لقد تعودنا في هذه البلاد، ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، أن تُصْدِر المعارضة الموريتانية بعد كل استحقاق انتخابي العديد من البيانات والتصريحات التي تؤكد فيها أن الانتخابات شهدت عمليات تزوير غير مسبوقة. لم تخرج المعارضة عن المألوف في هذه المرة، فسارعت من جديد لإصدار بيانات تندد من خلالها بالتزوير غير المسبوق الذي شهدته انتخابات 13 مايو. الجديد في هذه الانتخابات هو أن أحزاب الأغلبية باستثناء حزب الإنصاف أصدرت هي الأخرى بيانات تندد فيها بتزوير الانتخابات، ولم تكن بياناتها بأقل حدة من بيانات أحزاب المعارضة. ولعل أغرب ما في الأمر هو أن حزب الإنصاف لم يسلم هو الآخر من موجة التنديد بما حصل من تزوير أو أخطاء، وقد كانت البداية مع رئيس البرلمان السابق، واتسع الأمر بعد ذلك ليصل إلى رئيس حزب الإنصاف والذي تحدث عن مضايقات اللجنة لممثلي حزبه في بعض المكاتب.
بِمَ نفسر هذا الاستياء العارم من عمل اللجنة؟
إن إجماع الطيف السياسي بمعارضته وأغلبيته وبما فيها حزب الإنصاف، على تقصير اللجنة المستقلة للانتخابات بلغة سياسية، أو ممارستها للتزوير الواسع بلغة سياسية أخرى، ليؤكد أننا أمام لجنة انتخابية فريدة من نوعها، وهي إما أن تكون صارمة في تنفيذ القانون، وبذلك فقد تضرر منها الجميع في الأغلبية والمعارضة، وتلك فرضية يمكن أن نفسر من خلالها السيل العارم من التنديد والتظلم الذي جاء من مختلف الطيف السياسي، وإما أن تكون قد بلغت من الفشل والارتباك مستويات غير مسبوقة أدت إلى تضرر الجميع، وبما في ذلك الحزب الحاكم الذي ظل خلال العقود الماضية محصنا ضد أي ظلم يأتي من لجنة الانتخابات، وهذه فرضية ثانية يمكن أن نفسر بها ذلك السيل العارم من التنديدات.
وربما تكون هناك فرضية ثالثة قد يدفع بها بعض المعارضين وهي أن الأخطاء التي يتحدث عنها حزب الإنصاف الذي تتهمه بعض الأطراف الأخرى بأنه شريك اللجنة في التزوير ما هي إلا مجرد حركة تمثيلية يسعى الحزب من ورائها إلى دفع شبهة التزوير عنه.
مقارنة بين لجنتين انتخابيتين
لا خلاف على أن الظرف السياسي الذي نظمت فيه اللجنة الحالية انتخابات مايو 2023 يختلف تماما عن الظرف السياسي الذي نظمت فيه اللجنة السابقة انتخابات سبتمبر 2018، ومع ذلك فهناك من يرى بأن أداء اللجنة السابقة كان أفضل بكثير من أداء اللجنة الحالية، وذلك على الرغم من النواقص الكثيرة المسجلة في انتخابات 2018.
وهذه بعض أوجه المقارنة بين اللجنتين:
1 ـ اللجنة السابقة لم تكن توافقية، وهذه اللجنة الحالية توافقية وكل الطيف السياسي تم تمثيله فيها؛
2 ـ اللجنة السابقة كانت ميزانيتها أقل بكثير من ميزانية اللجنة الحالية؛
3 ـ اللجنة السابقة نظمت انتخابات شارك فيها ما يقارب 100 حزب سياسي بينما اللجنة الحالية نظمت انتخابات شارك فيها 25 حزبا فقط. الجديد بالنسبة للجنة الحالية هو أن هناك لائحة إضافية خاصة بالشباب؛
4 ـ اللجنة السابقة نظمت انتخابات في جو مشحون وفي ظل صدام قوي بين النظام والمعارضة، واللجنة الحالية نظمت انتخابات في ظل تهدئة غير مسبوقة بين النظام والمعارضة.
كل المؤشرات كانت لصالح اللجنة الحالية، ومع ذلك فقد كان عمل اللجنة السابقة أقل ارتباكا، وأكثر إقناعا رغم ما تضمن من أخطاء كبيرة.
من يتحمل المسؤولية؟
تُحاول المعارضة أن تحمل أخطاء اللجنة المستقلة للانتخابات للنظام، والحقيقة أن أخطاء اللجنة المستقلة للانتخابات يتحملها الجميع من معارضة وأغلبية، وإن بدرجات غير متساوية، وذلك لكونها قد تشكلت في ظل أجواء توافقية، وقد مُثلت فيها كل الأطراف السياسية.
المؤسف في هذا الأمر هو أن كل الأحزاب السياسية قدمت مقترحات لم تبحث فيها عن الكفاءة، بل بحثت فيها عن الولاء لها فقط.
نقطة مضيئة ..نقطة مظلمة
تبقى النقطة الأكثر إضاءة في عمل اللجنة الحالية هي المنصة الالكترونية التي استحدثتها، والتي كانت تنشر النتائج أولا بأول وبشكل مبسط، مكن الجميع من متابعة النتائج بيسر وسهولة، قد يكون هناك تأخر في ظهور النتائج على تلك المنصة، ولكن تلك ليست مشكلة القائمين على المنصة، وإنما هي مشكلة المكاتب. ربما تكون الملاحظة الوحيدة هو أن المنصة كان بإمكانها أن تخصص خانة تنشر فيها عدد النواب المؤقت الذي يقابل مجموع عدد المصوتين الذي حصل عليه كل حزب...عموما كانت هذه المنصة نقطة مضيئة في عمل اللجنة، أما النقطة المظلمة فتتمثل في الستائر التي ظهرت في المكاتب، والتي تعكس نوعا من عدم الجدية في العملية الانتخابية، فقد كان من المفروض أن تقتني اللجنة ستائر عصرية بها قضبان حديدية، كالتي تستخدم في العديد من البلدان، أو على الأقل أن توحد شكل ومقاس القماش المستخدم في مكاتبها.
وتكرر تصدر البطاقة اللاغية للنتائج
تعودنا مع كل انتخابات جديدة أن تتصدر البطاقة اللاغية النتائج، وأن تحتل المرتبة الثانية على الأقل، بعد الحزب الحاكم. وقد تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي نتائج مكتب كان عدد المصوتين فيه 108، وحصدت فيه البطاقة اللاغية 102، أي نسبة 94% من المصوتين.
ستستمر البطاقة اللاغية في تصدر النتائج، وذلك نظرا لتعقيد عملية التصويت ولانتشار الأمية في صفوف الناخبين، ولن يكون بالإمكان التغلب على تصدر البطاقة اللاغية للنتائج إلا إذا أخذنا بمقترح سأعرضه في خاتمة هذه القراءة التحليلية مع مقترحات أخرى.
هل هناك من يريد انتخابات شفافة؟
للأسف فإن أغلبية المشتغلين بالسياسة لا يريدون انتخابات شفافة، وهناك سؤال يجب علينا أن نطرحه بكل شجاعة : هل يمكن أن نعتبر في مجال الانتخابات بأن الغاية تبرر الوسيلة؟
بمعنى: إذا اعتقدتُ أنا مثلا أن بإمكاني أن أخدم المواطن عند وصولي إلى البرلمان، فهل هذا يجيز لي أن ألجأ إلى قبيلتي وأن أمارس ترحيل الناخبين لتحقيق غايتي النبيلة هذه؟
لنطرح هذا السؤال بصيغة أخرى : هل الأفضل هو أن أمارس هذه المسلكيات الخاطئة وأجذرها بالتالي وأرسخها في ممارستنا الديمقراطية، وذلك من أجل تحقيق غاية نبيلة وهي خدمة المواطن من داخل البرلمان أم الأفضل أن أتجنب ممارستها نهائيا مما قد يحول دون وصولي إلى البرلمان، وحرماني بالتالي من خدمة المواطن من داخل البرلمان؟
للأسف الشديد فإن أغلب المترشحين يمارسون هذه المسلكيات الخاطئة، والفرق هو فقط في مستوى الممارسة.
فالمرشح القادم من الحزب المحسوب على الدولة أو المرشح صاحب الأموال الطائلة يمارس هذه المسلكيات بشكل واسع، والمرشح القادم من خارج دائرة النظام يمارس هذه المسلكيات بشكل محدود جدا.. الفرق هنا هو كالفرق بين الموظف الكبير الذي يسرق أموالا طائلة من أموال الشعب والسارق الصغير الذي لا يجد إلا قنينة غاز أو هاتفا ليسرقه.
يتساوى السارقان في ارتكاب جريمة السرقة، حتى وإن اختلفا في حجم وقيمة المسروقات، تماما كما يتساوى بعض المترشحين في ترحيل الناخبين وفي توظيف القبيلة في العملية السياسية، والفرق هنا يختلف فقط في حجم التوظيف، فالمرشح القادم من النظام يمتلك نفوذا كبيرا وأموالا طائلة لترحيل أكبر عدد من الناخبين ولشراء الكثير من الأصوات بينما لا يملك المرشح خارج دائرة النظام إلا إمكانيات قليلة قد لا ترحل له إلا القليل من الأصوات، وقد لا تسمح له بتوظيف القبيلة إلا في مجالات محدودة جدا، ولكن في النهاية فكلا المرشحين يشارك في ترحيل الأصوات وفي إدخال القبيلة في العملية الانتخابية، حتى وإن كان ذلك بمستويات متباينة.
حضر الشباب...غاب الشباب
تميزت هذه الانتخابات عن غيرها من الانتخابات بوجود لائحة شبابية، وقد شكل وجود هذه اللائحة إضافة نوعية ولفتة سياسية مهمة نحو الشباب، ولكن المفاجأة هي أن وجود لوائح شبابية لم ينعكس إيجابا على الحملات الانتخابية، بل يمكن القول بأن حملات اللوائح الشبابية كانت تقليدية أكثر من حملات اللوائح الأخرى.
غياب أي بصمة شبابية في الحملة الانتخابية نرجو له أن لا يمتد إلى العمل البرلماني فتغيب أي بصمة شبابية في أداء البرلمان القادم، وذلك على الرغم من وجود 10 نواب شباب لأول مرة في تاريخ البرلمان الموريتاني.
وتستحق النتائج قراءة خاصة
من المؤكد أن نتائج هذه الانتخابات ستفرز خريطة سياسية جديدة، ومن المؤكد كذلك أن الموت الانتخابي لأهم أحزاب المعارضة التقليدية سيؤدي حتما إلى موتها سياسيا، أما بالنسبة للموالاة فإن ظاهرة مغاضبي حزب الإنصاف قد أدت إلى بعث بعض الأحزاب في الأغلبية من مرقدها، وذلك بعد أن كانت قد دخلت في عداد الأموات. لقد أدت هذه الانتخابات إلى موت بعض أحزاب المعارضة وبعث بعض الأحزاب في الأغلبية كانت في عداد الأموات وتستحق هذه الظاهرة أن يتم الحديث عنها بشكل معمق من خلال قراءة أخرى في مقال آخر قد لا أجد وقتا لكتابته.
مقترحات
1 ـ من المهم أن تُسحب من الأحزاب السياسية صلاحية اختيار حكماء اللجنة المستقلة للانتخابات، ومن المهم التفكير مستقبلا في آلية أخرى لتشكيل لجنة انتخابات فنية تضم خبراء من أهل الكفاءة والاختصاص لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالأحزاب السياسية؛
2 ـ للتغلب على تصدر البطاقة اللاغية لنتائج الانتخابات لابد من فرض بطاقة التصويت الحزبية الموحدة. لقد تم التمكن من إبعاد المستقلين من الترشح رغم ما في ذلك من سلب لحقوقهم، وقد آن الأوان لفرض البطاقة الحزبية الموحدة، حتى وإن تضررت الأحزاب الصغيرة، وقد يكون من المناسب تقديم مقترح بذلك من داخل البرلمان مع بداية المأمورية الحالية، ويمكن لحزبي الإنصاف وتواصل أن يقدما مقترحا مشتركا بخصوص البطاقة الموحدة، ومما لا شك فيه أن الحزبين سيستفيدان من ذلك المقترح؛
3 ـ من الضروري كذلك إصدار ميثاق شرف انتخابي يوقعه كل المترشحين من قبل أي عملية انتخابية، وقد أعددت مسودة نسخة من هذا الميثاق، وعرضتها على المنافسين في دائرتي الانتخابية، ولكن لم يوقعها أي واحد منهم، وكان لابد لي من الالتزام ببنودها مما جعلني أفقد الكثير من الأصوات التي كان من السهل الحصول عليها، وأدفع بذلك كلفة انتخابية كبيرة لم يدفعها بقية المنافسين.
وتبقى كلمة خاصة
شكرا لكل من دعمني في هذه الانتخابات، وشكرا لكل من صوت لي، وكل التفهم لمن لم يصوت لي. لقد نافستُ بشرف رغم كل التحديات، ولقد حاولت أن تكون حملتي مميزة، ورفضت أن أمارس فيها بعض المسلكيات الخاطئة التي عمت بها البلوى، وهو الشيء الذي جعلني أخسر أصواتا كثيرة. لستُ نادما على ذلك، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ فلن أغير أسلوب حملتي الانتخابية.
إني أومن ـ ولله الحمد ـ بأن الخير فيما اختار الله، وأن في عدم دخولي للبرلمان الكثير من الخير حتى وإن عجز عقلي القاصر عن إدراكه.
الحمد لله أولا وأخيرا، وسيبقى الخيرـ كل الخير ـ فيما اختار الله.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق