أجدني مضطرا لأن أقول بأني عاجز تمام العجز عن فهم الأسباب التي تجعل الرئيس المالي، وهو الغارق في المشاكل من رأسه حتى أخمص قدميه، يسعى إلى فتح جبهة صراع جديدة مع موريتانيا، البلد الشقيق الجار، والذي رفض إغلاق حدوده مع مالي، ورفَضَ ـ بالتالي ـ أن يُشارك في الحصار الذي فرضته دول المنطقة على مالي بعد الانقلاب الذي جاء برئيسها الحالي إلى الحكم.
لا أجد تفسيرا متماسكا من الناحية المنطقية لفهم ما يحدث، وهناك سبع فرضيات يتم الحديث عنها، ولكني لم استطع ـ حتى الآن ـ أن ابتلع أي فرضية من تلك الفرضيات السبع.
الفرضية الأولى : الروس هم من يقفون وراء ما يحدث
هناك من يحاول تفسير التصعيد المالي ضد موريتانيا بدخول لاعب جديد في المنطقة، وهو لاعب معروف أصلا بخشونته في اللعب، وهذه الفرضية قد تبدو في ظاهرها معقولة جدا، ولكن هناك بعض الأسئلة التي إن طُرحت فإنها ستصيب هذه الفرضية في مقتل. فإذا كانت روسيا هي التي أصبحت تتحكم في القرار العسكري في مالي عن طريق "فاغنر"، وإذا كانت هي من يُصعد حاليا ضد موريتانيا، فمن ذا الذي يُصعد ضد الجزائر؟ ألا تعدُّ الجزائر من الدول الإفريقية الأقرب إلى روسيا، فبأي منطق يعاديها حاكم إفريقي يتحكم فيه الروس؟ ثم ما هي مصلحة روسيا، والتي تحاول أن تستغل بغض الشعوب لمستعمرها القديم للتغلغل في إفرقيا، ما مصلحتها في خلق عداء مع موريتانيا؟.
الفرضية الثانية : فتشوا عن الإمارات
هناك من يذهب به الخيال بعيدا، ويُحاول أن يربط ما يجري في المنطقة بالإمارات، ويقول إن لهذا التصعيد "علاقة ما" بالإمارات والغاز. على من يدفع بهذه الفرضية أن يتذكر أن رئيس موريتانيا في الوقت الحالي يُعَدُّ صديقا للإمارات، ولموريتانيا والإمارات علاقات قوية في الوقت الحالي، وللتذكير فإن موريتانيا قد وقعت مؤخرا اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع شركات إماراتية في مجال الطاقة، ثم إن الإمارات لا تمتلك من التأثير على حاكم مالي ما يمكنها من جره إلى صدامات لا مصلحة له فيها، ولا يرغب فيها أصلا.
بكلمة واحدة : لا مصلحة للإمارات في خلق مشاكل وتوترات حدودية لدولة شقيقة وصديقة، يحكمها رئيس أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه هو أفضل صديق لها في المنطقة.
الفرضية الثالثة : ما يجري هو من تدبير المغرب
هناك من يدفع بفرضية ثالثة مفادها أن المملكة المغربية هي التي تشجع حاكم مالي على التصعيد، وهذه فرضية قد تبدو مقبولة من حيث المبدأ، ولكن إذا أخذنا بها فسيكون من حقنا أن نسأل عن مصلحة المغرب في خلق عداوات مع موريتانيا في هذا الوقت بالذات؟ ألن تدفع تلك العداوات بموريتانيا أن تترك دائرة الحياد الإيجابي بين المغرب والجزائر وتبدلها بدائرة التخندق الصريح والواضح مع بقية بلدان المغرب العربي، والتي يسعى قادتها إلى خلق اتحاد مغاربي جديد تكون المغرب خارجه؟
ألم يغب الرئيس الموريتاني عن قمة الجزائر الثلاثية التي جمعت الرئيس الجزائري والتونسي ورئيس المجلس الرئاسي الليبي المنعقدة في الجزائر يوم الثلاثاء 5 مارس 2024؟ ألم يغب عن القمة التشاورية التي نُظمت اليوم (الاثنين 22 إبريل 2024) في تونس وحضرها الرؤساء الثلاثة؟
فأي مصلحة للمغرب في توتير الأجواء مع موريتانيا في الوقت الحالي، مع العلم أن ذلك قد يترتب عليه ـ على الأقل ـ أن تنضم موريتانيا للتحالف المغاربي الثلاثي، فتصبح بذلك المغرب دولة معزولة مغاربيا، وربما تترتب عليه مواقف أخرى أقوي في قضية الصحراء.
الفرضية الرابعة: هذا تصعيدٌ فرنسي لا لُبْس فيه
هذه الفرضية الرابعة هي الفرضية الأقوى، وهي الأكثر تماسكا من الناحية المنطقية، ففرنسا التي أُرْغِمت على الخروج في وضح النهار من مالي، لن تغفر ذلك لحاكم مالي الجديد، ولن تقبل بالتفرج على انفراط عقدها في إفريقيا وهي مكتوفة الأيادي، ومن المؤكد أنها فكرت ودبرت وبحثت عن الوسائل الأكثر خبثا والأشد فتكا، لمعاقبة حاكم مالي الذي شكل خروجه من العباءة الفرنسية، بداية لخروج حكام آخرين في المنطقة من عباءة فرنسا (استخدمتُ هنا كلمة عباءة وكررتها عن قصد، وذلك لأني أعلم أن فرنسا لا تحب استخدام كلمة العباءة، ولا أي كلمة أخرى لها صلة بالستر أو الحجاب).
لا خلاف على أن فرنسا هي أول من يجب أن توجه إليه أصابع الاتهام في أي توتر في المنطقة، وفرنسا قد يكون لها عملاؤها في الجيش المالي الذين قد يتعمدون قتل الموريتانيين بهدف تأجيج الصراع بين الدولتين الجارتين والشقيقتين، وفرنسا قد يكون لها كذلك عملاؤها في الحركات المسلحة، وهؤلاء قد يقومون بالدور نفسه لتأجيج الصراع.
إن اتهام فرنسا سيبقى هو الفرضية الأقوى، ولكن تبقى هذه الفرضية مهددة بسلوك وتصرفات الرئيس المالي، والذي من المؤكد أنه لا يأتمر بأوامر فرنسا. فلو كانت فرنسا هي من يقف وراء المجازر التي ارتكبت في حق الموريتانيين العُزَّل، وأن من نفذ تلك المجازر هم بعض عملائها في الجيش المالي أو في بعض الحركات المسلحة، لو كان الأمر كذلك، لبالغ الرئيس المالي في التقرب من موريتانيا، وفي الاعتذار لها، حتى لا تنجح الحيل الفرنسية في جر البلدين إلى الصدام، فذلك هو ما يقتضيه التحليل السياسي المتماسك. ومن الملاحظ أن الرئيس المالي لم يبذل جهدا في هذا المجال، بل على العكس من ذلك، فسلوكه في الفترة الماضية كان أقرب لمن يريد أن تلصق به التهمة، من سلوك من يريد أن يدفع عنه تلك التهمة، حتى يُظهر للجميع براءته مما حدث، وأن ما حدث كان من تدبير عملاء فرنسا.
الفرضية الخامسة : لا تذهبوا بعيدا فعاصيمي غويتا هو المسؤول
هناك فرضية خامسة تقول بأنه لا علاقة للخارج بما يجري من تصعيد ضد موريتانيا، وأن الانقلابي عاصمي غويتا هو المسؤول الأول والأخير عما يحدث. هنا يبرز السؤال : ما مصلحة حاكم مالي في توتير الأجواء مع موريتانيا خاصة، وأن موريتانيا هي الدولة الجارة الوحيدة التي رفضت أن تُشارك في حصار مالي بعد الانقلاب الأخير؟ وما مصلحة غويتا في أن يخاصم الجميع في وقت واحد، فهو في خصام مع المعارضة المالية، وفي خصام آخر مع الحركات المسلحة المالية، وفي خصام مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفي خصام مع الاتحاد الإفريقي، وفي خصام مع الجزائر، وفي خصام مع فرنسا، فبأي منطق يضيف إلى كل هذه الخصومات تصعيدا جديدا مع موريتانيا؟
صحيحٌ أن توتير الأجواء بين البلدين الجارين الشقيقين، واللذين تربط بينهما حدود طويلة جدا تصل إلى 2237 كلم سيتضرر منه البلدان، وصحيح كذلك أن مصلحة البلدين تتمثل في تجنب أي توتر من هذا القبيل. كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا أن مالي ستكون هي الخاسر الأكبر، فموريتانيا لديها الكثير من أوراق الضغط على حاكم مالي، ومن تلك الأوراق دعم الحركات المسلحة في مالي والاعتراف ببعضها، وغلق الحدود في وجه البضائع القادمة إلى مالي من ميناء نواكشوط، وطرد آلاف العمال الماليين ..إلخ.
إن القول بأن حاكم مالي هو من يحاول توتير الأوضاع، هو قول لا يستقيم منطقيا، وذلك لأنه لا مصلحة واضحة له في فتح جبهة صراع جديدة مع موريتانيا.
الفرضية السادسة : افتعال أزمة خارجية من أجل الخروج من أزمة داخلية
هناك فرضية معقولة جدا، وهي أنه عندما تتعقد الأمور في الداخل على رئيس دولة ما، فإنه قد يفكر في هذه الحالة في خلق أزمة خارجية لإشغال المواطنين عن مشاكلهم وأزماتهم الداخلية. نعم هذه فرضية منطقية، ويمكن أن ندفع بها لتفسير التصعيد في مالي، ولكن مشكلتها هي أن الأحوال في مالي ومع الإعتراف بسوئها حاليا، إلا أنها لم تزدد سوءا أكثر مما كانت عليه عند حصول الانقلاب، بل على العكس من ذلك فحصار مجموعة غرب إفريقيا لمالي بدأ يخف، وعقوبات الاتحاد الإفريقي بدأت تتراخى، ودول الجوار شهد بعضها انقلابات تحالف أصحابها مع حاكم مالي، وبدؤوا يشكلون حلفا، ولذا فإن هذه الفرضية غير مقنعة ـ على الأقل ـ في الوقت الحالي.
الفرضية السابعة : ومن الحماقة ما قتل
قد نقبل بفرضية تقول بأن حاكم مالي هو من يقف بالفعل وراء توتير الأوضاع على حدودنا الشرقية، ولكننا لن نقبل بهذه الفرضية إلا إذا افترضنا أيضا أن حاكم مالي يعاني من مستوى من الجهل والحماقة قد يدفعان به إلى اتخاذ خطوات غير محسوبة، وغير مدروسة، وأن يتصرف تصرفات غبية وحمقى، قد تجلب له من الضرر ما لا طاقة له به، وبهذا نفسر ما يقوم به حاليا من تصعيد ضد موريتانيا.
سآخذ ـ مؤقتا ـ بهذا الفرضية السابعة، وسأظل متمسكا بها، وحتى إشعار جديد.
ويبقى أن أقول ختاما إن بعض هذه الفرضيات المبينة أعلاه يُظهر العديد من نقاط القوة التي تمتلكها موريتانيا، والتي عليها أن تستغلها أحسن استغلال. وبخصوص التصعيد المالي، فعلى موريتانيا أن تظهر المزيد من الحزم، وأن تصعد ضد حاكم مالي حتى يرتدع، ويجب أن يتم ذلك التصعيد في إطار محدد يُجنب البلدين الدخول في صدام مسلح سيتضرر منه الجميع.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق