منذ سنوات وقطاع الشرطة يعاني من
تهميش جلي، فهذا القطاع سحبت منه كل المهام المدرة للدخل، وتم توقيف الاكتتاب في
صفوفه لسنوات، وقلصت ميزانيته، ولم يترك له من مهامه التقليدية سوى مهام محدودة
جدا، لعل من أبرزها قمع الاحتجاجات السلمية، والاعتداء على المتظاهرين السلميين.
بالأمس استخدمت الشرطة الوطنية كل وسائل الاستفزاز الممكنة من
أجل جرنا في حملة "ماني شاري كازوال" إلى الصدام والمواجهة مع عناصرها،
وهو الشيء الذي رفضناه بشكل حاسم وقاطع. لقد احتلوا مكان الوقفة، ورفضوا أن يسمحوا لنا
بإيقاف السيارات المحتجة قرب الشارع، فما كان منا إلا أن انسحبنا بهدوء إلى مكان
آخر، ونظمنا فيه الوقفة التي كان من المفترض أن يتم تنظيمها أمام وزارة النفط
والطاقة والمعادن.
في مساء نفس اليوم اعتدت الشرطة على نشطاء الحملة في نواذيبو،
واعتقلت أربعة منهم، واحتلت مكان الوقفة في استفزاز آخر لهذا الحراك السلمي، ولا
أدري إن كان عناصر الشرطة سيكررون الشيء نفسه مع الوقفة التي ستنظمها الحملة في مساء هذا الأربعاء عند "كارفور
مدريد".
الغريب في الأمر أن عناصر الشرطة أظهروا حماسا كبيرا عند
تنفيذهم لهذه "المهام الوطنية السامية" المتمثلة في الاعتداء على محتجين
سلميين لم يرتكبوا من ذنب إلا أنهم رفعوا مطلبا وجيها يتفق الموريتانيون في
الموالاة والمعارضة، في المدن والأرياف، أغنياء وفقراء، نخبا وعامة على وجاهته
وشرعيته.
أظهر عناصر شرطتنا الوطنية حماسا كبيرا وهم يفضون اعتصامنا
السلمي، ولكن الغريب أن هذا الحماس يغيب لدى عناصر شرطتنا الوطنية عندما يتعلق
الأمر بقضايا أخرى أهم كحماية المواطنين من اعتداءات اللصوص والمجرمين.فهل فيكم من
جرب مرة أن يوجه نداء استغاثة إلى مفوضية للشرطة أثناء تعرضه لعملية سطو من طرف لصوص؟
ما يحدث عادة عند أي استغاثة من هذا القبيل هو أن المستغيث
بالشرطة لا يجد في أغلب الأحيان من يرد
عليه، وإذا وجده فقد يرد عليه بالقول بأن المكان الذي وقعت فيه عملية السطو يتبع لمفوضية
شرطة أخرى، وفي أحسن الأحوال فإنه قد
يُقال لهذا المستغيث بأن الشرطة على استعداد لأن تأتي لحمايته، ولكنها لا تملك
سيارة، أو أنها تملك سيارة، ولكنها سيارة بلا بنزين.
كل الحكايات في هذه البلاد لابد أن تقودنا إلى البنزين وإلى
أسعاره المجحفة، وارتفاع أسعار البنزين، والاحتجاج ضد ذلك الارتفاع، هو الذي جعل
السلطة ترسل شرطتها الوطنية لفض الوقفات المطالبة بتخفيضه، وذلك بعد أن فشل
الوزراء في مؤتمراتهم الصحفية المهزوزة والمرتبكة في تقديم حجج مقنعة لتبرير عدم خفض أسعار
المحروقات السائلة.
المؤلم في هذه
الحكاية هو أن الشرطي الذي تم الدفع به من أجل الاعتداء على محتجين سلميين يطالبون
بتخفيض أسعار المحروقات السائلة، هو نفسه ذلك الشرطي الذي يعجز في كثير من الأحيان
أن يوفر ثمن تذكرة نقل مما يجعله عند تأدية مهامه الخاصة يضطر لأن يرتدي زيه الرسمي
ويقف على الشارع في انتظار أن يرق لحاله صاحب سيارة، فيتوقف له ويوصله إلى وجهته.
إن هذا الشرطي الذي تم تكليفه بفض الاعتصام هو نفسه ذلك
الشرطي الذي يتعذب في صبيحة كل يوم عندما يطلب منه أبناؤه ثمن تذاكر النقل إلى
مدارسهم، وهي التذاكر التي تضاعفت أثمانها في السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار
المحروقات.
إن هذا الشرطي الذي تم تكليفه بفض الاعتصام هو نفسه ذلك
الشرطي الذي يتعذب في كل يوم عند شراء
حفنة من الأرز لأسرته، وعند شراء قطعة من لحم، وعند شراء حبة دواء، والذي
لم يسلم هو أيضا من ارتفاع الأسعار، وخاصة بعد أن قررت "حكومة التحصيل"
أن تزيد من هامش أرباح شركة "كاميك"، وأن تسمح لها بهامش ربح على
الأدوية التي تستوردها، يصل إلى 7% بدلا من 3%.
إن هذا الشرطي الذي تم تكليفه بفض الاعتصام هو نفسه ذلك
الشرطي الذي يتألم في كل يوم بسبب تدني راتبه، وبسبب غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار
الذي بلغ مستويات لا تطاق.
إن هذا الشرطي لابد أنه يتألم أكثر عندما يُطلب منه أن يفض
احتجاجا سلميا يطالب بخفض الأسعار، والتي يعتبر هذا الشرطي من أكثر المتضررين من
ارتفاعها.
كان من المفترض بهذا الشرطي أن يظهر فتورا وألما عندما تجبره
السلطة على أن يفض احتجاجا سلميا يطالب بخفض الأسعار، ولكن الشيء الغريب هو أن هذا
الشرطي يظهر حماسا زائدا عند فض مثل هذه الاحتجاجات!! بالمناسبة لو أن عدوى هذا
الحماس أصابت هذا الشرطي أثناء مطاردته للصوص، ولو أنها أصابت كل موظف حكومي أثناء
تأديته لواجبه الوطني، لو أن شيئا مثل ذلك حصل لاستحقت بلادنا أن تقارن بفرنسا
وبسويسرا.
لن يتحسن حال هذه البلاد ما دام الموظف الموريتاني سواء كان
في قطاع أمني أو مدني يظهر فتورا كبيرا عند تأديته للمهام النبيلة، ويظهر حماسا
زائدا عند تأديته للمهام غير النبيلة.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق