لم يكن الخبر الذي تناقلته
المواقع الموريتانية يوم 29 يوليو 2012 خبرا عاديا، فأن يقبل موظف برشوة فذلك ـ
للأسف الشديد ـ لم يعد خبرا يستحق النشر لتكرار وقوعه، أما أن يرفض موظف موريتاني
ـ وهو في كامل وعيه ـ رشوة، فذلك قد أصبح
هو الاستثناء الذي يستحق النشر بوصفه خبرا. وأن يُبَلِّغ ذلك الموظف عن تلك الرشوة،
وعن الأجانب الذين قدموها له، فذلك مما لم نكن نتخيل حدوثه في مثل هذه البلاد التي
انتشرت فيها الرشوة حتى أصبحت أمرا عاديا لدرجة أصبح من المستحيل فيها أن يحصل المواطن على أبسط خدمة عمومية دون أن يقدم
رشوة، أو يستنفر ـ على الأقل ـ أقاربه ومعارفه لكي يتوسطوا له عند المعني بتقديم
تلك الخدمة العمومية.
قطعا لم يكن رفض مدير
الضرائب للرشوة المقدمة له من طرف الصينيين الثلاثة خبرا عاديا، ولم يكن تقديم
شكوى والإبلاغ عن أولئك الصينيين الثلاثة الذين قدموا تلك الرشوة بالخبر العادي
أيضا، لذلك فلم يكن غريبا أن يخلق ذلك الخبر فرحة عارمة لدى الناس، ظهرت في
أحاديثهم، وهم يتناقلون تلك "الحادثة الغريبة". كما ظهرت أيضا تلك
الفرحة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت صورة المدير العام للضرائب، والذي
تحول بين عشية وضحاها إلى بطل عند الجميع،
لأنه كان هو أول موظف موريتاني يرفض أن يتسلم رشوة، ويبلغ عمن حاول أن يقدم له تلك
الرشوة.
ولكن، ولأنه قد قدر لنا أن نعيش في موريتانيا ذلك البلد الذي عودتنا
"حكوماته الحزينة" على أن توزع الأحزان ـ وبكميات معتبرة ـ على المواطنين، وأن تغتال ـ وبحماس ـ كل فرحة
تظهر خلسة هنا أو هناك، وهي لا زالت في مهدها. لأنه قد قدر لنا ذلك فقد علمنا بأن "حكومة
الأحزان" قد أطلقت سراح الصينيين
الثلاثة، حتى من قبل أن يكملوا يومهم
الأول في السجن، وربما تكون قد اعتذرت لهم عن تلك الساعات القليلة التي تم التعامل
معهم فيها بما لا يليق مع كرامتهم كصينيين، يحق لهم أن يسخروا ويستهزئوا من موريتانيا ومن قوانينها ومن عدالتها ومن
موظفيها، متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، و دون أدنى عقاب.
أُطلِق سراح الصينيين
الثلاثة، وسارعت حكومة الأحزان والمصائب إلى وأد الفرحة التي تسللت خلسة إلى قلوب
الموريتانيين، ومن قبل أن تكمل يومها الأول، وإن من شر البلية هو أن يبتلى شعب
بحكومة من أحزان، لا شغل لها سوى توزيع الأحزان على الشعب، أو المسارعة في وأد الأفراح وهي لا تزال في مهدها، كما كان
يسارع العرب قديما في وأد بناتهم.
والمؤسف أن أغلب
المواقع الوطنية تجاهلت إطلاق سراح الصينيين، ولم تعلق عليه، وإنما تشاغلت بأمور
أخرى أقل أهمية، ونسي الناس بالتالي ـ أو
تناسوا ـ القصة بكاملها، وعادت موريتانيا إلى ما كانت عليه : أرض الأحزان والهموم
والمصائب التي لا تنضب أبدا، والتي لا يمكن لأي فرحة عابرة أن تعمر فيها ولو ليوم واحد.
ومما تجب الإشارة له
هنا هو أني لا أعرف حتى الآن إن كان إطلاق سراح الصينيين الثلاثة قد تم بفعل تدخل
من سفارة الصين، ودون أي تنازل من مدير الضرائب؟ أم أن مدير الضرائب قد رضخ للضغوط
وسحب شكواه حسب بعض الإشاعات؟ فإن صح أن المدير قد سحب شكواه فإننا في هذه الحالة لن نكون أمام اغتيال فرحة فقط، بل سنكون
أيضا أمام انتحار عمل بطولي وهو لا يزال في مهده، وكثيرا ما تعودنا ـ في هذا البلد
ـ على الانتحار المبكر للأبطال.
وإذا ما صح أن مدير
الضرائب قد سحب شكواه من الصينيين الثلاثة، فسيكون من حقنا نحن في "ضحايا ضد
الفساد" أن نسحب أيضا وسامنا الشعبي الذي قررنا أن نمنحه لذلك المدير في
نهاية هذا العام، بوصفه "الموظف المثالي للعام 2012"، والذي وقع عليه
اختيارنا نتيجة لارتفاع مستوى التحصيل في ظل إدارته، والذي وصل إلى مستويات غير
مسبوقة، ونتيجة كذلك ـ وهذا هو الأهم عندنا ـ لرفضه لتسلم رشوة، وتقديم شكوى ممن قدم له تلك الرشوة.
وفي انتظار أن نتوصل
إلى حقيقة ما جرى مع الصينيين الثلاثة، وكيف تم إطلاق سراحهم، فإنه قد يكون من
الضروري تسجيل بعض الملاحظات المختصرة حول عملية الإطلاق تلك.
1 ـ إن صح أن
الصينيين الثلاثة قد تم تبرير إطلاق سراحهم بسحب مدير الضرائب لشكواه، فإننا في
هذه الحالة سنكون في حاجة شديدة لأن يدلي لنا القانونيون برأيهم في ذلك، فالمدير ـ
وهذا هو ما يتبادر لأذهان العامة ـ ليس هو المتضرر الوحيد من تلك الرشوة.
2 ـ إن إطلاق سراح
الصينيين الثلاثة سيزيد مستقبلا من استهزاء الأجانب بالقوانين الموريتانية،
وسيشجعهم أكثر على التهرب من دفع الضرائب، وإلى اللجوء للمزيد من الرشوة في
تعاملاتهم مع الإدارة الموريتانية.
3 ـ إن المسار الذي
سلكته تلك الحادثة سيصدم كل موظف نزيه، وسيجعله يتردد كثيرا من قبل أن يرفض أي
رشوة، أو من قبل أن يبلغ عن أي راش.
4 ـ إن هذه الحادثة
ستؤكد من جديد بأن الحرب المعلنة على الفساد هي مجرد شعار استهلاكي قد انتهت
صلاحيته.
5 ـ من السخافة أن نتحدث عن أن من عادة الصينيين أن
يقدموا مبالغ مالية ضخمة لبعض الموظفين دون أن يقصدوا بذلك رشوتهم. كما أنه من
السخافة أن ندعي بأن سجن الصينيين الثلاثة يعتبر إساءة للدولة الصينية، أو أنه
سيؤثر في استقطاب المستثمر الأجنبي بشكل عام، والصيني بشكل خاص.
إن الذي سيؤثر حقا على
استقطاب المستثمرين الأجانب هو أن يخلق لديهم الشعور بأنهم قد استثمروا أموالهم في
غابة لا يحكمها أي قانون، ولا تضبطها أي أخلاق، وتغيب فيها الشفافية، وتنتشر في
إدارتها الرشوة والفساد.
تصبحون على أفراح
معمرة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق