بدءا ومن قبل أن أبسط الأسباب التي جعلتني أطرح هذا السؤال، فإنه قد يكون من المهم أن أتقدم بالإيضاحين التمهيديين التاليين:
أولهما: أن عدم التحمس الوارد في العنوان خاص فقط بالموقف الرسمي لحزب
تواصل، وبالقيادات التي تدير الحزب الآن. أما خارج الموقف الرسمي للحزب فيمكن
القول بأن أغلب قادة الحزب ومناضليه هم أقرب دائما إلى التهدئة والحوار مع الأنظمة الحاكمة، ويتأكد
الأمر أكثر مع الرئيس الحالي الذي أظهر ومنذ الإعلان عن ترشحه عن رغبة جدية في
التشاور والتهدئة مع الشركاء السياسيين؛
ثانيهما: أنه من الصعب جدا على أي حزب سياسي أن يُصرح علنا أنه ضد الحوار،
حتى ولو كان لا يريد فعلا أن يشارك في الحوار. من الصعب جدا على أي حزب سياسي أن
يُصرح بذلك، ولكن هناك جملة من المواقف والتصرفات التي إن تم اتخاذها من طرف حزب
معين، فإنها تكفي للقول بأن ذلك الحزب غير متحمس للتهدئة والحوار.
دعونا الآن نأخذ بعض المقارنات السريعة بين مواقف الحزب وردات فعله بعد
الإعلان عن فوز الرئيس السابق في العام 2009، ومواقفه وردات فعله بعد الإعلان عن
فوز الرئيس الحالي في العام 2019.
لقد سارع الحزب إلى الاعتراف بنتائج انتخابات 2009 الرئاسية، والتي كان قد رشح فيها رئيسه، وسارع في موقف مناقض لذلك تماما
إلى عدم الاعتراف بنتائج انتخابات
2019 الرئاسية، والتي كان فيها الحزب مجرد داعم لأحد المترشحين، ولو أن المرشح
الذي دعمه الحزب في الانتخابات الرئاسية الماضية لم يقبل ضمنيا بالنتائج، ولو أنه
لم يهادن الرئيس المنتخب لما توقف الحزب عن تكرار التذكير بموقفه الرافض لنتائج رئاسيات 2019. وقد ذكر الرئيس السابق لحزب
تواصل في منشور له بأن توقيع الحزب على البيان الرافض للاعتراف بنتائج رئاسيات
2019 كان قد تم من دون تفويض من المكتب
التنفيذي للحزب، وحتى من دون علم المكتب أصلا.
بعد انتخابات 18 يوليو 2009 بثلاثة أشهر قرر الحزب وفي سابقة من نوعها في
تاريخ المعارضة الموريتانية، أن يتحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات تجديد ثلث
مجلس الشيوخ. هذا الحزب الذي سجل تلك السابقة في التعامل مع الأحزاب الحاكمة هو
نفسه الحزب الذي يرفض اليوم أن ينسق مع الأحزاب الممثلة في البرلمان لتهيئة
الأجواء لحوار أو تشاور وطني يشارك فيها الجميع ويناقش كل القضايا المطروحة.
انسحب حزب تواصل من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان بعد صدور بيان 14
مايو 2020، وهو بالمناسبة كان بيانا غير مسبوق في شكله ومحتواه، حتى وإن كان لم
يجد من التغطية الإعلامية ولا من التفاعل السياسي ما يستحق، فهذا البيان الذي وقعه
حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وأحزاب الأغلبية الممثلة في البرلمان تضمن عشر
نقاط تحدثت كلها، باستثناء نقطتين فقط، عن
بعض أوجه تقصير العمل الحكومي .
في النقطتين السادسة والسابعة من البيان تمت المطالبة بتخفيض الأسعار،
وقد جاء في النقطة السابعة وبالحرف الواحد : "تطالب (منسقية الأحزاب الممثلة
في البرلمان) الحكومة بتخفيض أسعار المحروقات، خاصة وأن أسعارها العالمية وصلت
أدنى مستوى لها منذ عقود". وبالمناسبة أيضا فهذا هو المطلب الرئيسي الذي كنا نرفعه
في حراك "ماني شاري كزوال" وذلك من قبل أن تتوقف أنشطة الحراك بشكل كامل
في العام 2018، ولأسباب لا يتسع المقام بسطها.
ولقد اخْتُتِم البيان بالفقرة التالية: "تأمل أحزاب الموالاة
والمعارضة الممثلة في البرلمان أن تُفضي خطوات التنسيق الحالي إلى الدخول في مرحلة
جديدة، تُمهد لنقاش القضايا الجوهرية للبلاد ووضع تصور لمعالجتها، وفق جدول زمني
متفق عليه."
كان من الواضح جدا من خاتمة البيان أن هناك رغبة جدية لدى الأحزاب الممثلة
في البرلمان في التنسيق فيما بينها لإطلاق مبادرة للتشاور أو الحوار تشارك في
التحضير لها كل الأحزاب الممثلة في البرلمان. هنا قرر حزب تواصل أن ينسحب من المنسقية مقدما إلى
الرأي العام حججا غير مقنعة، وبعد ذلك بأشهر، وتحديدا في يوم 26 نوفمبر 2020 أعلن الحزب عن رؤيته الخاصة للحوار، وذلك من خلال
إصدار وثيقة تحت عنوان :" رؤيتنا للإصلاح ..من أجل حل توافقي" .
أن يرفض حزب تواصل التنسيق مع أحزاب معارضة وموالية في مبادرة مشتركة
للحوار تشارك كل الأحزاب الممثلة في البرلمان في كل مراحل التحضير لها مما يجعلها مبادرة
غير محسوبة لأي جهة سياسية، أن يرفض الحزب أن يشارك في تلك المبادرة، ثم يطلق من
بعد ذلك مبادرته أو وثيقته الخاصة به فذلك يعني بلغة سياسية فصيحة وصريحة أن الحزب
لم يكن متحمسا للحوار ولا للتهدئة مع النظام الحاكم.
هناك أسباب كثيرة تجعل من الصعب جدا فهم هذا الموقف غير المتحمس للحزب من
التهدئة والحوار، ويمكن إجمال تلك الأسباب في النقاط التالية:
1 ـ لو أن العشرية الماضية كانت عشرية حوار وتهدئة سياسية بين المعارضة
والسلطة لقلنا إن حزب تواصل يريد أن يجرب في هذا العهد أسلوبا جديدا غير أسلوب
التهدئة الذي لم يعط نتيجة خلال العشرية الماضية. إننا نعلم جميعا أن العشرية
الماضية كانت عشرية صدام وتجاذب سياسي عنيف، وأن ذلك الصدام لم يأت بنتيجة تذكر
لصالح الوطن، ألا يكفي ذلك لأن يدفع بالأحزاب السياسية المعارضة لأن تجرب في هذا
العهد أسلوب التهدئة والحوار؟ أليس من المستغرب أن يكون الحزب المعروف بأنه كان هو
الحزب الأكثر ميلا للحوار والمشاركة من بين كل أحزاب المعارضة، هو الحزب الأقل
تحمسا اليوم للتهدئة والحوار؟
2 ـ لو كان حزب تواصل قد وجد
معاملة لائقة خلال العشرية الماضية لقلنا بأن عدم تحمس الحزب للحوار والتهدئة مع
النظام الحالي هو أمرٌ مبرر، ولكن العكس هو الصحيح، فحزب تواصل كان قد لاقى معاملة
قاسية في العهد السابق فَحُلت الجمعيات المحسوبة عليه، وتم توجيه التهم إليه في
أكثر من مؤتمر صحفي، ولما جاء الرئيس الحالي بدأ في تطبيع العلاقات مع الحزب ومع غيره من أحزاب المعارضة، فأعيدت بعض
تراخيص الجمعيات المحسوبة على الحزب، ومُنح لمؤسسة المعارضة التي يتزعمها الحزب المكانة
لبروتوكولية التي تستحقها، واستدعي أحد نواب الحزب للمشاركة في الوفد الرئاسي الذي
قدم التعازي للكويت بمناسبة وفاة أميرها السابق.
الواضح أن النظام الحالي يُحاول ـ وبجدية ـ أن يتعامل بشكل سوي وطبيعي مع
أحزاب المعارضة بما فيها حزب تواصل، ولذا فقد يكون من المستغرب جدا ـ إذا ما
تحدثنا من منطلق حزبي ضيق ـ أن لا يتحمس حزب تواصل للتهدئة والحوار في هذا العهد،
وأن يتخلف عن مبادرة للحوار تضم أحزابا موالية ومعارضة، وهو الذي كان قد عُرِف في
العهد السابق بتحمسه القوي للحوار والتهدئة، وبإنفراده من بين كل أحزاب منسقية
المعارضة بالمشاركة في انتخابات 2013 والتي قاطعتها كل أحزاب منسقية المعارضة.
3 ـ لو كانت تصرفات النظام الحالي توحي بعدم الرغبة في التهدئة والحوار
لكان ذلك يكفي كمبرر لعدم تحمس الحزب للتهدئة والحوار، ولكن كل ما ظهر حتى الآن
يوحي برغبة حقيقية لدى النظام في التهدئة والحوار، فخطاب الترشح، وخطابات الحملة
الانتخابية التي انتهت دون أي إساءة أو أي نقد جارح أو حتى نقد ناعم للمنافسين،
وما حدث بعد التنصيب من استقبالات متكررة لقادة المعارضة في القصر الرئاسي، وربما
كانت استقبالاتهم أكثر من استقبالات قادة الأغلبية ...كل هذا يؤكد أن هناك رغبة
جدية لدى فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في التهدئة والحوار، فلماذا لا
يتحمس حزب كتواصل لأن يقابل هذه الرغبة في التهدئة من النظام برغبة مماثلة من طرف
الحزب الذي عهدناه في الماضي هو أكثر أحزاب المعارضة رغبة في التهدئة والحوار مع
الأنظمة الحاكمة؟
طبعا لا يعني هذا أنه لا توجد أطراف في الأغلبية غير متحمسة للحوار، فمما
لا شك فيه أن هناك أطرافا في الأغلبية لا ترحب بالحوار، وهي ترى أن مصالحها الضيقة
ستتضرر كثيرا في ظل أجواء التهدئة والانفتاح على المعارضة. هذه الطائفة ستكون ـ
وبكل تأكيد ـ هي المستفيد الأول من موقف
حزب تواصل غير المتحمس للحوار.
4 ـ لو كانت قواعد حزب تواصل وجماهيره وأنصاره معروفة بالتطرف والحدة في
المواقف لكان عدم تحمس قيادة الحزب الحالية للتهدئة والحوار مفهوما، وذلك لأنها
تُعبر بموقف كهذا عن قواعد الحزب وعن مزاجه العام، ولكن، وعلى العكس من ذلك، فمن
المعروف أن أغلبية قواعد الحزب وأغلب قادته يُعرفون بالاعتدال وعدم الحدية في
المواقف، وهذا مما يصعب أكثر فهم الموقف غير المتحمس للحوار الذي تتبناه قيادة
الحزب الحالية.
5 ـ لو كان الوضع الإقليمي والدولي في أيامنا هذه مطمئنا لكان بالإمكان
تفهم الرغبة لدى هذا الحزب المعارض أو ذاك في عدم التحمس للحوار وفي زيادة مستوى
التصعيد والتجاذبات مع السلطة الحاكمة، ولكن، وكما هو معلوم، فإن الوضعية في مالي
وفي بقية دول الساحل مقلقة جدا، ومما يزيد من حجم القلق ما حدث مؤخرا من قطع
للعلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، وما قد ينجر عن ذلك من توترات في
المنطقة. في وضعية إقليمية صعبة كهذه، يكون من الصعب جدا فهم عدم تحمس حزب كتواصل
للتهدئة والحوار مع نظام لم يظهر منه حتى الآن إلا الرغبة الجدية في التهدئة
والحوار مع معارضيه.
لقد بات من الواضح جدا أن من يمتلكون اليوم صنع القرار في حزب تواصل ليسوا
متحمسين كثيرا للتهدئة والحوار مع السلطة الحالية لأسباب يصعب فهمها (ربما يكون
هذا الموقف هو من أجل استقطاب بعض جمهور المعارضة الذي لا يريد التهدئة، وهو جمهور
موجود وحيوي، تماما كما استقطب الحزب في العام 2013 بعض ناخبي المعارضة الذين لم
يرضوا بمقاطعة الأحزاب المعارضة للانتخابات...إن كان هذا هو السبب في عدم تحمس
الحزب للتهدئة والحوار فسنكون أمام بحث خال من أي بعد أخلاقي عن مصلحة حزبية ضيقة
على حساب المصلحة العليا للبلد، ثم إن الحزب بموقف كهذا سيخسر في النهاية لأن
الكثير من مناضليه وقادته لن يقبلوا بهذا الموقف).
إن عدم التحمس للحوار قد أوقع الحزب
ـ حتى الآن ـ في أخطاء كبيرة منها توقيعه
على بيان يحاول إعادة إنتاج خطاب شرائحي وعرقي لم يعد مرحبا به عند الكثير من
الموريتانيين. في السابق كانت هناك أصوات من داخل الحزب تتبنى ذلك الخطاب وتحاول
تسويقه بعيدا عن قنوات الحزب، وكانت تجد انتقادا واسعا من داخل الحزب ..الخطير في
توقيع هذا البيان من طرف الحزب هو أنه أظهر الحزب وكأنه يتبنى رسميا ذلك الخطاب
المتطرف الذي كنا نسمعه من عدد قليل من قادته. في بعض التبريرات التي طالعتها مؤخرا
عن توقيع الحزب على ذلك البيان تم القول بأن وجود الحزب كان مهما في اجتماع
الأحزاب التي أصدرت البيان، وذلك حتى لا يقتصر الاجتماع على أحزاب سياسية من لون
واحد!
هذا تبريرٌ لا يستقيم فتواصل لم ينضم إلى هذا التكتل في آخر لحظة، بل إنه
كان من الساعين بقوة لتأسيس هذا التحالف المعارض، وذلك من أجل خلق كتلة معارضة غير
متحمسة للحوار والتهدئة في مقابل أحزاب المعارضة المتحمسة للتهدئة والحوار، والتي
تعمل داخل منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان لتهيئة الأرضية للحوار أو التشاور
المنتظر.
ومن التبريرات المدافعة كذلك عن موقف الحزب غير المتحمس للحوار هي تلك
التبريرات التي أصبح يطلقها البعض من داخل الحزب، والتي تحاول أن تنتقد مبادرة
منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان لأنها لم تشرك الجميع في التحضير والإعداد
للتشاور المنتظر..ينسحب تواصل من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان دون تقديم
حجج مقنعة، ثم ينتقد بعد ذلك المنسقية على أنها لم تشركه ولم تشرك الآخرين في
التحضير للتشاور المنتظر!
وتبقى أربع كلمات سريعة اختتم بها هذا المقال :
ـ من المهم جدا أن يُشارك أكبر حزب معارض وثاني حزب ممثل في البرلمان في
الحوار أو التشاور المنتظر، وعلى السلطة الحاكمة ومنسقية الأحزاب الممثلة في
البرلمان أن تبذلا المزيد من الجهود حتى يُشارك حزب تواصل في الحوار أو التشاور
المنتظر؛
ـ على حزب تواصل أن يراجع موقفه من الحوار ومن التهدئة السياسية، فليس من
مصلحته كحزب ولا من مصلحة الوطن أن يغيب عن هذا الحوار، وعليه أن يدرك أن التحالف
المعارض الذي ينخرط فيه الآن هو تحالف هش، وأنه إذا ظل متمسكا بموقفه السلبي من
الحوار فقد يجد الحزب نفسه يقف وحيدا على أطلال تحالف سياسي محكوم عليه بالموت
المبكر؛
ـ إن أهم الإصلاحات السياسية التي قيم بها في هذه البلاد قد كانت ثمرة لحوارات
أو مشاورات بين السلطة والمعارضة؛
ـ الراجح عندي أن النظام الحالي سينفذ كل ما سيتم الاتفاق عليه في
التشاور المنتظر، وفي حالة عدم تنفيذه لما تم الاتفاق عليه فحينها سيحق للمعارضة
أن تستخدم كل أساليب الضغط المتاحة لفرض تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وستجد حينها
دعما كبيرا من أطراف كثيرة شاركت في الحوار من خارج المعارضة.
حفظ الله موريتانيا...