تمر المعارضة في هذه
الأيام، بأيام عصيبة، لم تتعامل معها بحكمة، مما جعلها تدفع فاتورة الحماقة التي
ارتكبتها "إيرا" يوم الجمعة، تدفعها من رصيدها، ومن سمعتها، ومن شعبيتها
التي التفت حولها في الأشهر الأخيرة، بعد أن تعددت أخطاء النظام الحاكم وتنوعت،
حتى شملت كل مجالات الحياة، وكل فئات المجتمع.
وما تعيشه المعارضة
في هذه الأيام، كان يمكن تفاديه، حتى وإن كان قد جاء نتيجة لسلسلة من الأخطاء المتراكمة
التي ارتكبتها هذه المعارضة في أوقات سابقة.
ولعل من بين تلك
الأخطاء، ذلك المظهر البائس الذي ظهر به قادة المعارضة قبيل مسيرة "نريد رحيل
عزيز"، حيث ظهروا وهم يستعطفون رئيس
"إيرا" لكي يشارك معهم في المسيرة، وظل رئيس "إيرا" يرفض
المشاركة في المسيرة، حتى آخر لحظة، ليعلن ـ بعد ذلك ـ أنه قرر المشاركة في
المسيرة، بعد أن زال الكثير من تحفاظته على المنسقية، وبعد أن وقعت معه المنسقية
وثيقة تفاهم، أو شيئا من ذلك القبيل.
ولم يكن توسل
المعارضة، في ذلك الوقت، لقائد المبادرة
الانعتاقية مبررا، خاصة وأنه كان قد أعلن عن مجلسه الانتقالي دون مشورة مع تلك
المعارضة. هذا فضلا على أن خطاب هذه المبادرة كان خطابا صادما ومنفرا للكثير من
الموريتانيين، وكان من الواضح بأنه سيبعد عن المعارضة عددا كثيرا من الموريتانيين،
يفوق بأضعاف العدد الذي سيستقطبه لها ذلك الخطاب المتطرف.
وكان واضحا للجميع،
باستثناء قادة المعارضة طبعا بأن "إيرا" لن تعمر طويلا، وأنها ليست إلا
ظاهرة صوتية عابرة، وأنها ستشكل في المستقبل القريب عبئا كبيرا لحلفائها، حتى وإن
حققت لهم مكاسب آنية هزيلة.
كان ذلك واضحا، لكل السذج
من أمثالي، وإن كنا لم نكن نعتقد بأن نهاية "إيرا" ستكون بهذه السرعة،
ومن خلال ارتكاب تلك الحماقة البشعة التي شاهدناها يوم الجمعة الماضي.
وحدث ما حدث، وكان
بإمكان المعارضة أن تستغله لصالحها، لو أنها فكرت قليلا، وتصرفت بسرعة لإرباك
خصمها السياسي، ولمنعه من استغلال حماقة "إيرا" للتخفيف من حدة الغضب
الشعبي الذي كان يواجهه.
ولقد كان واضحا ـ
للسذج من أمثالي ـ بأن النظام قد بدأ فعلا،
ومنذ أول لحظة باستغلال تلك الحماقة التي تم ارتكابها في وقت "مثالي"،
وكأن من ارتكبها لم يرتكبها إلا لإنقاذ النظام الحاكم.
كان ذلك واضحا، ومنذ
أول لحظة، ولكن مصيبتنا أن معارضتنا بلا خيال سياسي، وردود أفعالها بطيئة، وهي تظهر
في كثير من الأحيان غباء سياسيا زائدا، يفوق ـ وبكثير ـ غباء النظام الذي تريد
إسقاطه.
لنتصور المشهد الافتراضي
التالي:
منسقية المعارضة تدعو
على تمام الساعة الثالثة ظهرا، ـ وعلى وجه الاستعجال ـ لاجتماع طارئ للرؤساء، وذلك
لتدارس أفضل السبل لمنع النظام الحاكم من استغلال جريمة حرق الكتب الفقهية للتخفيف
من حدة الغضب الشعبي المتنامي ضده.
الساعة السادسة مساءً:
المنسقية تقرر أن تترك اجتماعها مفتوحا، وتصدر بيانا حادا تعلن فيه عن تنظيم
مظاهرة غاضبة يوم السبت، وستنطلق تلك المظاهرة ـ والتي سترفع فيها نسخ من الكتب التي تم حرقها ـ
من الساحة التي تم فيها إحراق الكتب، متوجهة إلى القصر الرئاسي لمطالبه هذا النظام
الذي أحرقت في عهده الكتب الفقهية بالرحيل، لأنه فقد أي أهلية للبقاء بعد أن أرتكب
في عهده ما لا يمكن أن يرتكب حتى في الدول المعادية علنا للإسلام.
ولا بأس أن تذكر المنسقية
في بيانها بأن تجرأ بعض الجهلة على إحراق الكتب الفقهية، إنما جاء نتيجة للجو
العام المعادي للكتب وللعلم الذي أظهره هذا النظام منذ مجيئه، حيث سارع منذ قدومه
إلى إغلاق دور الكتب، وتعطيل جائزة شنقيط، وحرمان "نواكشوط" من أن تكون
عاصمة للثقافة الإسلامية، هذا فضلا عن التهجم المباشر على العلوم الإنسانية، وعلى
اعتبار مأساة موريتانيا تعود إلى أنها بلد المليون شاعر.
الساعة الثامنة مساء:
يصدر حزب "تواصل" بيانا حادا يستغرب فيه صمت الأصوات التي عُرفت بالدفاع
عن المذهب المالكي، وعن مختصر خليل. أين هي الآن؟ وأين اختفت في هذه اللحظات
الأليمة التي تحرق فيها كتب المذهب أمام سلطة لا تفعل شيئا للحيلولة دون ارتكاب
تلك الفاجعة؟ وأين هي بيانات الحزب الحاكم النارية؟
مساء السبت: تنطلق من
الرياض مسيرة حاشدة للمعارضة يشارك فيها آلاف الموريتانيين الغاضبين، والذين لم
يعارضوا من قبل.
تصوروا لو أن شيئا من
ذلك حدث، ألم يكن ذلك سيؤدي إلى ارتباك النظام؟ ألم يكن ذلك سيعجل من رحيل النظام؟
قد يقول بعض المعارضين
بأنه لا يمكن اتخاذ قرارات بهذا الحجم، وبتلك السرعة؟
أقول: كيف تمكن
النظام الحاكم من اتخاذ قرارات سريعة بتلك السرعة، استغل فيها هذه الجريمة
الاستغلال "الأمثل"؟
أليست السلطة في
العادة هي من تعرف ببطء ردود الأفعال، وبعدم القدرة على اتخاذ القرارات السريعة
عكس المعارضة؟ فلماذا في بلدنا تبدو الأمور مقلوبة؟
كم هو مخجل أن يصدر
الحزب الحاكم بيانين في أقل من يومين، ويستغرب في أولهما غياب ردود أفعال المعارضة
ضد تلك الجريمة الشنيعة.
وكم هو مخجل أن تختار
المعارضة أن تقف في وجه غضب شعبي عارم، بدلا من أن تفكر في استغلاله وترشيده
وتوجيهه لصالح مطالبها المشروعة.
لقد كان حزب
"حاتم" هو الحزب المعارض الأكثر
سرعة في إصدار بيان، ورغم ذلك فقد جاء بيانه متأخرا، كما أن بيانه كان البيان
المعارض الأكثر جرأة، ومع ذلك فلم تكن جرأته بمستوى الحدث.
لقد اختارت المعارضة
أن تكون ردود أفعالها على هذه الجريمة النكراء، بتلك الطريقة الباهتة والمرتبكة
والتي خدمت النظام كثيرا.
فما معنى أن يذكر أحد
الأحزاب المعارضة، في بيانه الهادئ، وفي مثل هذا الوقت، بأن كتب المذهب المالكي
ليست إلا اجتهادات بشرية، وأنها لا تخلو من أخطاء؟
من المؤكد بأنه من
الضروري أن نذكر الناس بذلك، ولكن أن نذكرهم به في مثل هذا الوقت الذي تحرق فيه
كتب المذهب، فإن ذلك قد يبدو غريبا، ومثيرا للاستفزاز، وسيكون حتما مثار استغراب
لعامة الناس .
إنه ليس من الحكمة
ولا من الرشد أن تترك أحزاب المعارضة، أي ثغرة، في مثل هذا الوقت، قد تجعل أي
مواطن يشعر بأن المعارضة ليس غاضبة غضبا لم تغضب مثله من قبل بسبب ما حدث في
الرياض يوم الجمعة الماضي.
وإنه ليس من الحكمة
أن تتحدث المعارضة في مثل هذه الأيام عن الأسعار، أو عن الاستبداد، أو عن أي شيء
آخر، لأن المواطن في هذه الأيام لا يهمه أي حديث، غير الحديث عن جريمة حرق الكتب
الفقهية.
ختاما : لقد اغتالت
المعارضة فرصة أخرى كان يمكن استغلالها للتعجيل بإسقاط النظام الحاكم، بل إنها ـ
على العكس ـ حولتها ببلادتها السياسية المعهودة إلى فرصة استغلها النظام ـ وبمنتهى
الذكاء ـ ليطيل من بقائه.
ورغم أن المعارضة لم
يعد بإمكانها أن تستغل الفرصة إلا أنه لا يزال بإمكانها أن تخفف من خسارتها، بإعلان يوم الجمعة القادم، يوما للغضب للمذهب
المالكي، تطلق فيها مسيرات متزامنة في كل ولايات الوطن، وترفع فيها نسخ من الكتب
التي تم حرقها، خاصة في مسيرة العاصمة التي يجب أن يقودها رؤساء أحزاب المعارضة، ومن
المستحسن أن تنطلق مسيرة العاصمة يوم الجمعة القادم، من الساحة التي تم فيها حرق
الكتب وفي نفس التوقيت.
تصبحون على معارضة غير
مرتبكة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق