلق الأمر بمحاربتها في بلد كبلدنا حيث يغيب تطبيق القانون، وحيث يسيطر
الجشع على تصرفات وسلوك العديد من تجارنا
ورجال أعمالنا.
(2)
يظهر من المقارنة السابقة بأن المتاجرة بالأدوية المزورة تدر
أرباحا طائلة ولذا فإن الحد منها يحتاج لقرارات شجاعة ولإستراتيجية متكاملة، ولقطف
رؤوس أينعت وحان قطافها، ومن المؤكد بأنه لا يمكن القضاء على هذه الجريمة التي تدر
أموالا طائلة من خلال تعميم بتوحيد خطبة جمعة.
وتبقى حقيقة صادمة أخرى يجب أن تُقال في هذا المقام، وهي أن الكثير
من الموريتانيين أصبح يدين بدين مشوه، بدين يفرق بين العبادات والمعاملات، ولذا
فلم يعد غريبا أن تجد صاحب اللحية الكثة الطويلة والذي لا تفته صلاة في المسجد، أن
تجده وهو يمارس من الغش والتزوير وبيع المواد المنتهية الصلاحية ما لا يستطيع أن
يتجرأ عليه رمز من رموز الفسق والفجور في هذه البلاد.
(3)
إن المسألة لا تتعلق هنا
فقط بتزوير الأدوية، بل تتعلق أيضا بتهريبها، وباستيرادها بطرق غير ملائمة وفي
ظروف غير مناسبة.
إن احتكار مركزية شراء الأدوية والتجهيزات والمستهلكات الطبية
الموريتانية "كاميك" لاستيراد المضادات الحيوية
وأدوية السكري، وعجزها في كثير من الأحيان عن توفير بعض تلك الأدوية الضرورية، هو
الذي شجع البعض على استيراد تلك الأدوية وتهريبها عبر نقاط غير مسموح بها، ودون أي
مراعاة لأبسط الشروط اللازم توفرها عند استيراد الأدوية.
إن من أسباب انتشار ظاهرة تهريب الدواء عجز شركة "كاميك"
عن توفير بعض الأدوية التي تحتكر استيرادها، ولذا فإن أي عملية للحد من تزوير
الأدوية وتهريبها يجب أن تبدأ بمعالجة الخلل في شركة "كاميك"، والتي
أصبحت بعض المخابر العالمية الكبرى ترفض التعامل معها لسوء سمعتها التجارية.
(4)
لا خلاف على خطورة تزوير الدواء أو استيراده بطرق لا تتوفر على
الحد الأدنى من المعايير المطلوبة، فحتى ولو افترضنا جدلا وجود مستشفيات راقية
وأطباء أكفاء في بلادنا فكل ذلك لن تكون له أي فائدة تذكر إذا انتهى الأمر بالمريض
إلى استخدام أدوية مزورة أو مستوردة بطرق لا تستجيب للمعاير المطلوبة. لا خلاف على
خطورة تزوير الأدوية واستيرادها بطرق بدائية، ولكن تلك الحقيقة لن تمنعنا من القول
بأن الحديث عن تزوير الأدوية وتهريبها يعتبر من المواضيع الحساسة جدا، فمثل هذا
الحديث قد يقلل من ثقة المريض في الدواء، وقد يتسبب في خسارة بعض موردي وبائعي
الأدوية، ومن هنا تظهر مدى خطورة الحديث عن تزوير الأدوية في ظل غياب أي خطة ناجعة
لمواجهة ذلك التزوير، خطة قادرة على مواجهة التزوير وفي الوقت نقسه قادرة على تموين
السوق بما تحتاجه من أدوية غير مزورة وغير مهربة.
(5)
أذكر أننا عندما قررنا في العام 2016 أن نطلق حملة توعوية وتحسيسية
ضد حوادث السير اخترنا لهذه الحملة أن تبدأ تسميتها بكلمة "معا"، وذلك
لسببين هامين:
أولهما : أننا
نعتقد بأن الحملات التوعوية والتحسيسية تتطلب مشاركة الجميع، ونحن
نعتقد أيضا بأن الكل يشارك فيما يحدث من مجازر يومية على الطرق، وإذا
كانت السلطة تتحمل المسؤولية الأكبر، فذلك لا يعني بأن السائقين والركاب
والمواطنين بصفة عامة لا يتحملون هم أيضا جزءا من المسؤولية..وبما أن
الكل يتحمل جزءا ـ كبيرا أو صغيرا ـ من المسؤولية، فإن الكل مطالب بالمساهمة في أي
حملة تسعى للحد من حوادث السير، ولهذا فقد اخترنا أن نبدأ تسمية الحملة
ب"معا"، بدلا من أوقفوا حوادث السير، أو أوقفوا مجازر الطرق، فمثل تلك الشعارات تلقي
المسؤولية على جهة واحدة، وتعطي الانطباع بأن من أطلقها يبرئ نفسه من المسؤولية،
وبأنه ـ وهذا هو الأخطر ـ ليس معنيا بالمشاركة في الجهود الميدانية الرامية للحد
من حوادث السير.
ثانيهما : لقد كان السبب الثاني
الذي جعلنا نختار كلمة "معا" هو أننا فكرنا عند إطلاق حملة توعوية للحد
من حوادث السير في العديد من المشاكل الأخرى التي يعاني منها البلد، وكنا نخطط لإطلاق
سلسلة من "حملات معا"، على أن نخصص لكل مشكلة حملة من هذه الحملات
التوعوية والتحسيسية ..ففي العام 2016 نطلق حملة "معا للحد من حوادث
السير"، وفي العام 2017 نطلق حملة "معا للحد من القمامة"، وفي
العام 2018 نطلق حملة "معا للحد من الأدوية المزورة"، وفي العام 2019 نطلق حملة "معا للحد من
الانفلات الأمني"، وهكذا... ولكن بعد إطلاق أول حملة من "حملات
معا" وجدنا بأن موضوع حوادث السير هو موضوع في غاية التعقيد ويحتاج لسنوات
متواصلة من التوعية والتحسيس، ولذلك فلم نتمكن ـ حتى الآن ـ من الانتقال من حوادث السير إلى أي مشكلة أخرى ولا
إلى أي حملة توعوية أخرى.
ذلكم قوس كان لابد من فتحه من
قبل التعليق بشكل مباشر على التعميم الذي أصدرته وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم
الأصلي، والذي طالبت من خلاله بتوحيد خطبة الجمعة 27 سبتمبر حول موضوع " حرمة
بيع واستعمال الأدوية والأغذية منتهية الصلاحية أو المزورة أو المغشوشة وخطورتها
على الفرد والمجتمع".
إن إصدار هذا التعميم في مثل هذا
الوقت ليستدعي جملة من الملاحظات لعل من أهمها:
1 ـ تذكير معالي الوزير بمقترحنا
الذي تقدمنا به في حملة "معا للحد من حوادث السير" يوم 04 سبتمبر 2019،
والذي طالبنا من خلاله بتوحيد خطبة الجمعة 06 سبتمبر حول موضوع حوادث السير. وبما
أن مقترحنا لم تتم الاستجابة له حتى الآن، فقد وجدنا بأنه من الضروري جدا التذكير
به، وذلك بعد أن أصدرت الوزارة تعميما بتوحيد خطبة الجمعة 27 سبتمبر حول موضوع الأدوية
والأغذية المزورة والمغشوشة. يبقى أن اختم هذه الملاحظة الأولى بالقول بأن الجمعة
القادمة ستتزامن تقريبا مع الافتتاح الدراسي ومع العودة إلى المدن، وهي عودة تكثر
فيها للأسف الشديد حوادث السير، الشيء الذي يزيد من أهمية تخصيص خطبة الجمعة
القادمة لحوادث السير.
2 ـ يحاول البعض أن يقلل من
أهمية تخصيص خطبة الجمعة 27 سبتمبر للأدوية والأغذية المزورة والمغشوشة، وذلك
باعتبار أن استيراد وبيع الأدوية والأغذية المزورة والمغشوشة لا تنفع فيه المواعظ
وخطب الجمعة، وإنما يحتاج لأفعال ملموسة كإنزال أقسى العقوبات بممارسيه. وربما
يعتقد بعض القراء بأن كاتب هذا المقال يتبنى هذا الرأي خاصة وأنه اختار عنوانا
للمقال قد يوحي بذلك. ليس الأمر كذلك، وهذا ما سأحاول أن أبينه من خلال هذه
الملاحظة.
إن الوقوف ضد استيراد وبيع
الأدوية المزورة والمواد الغذائية المنتهية الصلاحية يحتاج لإستراتيجية متكاملة
تقوم على التوعية والتحسيس ( وخطبة الجمعة يمكن أن تدخل في هذا الإطار)، كما تقوم
أيضا على الصرامة في تطبيق القانون وفي التصدي لممارسي هذه الجريمة، وذلك من خلال
معاقبتهم بأقسى العقوبات، ولذلك فلا يمكن الاستغناء بالتحسيس والتوعية عن العقوبة،
كما لا يمكن الاستغناء عن العقوبة بالتوعية والتحسيس. إن الوقوف ضد ممارسة هذه
الجريمة البشعة يحتاج لكلا الأمرين : أي إلى التوعية والتحسيس وكذلك إلى الصرامة
في معاقبة ممارسي هذه الجريمة.
3 ـ لقد تم إصدار هذا التعميم في
آخر لحظة ودون أن تسبقه حملة إعلامية واسعة، وقد انعكس ذلك سلبا على مستوى
الاستجابة له، كما انعكس أيضا على تدني محتوى بعض الخطب التي تناولت الموضوع استجابة
لذلك التعميم. لقد كان من المهم من قبل إصدار التعميم أن يفتح نقاش واسع حول
الموضوع يشارك فيه أهل الاختصاص وتقدم فيها الأرقام والإحصائيات، وهو ما كان
سيساعد في إعداد خطب جيدة من حيث المحتوى. يبقى أن أقول في ختام هذه الملاحظة بأنه
بالإضافة إلى توحيد خطبة الجمعة فإنه قد يكون من المهم الاهتمام بموضوع الأدوية
المزورة والمغشوشة في المحاضرات والمواعظ التي تلقى في المساجد التي تقع قرب
المستشفيات الكبرى، والتي يرتادها في العادة الأطباء والصيادلة وباعة الأدوية، وهم
المعنيون بالدرجة الأولى بهذا الموضوع.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق