(1)
التفت إلي في أول يوم من شهر أغسطس من العام 2021 وسألني بنبرة حادة: أين
المعارضة؟
لم يكن مني إلا أن التفتُ إليه وسألته بنفس النبرة الحادة : وأين كنتَ
أنتَ في أول يوم من سبتمبر 2018 (الانتخابات التشريعية )، وأين كنتَ يوم 22 يونيو
2019( الانتخابات الرئاسية)؟
كثيرا ما أسمع هذا السؤال يطرح وبصيغ
متعددة من أشخاص لا يحق لهم أن يطرحوه أصلا ، وذلك لسبب بسيط جدا وهو أنهم لم
يقوموا في أي يوم من الأيام بواجبهم اتجاه المعارضة، ولذا فلا يجوز لهم اليوم أن
يطالبوا المعارضة بالاحتجاج باسمهم، ولا يجوز لهم أن ينتقدوها إن هي غيرت من
أساليبها في إيصال مطالب المواطنين إلى السلطة الحاكمة.
من أراد حقا من حقوقه، فعليه من قبل ذلك أن يؤدي واجبه.
- ناضل الأستاذ محفوظ
ولد بتاح خلال العشرية ومن قبلها، ومع ذلك رفضتم ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة
ـ منحه مقعد نائب في البرلمان الموريتاني؛
- خاطر الرئيس صالح ولد حننا بحياته في زمن معاوية، وناضل خلال العشرية،
ومع ذلك فقد رفضتم ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة ـ أن توصلوه للبرلمان في
انتخابات 2018؛
- قاطع حزبا التكتل
واتحاد قوى التقدم انتخابات 2013 تماشيا مع المزاج المعارض، وكبدتهما تلك المقاطعة
خسائر كبيرة، ولما رشحا معاً الدكتور محمد ولد مولود في الانتخابات الرئاسية
الماضية، لم تمنحوه ـ يا من تسألون الآن أين المعارضة ـ 3 % من أصواتكم.
إن أغلب الذين يسألون الآن أين المعارضة، هم أنفسهم الذين كانوا يصفونها
في السنوات الماضية بأبشع الأوصاف وأسوئها، أما أن يشاركوا في أنشطتها، أو يصوتوا
لها، فذلك أمر غير متوقع أصلا.
للمعارضة أخطاء كثيرة وقد تحدثتُ عن تلك الأخطاء في أكثر من مناسبة، لا
خلاف على ذلك، ولكن لا خلاف أيضا على أن "أنصاف المناضلين" الذين لا
يقومون بواجبهم اتجاه الوطن ومع ذلك يبالغون في المطالبة بحقوقهم، لا خلاف على أن
مثل هؤلاء لا يحق لهم اليوم أن يسألوا : أين المعارضة؟
إن هذه الطائفة من المواطنين التي تعودت على نعت المعارضة بأسوأ الأوصاف،
وعلى التصويت ضدها في المواسم الانتخابية طلبا لمال أو جاه أو انتصارا لابن
القبيلة أو الجهة، لا يحق لها أن تسأل اليوم : أين المعارضة؟
(2)
هناك طائفة أخرى وهي قلة قليلة جدا يحق لها أن تسأل اليوم: أين المعارضة،
وذلك لأنها أدت حق المعارضة من خلال المشاركة في أنشطتها والتصويت لمرشحيها..هذه
الطائفة من حقها أن تسأل وأن تُحاسب المعارضة، ومن واجب المعارضة أن تجيب على
أسئلتها، وأداءً لهذا الواجب، فإليكم هذه النقاط السريعة:
1ـ التغيير ليس في الأصل صفة مذمومة، بل المذموم هو عدم التغيير، فما دام
الزمن يتحرك، وما دام كل شيء من حولنا يتغير، فهذا يستدعي منا نحن أيضا أن نتغير؛
2
ـ التغيير المذموم هو تغيير المبادئ أو التخلي عنها، والتغيير المطلوب والذي يعتبر
ضروريا هو تغيير الوسائل والأساليب لتحقيق تلك المبادئ، كلما كانت هناك حاجة
لتغيير تلك الوسائل والأساليب؛
3
ـ إن المواقف السياسية يجب أن تحكمها المصلحة العامة لا المصلحة الخاصة، ويجب أن
تدور هذه المواقف مع المصلحة العامة، فإذا اقتضت تلك المصلحة من المعارضة أن
تُعارض بحدة فلتعارض بحدة، وإن اقتضت منها تلك المصلحة أن تهادن في معارضتها فلتهادن؛
4
ـ إن تغيير المواقف السياسية يكون مذموما إذا كان سببه هو السعي إلى تحقيق مصلحة
خاصة أو ضيقة، ويكون هذا التغير مطلوبا، بل وعملا نضاليا نبيلا، إذا كان سببه
السعي لتحقيق مصلحة عامة؛
5
ـ النظام الحاكم هو الذي يحدد في العادة طبيعة معارضته وأساليب نضالها، فالنظام
السابق مثلا كان يميل إلى الصدام مع المعارضة وعلى عدم اعتبارها شريكا سياسيا،
ولذا فلم يكن أمامها غير الصدام والاحتجاج ومقارعة النظام بحدة. في ظل النظام
الحالي فإن الأمر مختلف جدا، فهذا النظام يميل إلى التهدئة، وإلى التعامل مع
المعارضة بوصفها شريكا سياسيا حتى وإن كان هناك اختلاف في الرؤى والأفكار.
فأي مصلحة سيجنيها الوطن والمواطن إذا ما تعاملت المعارضة مع النظام
القائم حاليا بنفس أسلوب الصدام الذي كانت تتعامل به مع النظام السابق؟ ثم هل يمكن
للمعارضة بقدراتها الحالية أن تُحَرك الشارع؟ وهل النزول إلى الشارع هو الأسلم في
ظل هذه الجائحة التي تهدد العالم كله؟
6
ـ قد يطرح البعض هذا السؤال : هل حققت
المعارضة بعض مطالب المواطنين من خلال الوسائل غير الاحتجاجية التي تتبعها الآن؟ من
قبل أن أجيب على هذا السؤال سأطرح سؤالا آخر : وهل تضمن الاحتجاجات تحقيق تلك
المطالب...فعلى سبيل المثال قادت المعارضة الموريتانية احتجاجات كبيرة ضد تغيير
العلم القديم والذي كان يتمسك به جل الموريتانيين إن لم أقل كل الموريتانيين، وتعرض
كبار قادتها للضرب والتنكيل وكل أشكال المعاملة السيئة خلال تلك الاحتجاجات
الرافضة لتغيير العلم الوطني. كذلك قادت المعارضة وبعض الشيوخ المحسوبين على
الأغلبية احتجاجات قوية ضد إلغاء مجلس الشيوخ...السؤال المطروح الآن : أين هو
العلم القديم وأين هو مجلس الشيوخ؟
نعم لقد حققت المعارضة خلال السنتين الماضيتين ـ ودون أن تحتج ـ بعض
مطالبها التي لم تستطع أن تحققها خلال عقد كامل من الاحتجاج، وكمثال على ذلك فيمكن
أن نذكر محكمة العدل السامية وهي هيئة دستورية ظلت مغيبة خلال السنوات الماضية؛
كما يمكن أن نذكر مثلا قانون الجنسية الذي تمكن نواب المعارضة من تعديله،
وقانون حماية الرموز الذي تمكنوا من تأجيل نقاشه ...حدث ذلك دون أن تحتاج المعارضة
لتنظيم احتجاجات سيغيب عنها ـ وبكل تأكيد ـ 90% من الذين ينتقدون اليوم المعارضة على أنها لم تحتج.
كان بإمكان النظام القائم أن يرفض تشكيل محكمة العدل السامية، وأن يرفض
أي تغيير في قانون الجنسية، وأن يرفض كذلك تأجيل نقاش قانون حماية الرموز، فمن
المعروف أن لديه أغلبية برلمانية تمكنه من فرض كل ذلك، ولكن، ولكون هذا النظام
يستمع لبعض مطالب المعارضة، فقد تمت الاستجابة لتلك المطالب، ودون أن تحتاج
المعارضة للنزول إلى الشارع؛
(3)
أمام المعارضة الموريتانية فرصة ثمينة لأن تحقق العديد من مطالبها التي
لم تستطع تحقيقها بعد عدة عقود من الاحتجاج والصدام مع الأنظمة الحاكمة..هناك فرصة
ثمينة سيمنحها الحوار أو التشاور القادم، والذي قبل به النظام القائم دون أن تكون
هناك أزمة سياسية أو ضغط احتجاجي يفرض عليه القبول به، الشيء الذي يعني أن هناك
جدية لدى النظام للاستماع إلى المعارضة، وإلى التشاور معها في القضايا الوطنية
الكبرى.
نعم هناك فرصة حقيقية أمام المعارضة الموريتانية، والمصلحة العليا للبلد
تستدعي استغلال هذه الفرصة. أما السؤال عن المعارضة ودعوتها للاحتجاج بعد عقد كامل
من الاحتجاج الذي لم يأت بنتيجة تذكر، وجرها ـ بالتالي ـ إلى الصدام مع نظام أثبت أنه يسعى بالفعل إلى
التهدئة وإلى التشاور معها في جو سياسي
هادئ. أما مثل ذلك فلن يكون إلا مجرد دعوات صبيانية لا تخدم المصلحة العليا للبلد،
والمؤكد أن الذين يدعون إلى ذلك سيتغيب أكثرهم عن الاحتجاجات التي يدعون إليها،
إذا ما تم تنظيم تلك الاحتجاجات.
حفظ الله موريتانيا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق