لقد ترددتُ كثيرا في كتابة ونشر هذا الاعتذار وذلك لأني لم أكن أرغب
إطلاقا في انتقاد أي قرار لحكومة بلادي خارج الإطار المحلي الضيق، فأنا من الذين
يرون بأن ذلك مما لا يليق، ولكن يبقى لكل قاعدة استثناء، وأرجو أن يكون هذا هو
الاستثناء الأول والأخير.
لم أكن أرغب في نشر اعتذار كهذا في
فضاء مفتوح، ولكن القرار الصادم لحكومة بلادي بقطع علاقاتها مع الشقيقة قطر قد أجبرني
على ذلك.
صحيح أني لم أكن أتوقع من حكومة
بلادي أن تتخذ موقفا مثاليا من هذه الأزمة، أي أن تنحاز للشقيقة قطر التي تتعرض
لظلم كبير من طرف بعض الدول الشقيقة، ولكن صحيح أيضا هو أني لم أكن أتوقع منها في
المقابل بأن تتخذ موقفا متسرعا وصادما كهذا الذي اتخذت، فبين هذا الموقف وذاك كانت
توجد مجموعة من الخيارات البديلة التي كان على حكومة بلادي أن تختار من بينها
الخيار الذي تراه مناسبا. كان بإمكان حكومة بلادي أن تتخذ موقفا مشابها للمواقف
التي اتخذتها شقيقاتها في المغرب والجزائر وتونس، أي أن تتخذ موقفا عاقلا وراشدا
تعلن من خلاله الحياد مع إبداء الاستعداد لدعم أي وساطة تسعى لحل الأزمة عن طريق
الحوار، وكان بإمكانها على الأقل أن تكتفي بالصمت والتفرج على ما يجري في المنطقة
وكأنها غير معنية به، وذلك هو أسوأ موقف
كنت أتوقعه من حكومة بلادي، أما أن تسارع إلى الإعلان عن قطع علاقاتها الدبلوماسية
مع قطر، وأن تتهم هذه الدولة الشقيقة بدعم الإرهاب، فذلك مما لم يكن يخطر لي على
بال.
كان موقف حكومة بلادي من الأزمة
الخليجية موقفا صادما ومستفزا وبعيدا كل البعد عن القيم الموريتانية الأصيلة، تلك
القيم التي كانت تستوجب من الحكومة الموريتانية أن تستغل الأزمة إيجابيا، وأن
تستثمر الفرصة التي أتاحتها هذه الأزمة لرد شيء من جميل قطر، فتسارع إلى إرسال
طائرة محملة بالسمك كتعبير رمزي عن تضامن الدولة الموريتانية ـ حكومة وشعبا ـ مع
هذا البلد الشقيق الذي يتعرض لحصار ظالم في الشهر الكريم، ذلك هو ما كانت تفرضه
القيم الموريتانية الأصيلة، وذلك هو ما كنتُ أتوقعه من حكومة بلادي، ولكن حكومة
بلادي خيبت أملي، وخيبت أمال الشعب الموريتاني.
إنه ليس من طبيعتنا ولا من عادتنا
كموريتانيين أن نتصرف بهذا الأسلوب غير اللائق مع الأشقاء، وخاصة عندما يكون أولئك
الأشقاء يتعرضون لظلم ويمرون بمحنة، ولهنا فقد وجدتُ بأنه من اللازم عليَّ كمواطن
موريتاني أن اعتذر لقطر حكومة وشعبا عن هذا الموقف الصادم والغريب الذي اتخذته حكومة
بلادي من الأزمة الخليجية، وفي اعتقادي بأن هذا الاعتذار يعبر عن مشاعر الكثير من
الموريتانيين، ويؤكد ذلك تلك المسيرات العفوية المتضامنة مع الشقيقة قطر، والتي
خرجت بعد وقت قصير من الإعلان الرسمي عن قطع العلاقات مع الشقيقة قطر .
فليتقبل الشعب القطري اعتذارنا،
وليعلم هذا الشعب الشقيق بأن مكانته في قلوب الموريتانيين لا يمكن أن تتأثر أبدا
بموقف رسمي لا يمثل إلا أولئك الذين اتخذوه دون أدنى مراعاة لمشاعر الشعب
الموريتاني ولقيم دينه الحنيف التي تحث على تعزيز صلة الرحم لا إلى قطعها، ويتأكد
الأمر أكثر خلال الشهر الكريم.
وإذا كان للأزمة الحالية من
إيجابيات، ولكل أزمة جانبها المضيء الذي قد لا يلحظها الكثير من الناس، فسيبقى
الوجه الإيجابي لهذه الأزمة هو أنها أماطت اللثام عن شيء غير يسير من نبل وأصالة القطريين.
وإذا كان الناس معادن، فإن الشعوب أيضا معادن، والشعوب لا تظهر على حقيقتها إلا في
أوقات المحن، كما أن المعادن لا تظهر قيمتها إلا عند تعريضها للنار.
فمن المعادن ما هو كالزئبق يصدر
أبخرة سامة يضر بها من حوله عندما يتعرض للنار، ومنها ما هو كالزنك يذوب عند تعرضه
للنار وقد كان البعض يتوقع لقطر الصغيرة بمقياس المساحة والسكان أن تذوب وأن تختفي
بعد ساعات قليلة من تعرضها لأقوى زلزال دبلوماسي، ولأشرس حصار بري وبحري وجوي،
ولكن لا شيء من ذلك قد حدث. ومن المعادن ما هو كالذهب يزداد بريقه ولمعانه إذا ما
تعرض للنار، وهكذا ظهرت قطر حكومة وشعبا خلال هذه المحنة. بلد صغير جدا بمقياس
السكان والمساحة يتعرض لأزمة غير مسبوقة، ومع ذلك لا يظهر على شعبه ولا على حكومته
أي ارتباك يذكر، بل على العكس من ذلك فقد أدار هذا البلد الصغير ـ بمقياس المساحة والسكان، والكبير
بمقياس الحضور والتأثير ـ الأزمة
باحترافية كبيرة، ولعل الشيء المبهر هنا هو أنه أدارها بأخلاق عالية، فأضاف بذلك
بعدا أخلاقيا في إدارة الأزمات، ففطر لم تطرد رعايا الدول التي طردت رعاياها، ولم
توقف أية اتفاقية مع الدول التي حاصرتها، ولا تلك التي أيدت الحصار، ولم ترد على
الكلمة السيئة بكلمة سيئة، بل على العكس من ذلك فقد أصدرت الحكومة القطرية بيانا
طالبت فيه مواطنيها بضبط النفس، وبعدم الرد على الإساءة بالإساءة.
ويبقى أن أقول بأن هذا الموقف
المتضامن مع الشعب القطري، لا يعني بأي حال من الأحوال، بأن الشعب السعودي لا يحتل
مكانا عليا في قلوب الموريتانيين، فالسعودية وقطر كلاهما دولة شقيقة، والأشقاء
عندما يختلفون يكون واجبنا هو أن نحاول أن نصلح بينهم، هذا إن لم نتخذ موقفا أكثر
انحيازا للمظلوم حتى يرفع عنه الظلم، وفي اعتقادنا فإن الشقيقة قطر هي المظلومة في
هذه الأزمة، ومن هنا وجب الوقوف معها، ومن هنا وجب الاعتذار لها بعد أن قررت الحكومة
الموريتانية قطع العلاقات الدبلوماسية معها.
مرة أخرى أجدد اعتذاري للشعب
القطري، وأقول لهذا الشعب الذي كشفت هذه الأزمة عن معدنه النبيل بأن مكانته في
قلوب الموريتانيين ستبقى محفوظة، وبأنها لن تتأثر أبدا بقرار المقاطعة الصادم.
حفظ الله قطر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق