لا خلاف على أن هناك "عنصرية تقليدية" في بلادنا، والحمد لله على أن هذه "العنصرية التقليدية" في تراجع، وأنها تجد دائما من يتحدث عنها إعلاميا وسياسيا بشكل واسع. في المقابل هناك نمط آخر من العنصرية ومن التمييز الإعلامي والسياسي بين الضحايا مسكوت عنه، وذلك على الرغم من أنه بدأ يتسع في السنوات الأخيرة، وكسرا لجدار الصمت هذا فقد ارتأيت أن أغامر بالكتابة عن هذا النمط من التمييز السلبي المسكوت عنه، وسأستعرض في هذا المقال أمثلة ومقارنات أرجو أن تساهم في لفت الانتباه إليه.
عندما يتم التمييز سياسيا وإعلاميا
بين دماء الموريتانيين
دعونا في هذه الفقرة من المقال نجري مقارنة سريعة بخصوص التداول الإعلامي
وردود أفعال الأحزاب السياسية على حادثتي قتل بالخطأ ارتكبهما عنصران من جيشنا
الوطني في العامين 2019 و2020.
في يوم 16 مارس 2019 تسبب إطلاق نار من طرف جندي موريتاني في وفاة شيخ مسن
(80 عاما) في مقاطعة "أنبيكت لحواش"، وفي يوم 28 مايو 2020 تسبب إطلاق نار
من طرف جندي موريتاني آخر في وفاة شاب ثلاثيني في قرية "ويندنيك" التابعة
لمقاطعة "أمبان".
من حيث التوقيت : فإن حادثة أمبان وقعت ليلا (الساعة التاسعة) وفي فترة حظر
تجوال شامل بسبب جائحة كورونا، أما حادثة انبيكت لحواش فقد وقعت في وضح النهار وفي
فترة لا يوجد فيها أي حظر تجوال.
من حيث الأجواء السياسية : فإن حادثة أنبيكت لحواش وقعت في فترة تجاذب
وصدام قوي بين المعارضة والسلطة مما يعني أن المعارضة لن تترك فرصة يمكن أن تنتقد
فيها السلطة إلا واستغلتها. أما حادثة أمبان فقد وقعت في فترة جائحة كورونا وفي ظل
تهدئة سياسية غير مسبوقة بين المعارضة والسلطة، مما يعني أنه لن يكون من المنتظر
أن تنتقد المعارضة السلطة إلا إذا كانت هناك استفزازات قوية من السلطة تستدعي ذلك.
في حادثة أمبان كان الأمر يتعلق بمطاردة مجموعة من المهربين، وفي حادثة انبيكت
لحواش كان الأمر يتعلق بشيخ أعزل يبحث عن قطيع سائم.
عن ردود الفعل الإعلامية و السياسية على الحادثتين الأليمتين
في حادثة أنبيكت لحواش كانت التغطية الإعلامية ضعيفة جدا، ولم يصدر على الإطلاق
ـ وأكرر على الإطلاق ـ أي بيان من أي حزب سياسي
معارض أو غير معارض يندد بالحادثة، ولذا فقد فمرت هذه الحادثة وكأن شيئا لم يكن، وفي
حادثة أمبان كانت التغطية الإعلامية قوية، وأصدر عدد من الأحزاب السياسية بيانات تنديد قوية، وكان من
بين الأحزاب التي أصدرت بيانات بعد ساعات قليلة من نشر خبر عنها : تواصل؛ اتحاد قوى
التقدم؛ التكتل؛ إيناد..
ولكم أن تسألوا بأي منطق تتم إدانة إطلاق جندي للرصاص ليلا على شاب كان رفقة
مجموعة في زورق في فترة حظر تجوال، ولا تتم إدانة إطلاق جندي آخر للرصاص على شيخ في
وضح النهار، كان يبحث عن قطيع سائم؟
هل تعقيدات الوثائق المؤمنة كانت موجهة بالفعل ضد مكونة معينة؟
في العام 2011 تم حرمان وزير داخلية
سابق، ورئيس سابق لحزب حاكم، ينتمي إلى نفس المجموعة القبلية التي ينتمي إليها
الرئيس السابق، تم حرمانه من أوراقه الثبوتية بحجة أن أمه مولودة في الخارج. لم تأخذ
عملية الحرمان تلك بعدا عنصريا، ولم تجد أي اهتمام إعلامي وسياسي يذكر. في نفس
الفترة تم حرمان مستشار سابق في بلدية ريفية من مكونة أخرى من أوراقه الثبوتية ولنفس
السبب. هنا تم تداول عملية الحرمان إعلاميا بشكل واسع، وتم الحديث بشكل أوسع عن عنصرية
الدولة.
استمر هذا التمييز الإعلامي والسياسي بين ضحايا تعقيدات الحالة المدنية
لسنوات، وتشكلت على إثر ذلك حركة "لا تلمس جنسيتي"، وترسخت في أذهان
أغلب المواطنين ـ إن لم أقل كل المواطنين ـ مغالطة مفادها أن ضحايا الحالة المدنية
هم من مكونة واحدة. والآن اسمحوا لي أن أسألكم هذا السؤال : ما هي الولاية التي يوجد بها أكبر عدد من
المحرومين من أوراقهم الثبوتية؟ لا شك أنكم ستجيبون بشكل تلقائي بأنها ولاية "كوركول"
أو "كيدي ماغا".
الآن إليكم هذه الحقيقة التي ستفاجئكم: توصلت اللجنة التي تم تشكيلها لدراسة
المشاكل المتعلقة بالوثائق المؤمنة، وهي اللجنة التي يترأسها الوزير السابق السيد "تام جمبار" إلى أن عدد الذين لم
يحصلوا في الحوض الشرقي على وثائقهم المدنية نتيجة للتعقيدات التي تضعها وكالة سجل
الوثائق المؤمنة يفوق عدد الذين تم حرمانهم من وثائقهم بسبب نفس التعقيدات في ولايتي
لبراكنة و كوركول!!
عن تسييس عمليات السرقة
قبل عامين من الآن تعرض منزل السيد "صمبا تام" لمحاولة ـ وأقول محاولة
ـ سرقة عادية كانت آثارها عادية جدا، وأضرارها شبه معدومة، حسب ما نُشر عنها في ذلك
الوقت من صور. محاولة السرقة هذه، والتي لا تختلف عن عشرات محاولات وعمليات السرقة
التي تحدث يوميا في العاصمة نواكشوط تم التعامل معها إعلاميا وسياسيا بشكل مختلف،
وتم إعطاؤها بعدا عنصريا، ووصفت المحاولة في بيانات سياسية على أنها "عمل تخويف وتهديد للرئيس صمبا تام".
بعد تلك الحادثة بيومين، وتحديدا في يوم الاثنين الموافق 13 يوليو 2020 أصدر
" تحالف سياسي" بيانا شديد اللهجة دعا فيه إلى تسريع البحث عن المعتدين على
منزل الرئيس "صمبا تام"...المفارقة أن محاولة السرقة تلك تزامنت مع عمليات
سرقة فعلية ـ وليست محاولات ـ تعرض لها نائبان معارضان (نائب سابق ونائب
حالي)، و لكن لا أحد منهما رغم معارضته فكر في تسييس عملية السرقة، أو إعطائها أي
بعد آخر يمكن أن يخرجها من دائرة عمليات السرقة التي تحدث يوميا في العاصمة نواكشوط.
التمييز بين نائبين
في مطلع شهر مارس 2021 ، وعلى هامش برنامج إذاعي وتلفزيوني، تحدث النائب
عبد السلام ولد حرمة عن القضاء، وقد اعتبر أن في حديثه ذلك إساءة للقضاء
الموريتاني. من المعروف أن النائب عبد السلام والنائب بيرام ولد الداه أعبيد وصلا
إلى البرلمان من نفس الحزب، ومن المعروف كذلك أن حجم إساءات بيرام للقضاء تضاعف مئات
المرات (من حيث التكرار وحدة الإساءة) إساءة يتيمة لعبد السلام ولد حرمه للقضاء
قال فيها بأنه لا بد من إصلاح القضاء من قبل المطالبة باستقلاله، وأنه لا أحد
اليوم راض عن القضاء الموريتاني وعن وضعيته.
والآن لنطرح السؤال : لماذا سكت نادي القضاة ورابطة القضاة المهنيين عن إساءات
بيرام المتكررة، وهددا بتحريك دعوى ضد النائب ولد حرمه على "إساءته"
اليتيمة للقضاء؟
ألا تطرح هذه الازدواجية في تعامل القضاء مع نائبين من نفس الحزب أكثر من
سؤال؟
لقد تمت في النهاية تسوية هذه القضية وديا، ولكن تبقى الصرامة في التعامل
مع إساءة يتيمة لنائب مقابل التساهل مع الكثير من الإساءات لنائب آخر يطرح أكثر من
سؤال، ويعكس جانبا مما نحاول أن نلفت إليه الانتباه في هذا المقال.
عن حادثة "أفام لخذيرات"
إن هذا التمييز الإعلامي والسياسي والحقوقي بين الضحايا هو الذي جعل البعض
يتعاطف مؤخرا مع أشخاص اعتدوا في وضح النهار على مواطن، فضربوه، وتم توثيق ذلك بالصوت
والصورة، فبأي منطق يتعاطف البعض مع المُعْتدين على حساب المعتَدى عليه؟
هذه عشر نقاط مختصرة جدا كنت قد نشرتها في تدوينة سابقة على حسابي على
الفيسبوك تعليقا على حادثة أفام لخذيرات.
1 ـ أُذَكِّر بأن الفيديو الذي تم نشره بعد أربعة أيام من الحادثة قد وثق بالصوت
والصورة تصرفا همجيا من طرف بعض نشطاء إيرا ضد المُعْتدى عليه (إسحاق ولد عبد الله)؛
2 ـ ما لم يتم توثيقه في الفيديو المذكور كان
أكثر همجية، والدليل على ذلك ما جاء في تسجيل صوتي متداول قال فيه أحد نشطاء إيرا إن
الضحية وابنه تم ضربهما كما تضرب الحمير، وأنه يأسف على أن تلك المشاهد لم يتم تصويرها
وتوثيقها وبثها؛
3 ـ يحسب للمُعتدى عليه، وقد تم الاعتداء عليه
في قريته أنه لم يرد بالمثل، وأنه لم يستنفر ذويه، وإنما لجأ إلى العدالة فقدم شكوى
من المعتدين، وهذا أقل ما يمكن أن يُقال عنه إنه تصرف حضري نبيل؛
4 ـ بعد 18 يوما من الحادثة، و14 يوما من نشر
الفيديو تقدم المُعْتَدى عليه بشكوى من المعتدين. يلاحظ أن السلطات الأمنية لم تقم
بأي ردة فعل إلا بعد تقديم الشكوى.
5 ـ كانت هذه المدة الطويلة التي سبقت الشكوى
(18 يوما) كافية لتقديم اعتذار للمعتدى عليه من طرف السيد بيرام، وكان ذلك سيكفي لطي
الملف نهائيا، فنحن في هذه البلاد نقبل بالاعتذار عندما يقتل سائق مواطنا في حادث سير،
فكيف لا يُقبل اعتذار في حادثة ضرب على هامش نشاط سياسي؟
6 ـ خلال الثمانية عشر يوما عقد السيد بيرام مؤتمرات
صحفية وكانت له عدة إطلالات، ولكنه بدلا من أن يعتذر فقد اختار أن يبرر عملية الاعتداء
وأن يدافع عنها، وأن يواصل تهجمه اللفظي على الآخرين؛
7 ـ لم نَطَّلع خلال هذه المدة الطويلة على منشور
واحد للمتعاطفين بالمقلوب حاليا مع نشطاء إيرا، لم نطلع على منشور واحد لهم ينتقد نشطاء
إيرا على تصرفهم الهمجي، أو يدعو السيد بيرام لأن يعتذر نيابة عن المعتدين؛
8 ـ دعونا نتصور أن العكس هو الذي حصل وأن النشاط
كان ينظمه سياسي آخر في فام لخذيرات، وأن أحد نشطاء إيرا في قرية أفام لخذيرات حاجج
منظم ذلك النشاط بنفس الطريقة التي حاجج بها إسحاق السيد بيرام، وتصوروا أن بعض داعمي
منظم ذلك النشاط قام بضرب ناشط إيرا بنفس الطريقة التي ضُرب بها إسحاق، وأن عملية الضرب
تم تصويرها ونشرها، فهل كان المتضامنون حاليا مع نشطاء إيرا سيسكتون، أم أنهم كانوا
سيُكثفون من النشر عن العنصرية وعن همجية المعتدين؟
9 ـ هناك أحداث عديدة، وقد استعرضتها في (هذا
المقال) تُبين أنه أصبح لدى البعض ازدواجية في التعامل مع الضحايا، فبعض الضحايا لا
يستحق تعاطفا، والبعض الآخر يجد من التعاطف الإعلامي والسياسي الشيء الكثير.
10- أظن أن هذه الازدواجية قد أصبحت مكشوفة، وأنه
على أصحابها أن يراجعوا مواقفهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق