شاهدتُ الصورة التي
تم تداولها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يظهر فيها النائب بيرام
ولد الداه ولد أعبيد وهو في طريقه إلى المستشفى مكبل اليدين بالحديد.
هذه الصورة شاهدتها
لعدة مرات، وكنتُ مع كل مشاهدة لها أخرج بقراءة جديدة تختلف تماما عن القراءة السابقة، إن لم تكن مناقضة لها.
القراءة الأولى : من يلعب
بالنار؟
كان أول شيء تذكرته عند أول
مشاهدة لهذه الصورة هو مقال سابق لي، كان تحت عنوان " قبل أن تصبح موريتانيا
علبة كبريت!"، وهو المقال الذي كنتُ قد نشرته يوم 9 أكتوبر 2018، ولقد جاء
فيه: " المتأمل في تصرفات السلطة الحاكمة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ
البلاد، والباحث عن خيط ناظم يجمع ويفسر تلك التصرفات، لابد وأنه سيصل إلى استنتاج
خطير، وهو أن هذه السلطة الحاكمة تعمل جاهدة من أن أجل أن تجعل من موريتانيا علبة
كبريت قابلة للاشتعال في أي وقت."
إن ظهور النائب السجين
بيرام في هذه الصورة المستفزة، وفي مثل هذا الوقت بالذات، قد يُفسر بأنه قد جاء من
أجل استفزاز أنصاره في حركة "إيرا"، وجرهم بالتالي إلى احتجاجات عنيفة،
ومثل هذه القراءة تطرح أسئلة من قبيل: من هو المستفيد من دفع أنصار هذا النائب
السجين إلى احتجاجات عنيفة؟ وهل لرأس النظام مصلحة في تأزيم الأوضاع؟ وهل كان ذلك
من أجل تبرير البقاء في السلطة أم أن هناك أطرافا أخرى في النظام هي التي تحرك
الأمور بهذه الاحترافية من أجل تأزيم الأوضاع لهدف ما؟
القراءة الثانية : هل من
دافع عنصري؟
لما شاهدتُ هذه الصورة
للمرة الثانية وجدتني أتساءل هل النظام الذي يحكمنا هو نظام عنصري كما يدعي البعض؟
لقد كنتُ ـ ولا زلتُ ـ من
الذين يفسرون أخطاء هذا النظام وأخطاء الأنظمة التي سبقته بأنها مجرد أخطاء ناتجة
عن سياسيات فاشلة، ولا علاقة لها بالعنصرية. فهذا النظام، وحاله في ذلك كحال
الأنظمة التي سبقته، قد فشل في التعليم والصحة ومحاربة الفقر والفساد بسبب سياساته
الفاشلة، تماما مثلما فشل في تعزيز اللحمة الوطنية وفي محاربة الرق وآثاره.
إني من المقتنعين بأن الفشل
في تعزيز اللحمة الوطنية ومحاربة الرق ومخلفاته لم يكن نتيجة لسياسيات عنصرية،
بقدر ما كان نتيجة لسياسات فاشلة. هذه القناعة لا تعني بأنه يجب استبعاد البعد
العنصري في كل تصرفات هذا النظام والأنظمة التي سبقته. دعونا نطرح لتبرير هذه القراءة
الثانية الأسئلة التالية : لماذا يتم الإصرار على سجن النائب بيرام دون محاكمة؟
ولماذا يتم تكبيل يديه بالحديد في يوم 26 نوفمبر، أي بعد يوم واحد من عيد الجيش، ويومين
من قبل عيد الاستقلال؟ ولماذا تم اختيار هذا الوقت بالذات لتكبيل النائب بيرام،
خاصة وأننا نسمع أصواتا تذكر بإعدام عدد
من الضباط الزنوج في يوم الاستقلال؟
القراءة الثالثة : صورة لا
تقدر بثمن
صحيح أن النائب بيرام يتعرض
منذ انتخابه لظلم كبير، ولكن الصحيح أيضا هو أن النظام يقدم له ـ عن قصد أو عن غير
قصد ـ حملة دعائية كبرى. فأي دعاية يمكن أن يتم تقديمها لقيادي معارض أكثر من
إظهاره بأنه هو العدو الأول للنظام الحاكم، وأنه هو وحده من يستحق أن تخاض حرب ضده.
لقد مُنِحت للمرشح بيرام فرصة لم تمنح لغيره، وذلك بإدخاله في السجن خلال حملة
انتخابية، وأشير هنا بأن هذه الفرصة لم تمنح للشيخ محمد غدة الذي حُرم من الترشيح
وهو في السجن، وذلك في الوقت الذي سُمِح فيه لبيرام ولشيخ ونقابي مشمول مع ولد غدة
في نفس الملف بالترشح!
إن ظهور النائب بيرام مكبل
اليدين، ورغم ما في ذلك من ظلم صارخ، سيشكل دعاية كبيرة لهذا النائب الذي كان قد
أعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية المفترض تنظيمها بعد أشهر معدودة، ولاشك أن
ظهوره مكبل اليدين سيرفع من قيمة أسهمه في بورصة المعارضة.
وتبقى القيمة المعنوية الأهم
لهذه الصورة، والتي لا يمكن تقديرها بالمال، هي تلك القيمة التي ستمنحها هذه
الصورة للنائب بيرام لدى الحكومات والمنظمات الفاعلة في الغرب. إن هذه الصورة ستساعد
النائب بيرام في الحصول على المزيد من
الأوسمة والتكريمات الغربية، وستمنح لخطابه وجاهة وقوة أكبر. فأي هدية يمكن أن
تمنح للنائب بيرام أغلى من هذه الهدية، أي إظهاره وهو مكبل اليدين بالحديد رغم
انتخابه نائبا. هذه الصورة ستمكن النائب بيرام وداعميه من القول في بلاد الغرب بأن
العبيد في موريتانيا ما يزالون يقيدون بالحديد، حتى وإن انتخبوا نوابا للشعب، ثم إن
هذه الصورة سيتم استخدامها لتعزيز مصداقية قرار الرئيس الأمريكي المتعلق باستبعاد
موريتانيا ابتداء من 1 يناير 2019 من مميزات قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA).
القراءة الرابعة : هل الأمر
يتعلق بمجرد مبالغة في الاحتقار؟
تَعَود هذا النظام أن يبالغ
في احتقار السجناء المعارضين، وفي التعامل معهم بقسوة وغطرسة، ولقد ظل الشيخ محمد
ولد غدة لعام كامل يرفض أن يذهب إلى المستشفى رغم حاجته لزيارة الطبيب، وذلك لأن
سجانه كان يصر دائما على تكبيل يديه بالحديد من قبل الذهاب به إلى المستشفى. وفي
ضحى يوم 11 أكتوبر 2017جيء بهذا الشيخ مكبلا
بالحديد إلى المحكمة في مشهد مستفز، ومن قبل ذلك فقد تم تقييد الشاب الشيخ باي من
قبل الذهاب به إلى المستشفى.
إن هذه القراءة الرابعة
للصورة تقول بأن الأمر لا يتعدى كونه مجرد
احتقار تعود عليه هذا النظام، ولم يسلم منه السجناء السابقون لبيرام، ولن يسلم منه
السجناء الذين قد يلقون في السجن من بعده.
القراءة الخامسة : لا
احترام للدستور ولا لممثلي الشعب
قد لا يكون النائب بيرام هو
المقصود في شخصه بهذه الصورة المسيئة، وإنما المقصود بها هو الإساءة إلى الشعب
الموريتاني وكل قواه الحية الحالمة بالديمقراطية وبدولة المؤسسات. إن الرسالة التي
يُراد وضعها في صناديق بريد كل الحالمين بالديمقراطية، من خلال هذه الصورة، ومن
خلال صور مماثلة سبقتها، هو أنه لا احترام في هذه البلاد للدستور ولا للقوانين،
وبأن منتخبي الشعب يمكن أن يُعاملوا بطريقة أسوأ من تلك التي يُعامل بها عتاة
المجرمين. يعني لا تذهبوا بعيد بأحلامكم وبأمانيكم فنحن لسنا دولة ديمقراطية ولا
دولة مؤسسات وقانون، ولذا فعليكم أن تتوقعوا مستقبلا تصرفات أخرى قد تكون أكثر انتهاكا
للدستور من سجن نائب والذهاب به إلى المستشفى مكبل اليدين بالحديد.
القراءة السادسة : أخطاء
غبية
تقول هذه القراءة السادسة
للصورة بأنه قد لا تكون هناك أي أوامر مباشرة ولا أي توجيهات سامية بتكبيل يدي
النائب بيرام من قبل الذهاب به إلى المستشفى، وأن الأمر قد يكون في مجمله مجرد أخطاء غبية
ارتكبتها الجهات التي تتعامل بشكل مباشر مع ملف النائب السجين، وأن تلك الجهات قد
لا تدرك خطورة ما ترتكب من أخطاء في هذا المجال.
ختاما
كل قراءة من هذه القراءات
الست يمكن أن نقرأ بها هذه الصورة المستفزة التي ظهر فيها النائب بيرام وهو مكبل
اليدين، وهناك قراءات أخرى قد تكون أقل وجاهة تم تجاهلها في هذا المقال، وذلك رغبة
في اختصاره قدر الإمكان.
حفظ الله
موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق