كل ما في الأمر هو أن النصف الأول من
الثمانينيات، كان له طعمه المثير، وكانت له نكهته الخاصة، وهي نكهة امتزجت فيها
الدموع بالفرح، واختلط فيها البكاء بالضحك، خاصة في العام الدراسي 1983 ـ 1984.
وقد خُيِّل إليَّ في ذلك العام، أن جبال المدينة الراسيات الشامخات قد تنازلت عن
شيء من كبريائها، وأنها اضطرت لأن تنحنيَ شيئا قليلا في وجه العاصفة. حتى المدينة
نفسها فقد اضطرت، في ذلك العام، لأن تغطي شيئا من فتنتها بثوب شاحب حزين، وكلما
أجبرت المدينة الفاتنة على ارتداء ثوبها الشاحب الحزين، كان ذلك بمثابة نذير شؤم
على من يحكم البلاد. ولقد أجبرها الرئيس محمد خونا ولد هيداله، في النصف
الأول من الثمانينيات، على أن ترتديَ ثوبها الشاحب، فكان انقلاب 12ـ 12ـ 1984.
وبعد ذلك بعقدين من الزمن، سيجبرها الرئيس
معاوية ولد سيد أحمد الطايع، على أن ترتديَ ثوبها الشاحب، وكان ذلك بعد فشل محاولة
8 يونيو2003، تلك المحاولة الانقلابية، التي جعلها ولد الطايع، مبررا لإهانة
قبيلة، بل ومدينة بكاملها، فارتدت المدينة ثوبها الشاحب الحزين، منذرة بأحداث
جسام، فكان انقلاب 3 أغسطس 2005.
ومن المفارقات اللافتة أن قائد المحاولة
الانقلابية الفاشلة، التي ساهمت في إسقاط الرئيس معاوية، الذي حكم البلاد
أطول فترة رئاسية، كان هو وبعض صحبه من بين القادة الميدانيين لإضرابات النصف
الأول من الثمانينيات في ثانوية لعيون التي ساهمت ـ بشكل أو بآخر ـ في نهاية
حكم الرئيس هيدالة، والذي كان يعتبر الرئيس الأكثر دكتاتورية في تاريخ
البلاد.
لم تكن مدينة لعيون، في النصف الأول من
الثمانينيات، مجرد مدينة فاتنة، كما هو حالها دائما في كل الأزمنة، وفي كل الفصول. ولم
تكن المدينة هي فقط تلك المدينة المدللة التي تلتف بحنان، على شطري بطحائها
الجميلة، ولا تلك المدينة التي تضطجع بدلال وبغنج في أحضان سلاسلها
الجبلية التي تحيط بها من ثلاث جهات، وتضغط عليها بقسوة من الجهتين الشمالية
والغربية، ربما خوفا عليها من أعين الحساد، وربما غيرة عليها، وحُق لتلك الجبال أن
تغار، فهي تحتضن مدينة فاتنة كَثُر عشاقها وتعدد المغرمون بها.
لقد كانت مدينة لعيون في تلك السنوات
مدينة ساخنة وملتهبة، ليس فقط بسبب درجات الحرارة العالية التي تعود عليها أهلها
مع كل فصل صيف، وإنما بسبب الإضرابات التي عرفتها ثانويتها في تلك السنوات.
ورغم مرور ما يزيد على ربع قرن، فلا زالت
تلك السنوات، تحتفظ بطعمها المثير، وبنكهتها الخاصة، كلما عادت بي الذاكرة
إليها، وكثيرا ما تعود بي الذاكرة إليها، ومن دون استئذان.
ولقد كنت من الذين شاركوا في تلك
الإضرابات والمظاهرات، حتى وإن كانت مشاركتي قد اقتصرت على الصفوف الخلفية، مع
الاستعداد الدائم للفرار، عندما يشتد إطلاق مسيلات الدموع.
ولا زلت أذكر أول مظاهرة أشارك فيها،
وكانت تلك هي المظاهرة الوحيدة، خلال كل "تاريخي النضالي"، التي تمكنتُ
فيها من الظهور في الصفوف الأمامية، والقريبة جدا من قوات الأمن.
لقد تقدمت في ذلك اليوم، بعد أن علمت بأن
هناك مفاوضات تدور بين الطلاب والسلطات الأمنية، ولذلك فكنت اعتقد أن مسيلات
الدموع لن يتم استخدامها من طرف قوات الأمن، إلا بعد أن يتم الإعلان عن فشل
المفاوضات.
ولكن رجال الأمن، لم يهتموا ـ كعادتهم ـ
بتوقعاتي، فأمطرونا، وبشكل مفاجئ، بوابل من مسيلات الدموع، مما جعلني أطلق ساقي
للريح، ولا أتوقف إلا بعد الوصول إلى وسط المدينة، وفي وقت قياسي، يصلح فيما أعتقد
لأن يسجل في كتاب جينيس للأرقام القياسية.
حدث ذلك في الفصل الأول، من عامي الأول في
الثانوية، وبعد تلك الحادثة، لم أعد أعتمد على التوقعات، وأصبحت أتجنب دائما
الصفوف الأمامية، دون أن يعني ذلك أني قد تخلفت ـ ولو لمرة واحدة ـ عن أي إضراب
ينظمه الناصريون، خلال كل سنواتي الست التي قضيتها في ثانوية لعيون.
وكان الناصريون يشكلون الأغلبية في
الثانوية في ذلك العهد، ويليهم ـ من حيث العدد ـ الشيوعيون كما كنا نسميهم، ثم
يأتي بعد ذلك البعثيون، وكان من اللافت وجود عدد هام من الطالبات في هذا التنظيم
من بينهن قياديات. أما الإخوان فلم يكن لهم حضور يذكر في الثانوية في تلك السنوات،
ولا أدري إن كان ذلك يعود لقلة عددهم، أو نتيجة لتحالفهم مع نظام ولد هيداله مما
جعلهم لا يبرزون على الساحة الاحتجاجية في ذلك العهد.
لم أستطع أن أبرز في مظاهرات النصف الأول
من الثمانينيات، لأني، وببساطة شديدة، لم أكن شجاعا، عندما يتعلق الأمر بالمواجهة
مع العسكر، وهو ما همس لكم به كاتب هذه الرواية، في إحدى حلقاتها السابقة، وذلك
كان حال الكاتب أيضا. فالكاتب الذي بدأت أتعرف عليه في تلك السنوات، في ثانوية
لعيون، لم يكن معروفا في الثانوية بشجاعته، وإنما كان يُعرف، إن عُرِف بشيء، بأنه
الناصري الأكثر فشلا في الثانوية، إن لم يكن الناصري الأكثر فشلا في تاريخ التنظيم
الناصري كله.
لقد انتسب الكاتب للتنظيم الناصري، وهولا
يزال في صفه السادس ابتدائي، وكان الفضل في انتسابه المبكر، يعود إلى صلاته ببعض
مؤسسي هذا التنظيم في المدينة، كما يعود كذلك إلى أنه كان طفلا هادئا وخجولا
ومؤتمنا لدى الكبار، لذلك فقد كان قادة التنظيم في المدينة يستخدمونه في بعض
الأحيان للحراسة، وكانوا يطلبون منه أن يظل يراقب الشارع، وما يحدث فيه، خلال
اجتماعاتهم السرية.
وفي كل عام، كان هذا الناصري الفاشل،
ينتسب لخلية جديدة، مع منتسبين جدد، ليتلقى شروحا وافية عن الحرية والاشتراكية
والوحدة، ولِيُذكَّر بأهمية الانضباط والسرية والالتزام للمنتسبين لهذا التنظيم.
وكان زملاؤه في الخلية يترقون في سلم
التنظيم الناصري، ويصعدون في كل عام درجة، بينما يظل هو قابعا في القاع، في انتظار
منتسبين جدد للتنظيم، ليبدأ معهم من جديد، تعلم مبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة،
وليوصى من جديد بأهمية الانضباط والسرية والالتزام.
ست سنوات قضاها الكاتب، في ثانوية لعيون
لم يستطع خلالها أن يصعد درجة واحدة في سلم التنظيم، ولا أن يتجاوز عضو خلية. وهو
في فشله ذلك، يذكرني بصديق لي في الطفولة، قضى عدة سنوات من عمره، وهو في السنة
الأولى ابتدائية. وكان صديقي ذلك كلما فشل في تجاوز السنة الأولى من الابتدائية،
عاد إلى معلم اللوح ليقضي معه سنة، ثم يعود مرة أخرى، إلى السنة أولى
ابتدائية، ليجرب حظه من جديد، وليفشل من جديد في امتحان التجاوز.
وكان صديق طفولتي ذاك، وبعد كل عملية
توزيع للنتائج النهائية، يذهب إلى والدته، ليبشرها بأنه سيأتي اليوم الذي سيصبح
فيه ضابطا كبيرا، رغم رسوبه المتكرر في سنة أولى.
كان الكاتب كصديق طفولتي الفاشل دراسيا،
فلم يكن هو أيضا يتأثر من فشله المتكرر في سنة أولى من التنظيم الناصري، رغم أنه
كان يُعرف في جيلنا، بأنه كان من أكثر المنتسبين للتنظيم قراءة لكتب وأدبيات الفكر
الناصري.
لم يستطع الكاتب أن يكون ناصريا شجاعا،
كما هو حالي طبعا، فأنا أيضا لم أستطع أن أكون ناصريا شجاعا، كما أنه لم يستطع إضافة لذلك، أن يكون من منظري
التنظيم في الثانوية، فهو لم يتجاوز خلال كل فترة انتسابه للتنظيم، عضو خلية، وهو
أيضا لم يكن خطيبا، ولم يصعد يوما على المنابر. وكانت تلك هي المجالات الثلاث التي يمكن الصعود من خلالها في سلم التنظيم، ولقد فشل الكاتب فيها جميعا، مما أهله
لأن يكون أكبر فاشل في هذا التنظيم.
في العام الدراسي 1983ـ 1984 كان أنين
السجناء يسمع ليلا في بعض المنازل المجاورة لأماكن التعذيب. ولقد مورست ضد السجناء
من الطلاب والمعلمين والأساتذة المعتقلين أصناف وحشية من التعذيب، ليس أقلها
وحشية، أن يُذهب بالسجين ليلا إلى مطار المدينة، ليسحب هناك على بطنه فوق أرضية
المطار الصلبة. وكانوا في بعض الأحيان، عندما يذهبون بسجين إلى المطار، يرسلون
قبله فرقة لحفر قبر، يَدَّعون بأنه قبر لسجين آخر، مات بفعل التعذيب. وكانوا
يفعلون ذلك لكي يخيفوا الضيف الجديد للمطار، حتى ينهار، ويدلي لهم ببعض الاعترافات
التي كانوا يبحثون عنها. ورغم تلك القسوة والوحشية التي كانوا يستخدمونها ضد
المعتقلين، إلا أن حجم الاعترافات، وأعداد المعترفين، لم يكن يتناسب مع ما استخدم
من قسوة ووحشية ضد المعتقلين.
وكثُر في ذلك العام عدد الجواسيس
والمخبرين، حتى أصبح الأخ يخاف أخاه، والابن لا يثق في والده، والصديق يتردد كثيرا
من قبل أن يهمس في أذن صديقه.
ومن غرائب ذلك العام، أن الضابط الذي كان
يقود فرقة الحرس التي كانت تتجول وسط الثانوية، لإفشال المظاهرات، كان من أبرز
قادة التنظيم الناصري في الثانوية،عام دخولي لها، وكان من الذين يقودون الإضرابات
في تلك الفترة، وسيصبح هذا الضابط فيما بعد أول جنرال في قطاعه العسكري ربما
مكافأة له على دوره البارز الذي لعبه في إفشال خطة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله
في إقالة كبار الضباط.
ولعل الحدث الأبرز، في ذلك العام الساخن،
هو ما حدث في ضحى يوم مثير، عندما تمكنت مجموعة من الطلاب، في حدود خمسين طالبا،
من قطع الاتصالات عن الثانوية، والاستيلاء على الوثائق والملفات وتمزيق جزء منها،
وضرب مدير الثانوية، وبعض رجال الشرطة، وعلى رأسهم قائد الشرطة، ضربا مبرحا.
وبالتأكيد، فلم أكن لا أنا ولا الكاتب، من
بين الخمسين طالبا التي نفذت تلك العملية النوعية، والتي قادها طالب جريء، سيصبح
فيما بعد ضابطا. وأعتقد أن ذلك الطالب الجريء الذي قاد تلك العملية، هو الذي سلم
نفسه فيما بعد، للسلطات الأمنية، بعدما فشلت في العثور عليه، وذلك لكي تتوقف
السلطات عن ابتزاز وتهديد بعض أفراد أسرته.
ومن الغريب حقا، أن المدير الذي ضربه
الطلاب الناصريون في ذلك العام، ضربا مبرحا، سيتم تسريحه من وظيفته بعد ذلك،
بعقد من الزمن باعتباره ناصريا!!!
وفي الأيام التي سبقت عملية ضرب المدير،
تمت الدعوة لإضراب لم تتم الاستجابة له بشكل واسع، و كنت من بين قلة استجابت لتلك
الدعوة، لذلك فقد تم طردي، وطلب مني المدير أن لا أحضر للثانوية إلا برفقة وكيلي،
هو ما قمت به في اليوم الذي سيتم فيه الاعتداء على المدير، وعلى بعض رجال الشرطة.
في صبيحة ذلك اليوم، رافقت وكيلي الذي
أخبرته بأن مدير الثانوية طلب حضوره، وكان وكيلي في ذلك العام، قريب لي، وكان يعمل
مديرا لمدرسة ابتدائية، وكان من أشد المعارضين للإضراب.
وفي الطريق إلى الثانوية، ظل وكيلي يحدثني
عن خطورة المشاركة في التظاهرات، وقال لي إن النظام قد اكتشف أن هناك دولة ثانية
داخل الدولة، وهو يقصد بذلك التنظيم الناصري. وقال لي إن النظام لن يقبل بوجود
دولتين في دولة واحدة، وكان وكيلي يتحدث كما يتحدث أي منتسب لهياكل تهذيب
الجماهير.
وطلب مني وكيلي، أن أنسحب من
الإضرابات، وأن أتفرغ لدراستي، فالمظاهرات ـ حسب وكيلي ـ ليست إلا محاولة من طرف
بعض الطلاب الفاشلين للتغطية على فشلهم الدراسي.
هكذا كان يحدثني وكيلي، قبل ساعة من
الاعتداء على المدير ورجال الشرطة، في ذلك اليوم المثير.
ولم يكن وكيلي يتوقع أنه سيتم إلقاء القبض
عليه، بعد تنفيذ عملية ضرب المدير. ولم يكن يتوقع إطلاقا، أنه سيأتي اليوم الذي
سيتهم فيه بأنه ناصري، فيسجن مع الناصريين، ولا يطلق سراحه إلا في إطار العفو عن
المساجين، والذي تم بعد انقلاب 12ـ 12 ـ 1984.
لقد كان نظام ولد هيداله نظاما ظالما
وباطشا ومتعجرفا، والدليل على ذلك، هو ما تعرض له وكيلي، والذي لم يشفع له بأنه
كان يدافع ـ وبشكل مستميت ـ عن نظام ولد هيداله، وظل يدافع عن ذلك النظام
الظالم، حتى ألقي عليه القبض، وأدخل في سجن لم يخرج منه إلا بعد دخول ولد هيداله
نفسه السجن.
والحقيقة أني لم أكن راضيا عما كان يقوم
به الناصريون في تلك الفترة، رغم أني كنت ناصريا منضبطا، إلا أني لم أكن مقتنعا
بكل المطالب التي كانوا يطالبون بها، ولا بكل الشعارات التي كانوا يرفعونها، ولا
بالمبررات التي كانوا يبررون بها تحركاتهم واحتجاجاتهم في تلك السنوات، والتي كان
من بينها أنهم كانوا يريدون أن يختبروا قدرتهم على تحريك الساحة، وأن يختبروا كذلك
مدى قناعة والتزام المنتسبين للتنظيم، وهي القناعة التي لا يمكن اختبارها، بشكل
دقيق، إلا في ظل المواجهة الشرسة مع النظام الحاكم.
لم أكن راضيا عن كل ذلك، ولكن المزاج
العام للمدينة في تلك الفترة، كان يفرض عليَّ أن أكون ناصريا، وأنا كنت ابن
المدينة، وكان مزاجي من مزاجها.
ومع أني لا أستطيع أن أنكر اليوم أني كنت
في تلك الفترة من أشد المنبهرين بالقائد جمال عبد الناصر، لكني مع ذلك، كنت أحس بأن
في فكر الرجل، وفي أسلوبه للحكم بعض المآخذ التي لم أكن في تلك الفترة قادرا على
تحديدها، و لا أن أعبر عنها، رغم إحساسي وشعوري بوجودها.
واليوم أستطيع أن أقول بأن جمال عبد
الناصر كان رئيسا دكتاتورا ومستبدا، لذلك فقد كان من المستحيل أن تخلو فترة حكمه
من أخطاء فادحة، لأنه لا يوجد مستبد عادل.
إن الاستبداد والعدل صفتان متناقضتان لا
يمكن أن تجتمعا في شخص واحد، واجتماعهما مجرد خدعة كبيرة. فالمستبد العادل لا وجود
له إلا في مخيلة البعض. والمستبدل العادل كالشيطان الرشيد، فإذا كان بالإمكان أن
نتوقع الرشد من الشيطان، فسيكون حينها بإمكاننا أن ننتظر العدل من حاكم مستبد.
ورغم كل ذلك، فلا يمكنني أن أنكر بأن
المستبدين يختلفون كثيرا، ويتمايزون كثيرا. ولقد كان جمال عبد الناصر، ولا يزال،
بالنسبة لي هو أعلاهم درجة، وأفضلهم مكانة، وأقربهم إلى نفسي.
ولأني لم أكن مقتنعا بكل ما يقوم به
الناصريون في تلك الفترة، فلم أكن قادرا على أن أحمل نظام ولد هيداله كل الأخطاء
التي كانت تحدث في تلك الفترة، أثناء مواجهته مع الناصريين.
ولكن بعد أن تم سجن وكيلي، ظلما وعدوانا،
لم أعد أبحث لنظام ولد هيداله عن أعذار، بل أصبحت أصنفه، بأنه نظام ظالم ومتوحش،
خاصة أنه لم تكن هناك وسيلة واحدة، يمكن أن نلجأ إليها في ذلك الوقت لرفع الظلم عن
وكيلي، فهيداله كان يمنح فرصا كثيرة لممارسة الظلم، ولتصفية الحسابات، ودون أن
يفتح قناة واحدة تمكن المظلومين من رفع الظلم عنهم.
وقبل رئاسة ولد هيداله، لم أكن أهتم
إطلاقا بمن يحكم البلاد، وأتذكر أنه عندما أخبرتنا الخادمة التي كانت تشتغل عندنا
في المنزل، يوم العاشر من يوليو من العام 1978، بأنها سمعت في سوق المدينة بأن
المختار القديم قد أخذ منه الرئاسة مختار جديد، لم أهتم بذلك، رغم الحيرة التي بدت
على الكبار، عند سماعهم لذلك الخبر العظيم الذي التقطته خادمتنا من سوق المدينة،
وبثته في الحي، وهو لا يزال طازجا. وكانت خادمتنا في المنزل، من أهم مصادر الأخبار
في الحي، وكانت تصر في كل يوم، وبعد عودتها من سوق المدينة، على تقديم نشرة
إخبارية موجزة في بعض الأحيان، ومفصلة في أحايين أخرى.
لم يكن يهمني من يحكم البلاد، إلى أن اتسع
بطش ولد هيداله، وامتد، حتى وصل إلى وكيلي الذي لم يعارض أي نظام، لا من قبل حكم
ولد هيداله، ولا من بعده.
ومنذ إلقاء القبض على وكيلي، بدأت أكره
نظام ولد هيداله كرها شديدا، وقد زاد من كرهي له، أن المزاج العام للمدينة كان
أيضا يكره ولد هيداله كرها شديدا.
ومن مفارقات مدينة لعيون، أنها وبعد ذلك
بعقدين من الزمن، وتحديدا أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية 2003، سيتغير مزاجها،
تغيرا كبيرا، وسيصبح ولد هيداله بالنسبة للكثيرين من أبنائها، يشكل أملا، وربما
مخلصا من نظام ولد الطايع، والذي أصبح المزاج العام للمدينة يبغضه، بغضا شديدا،
بعد أن أحبه حبا شديدا، ذات يوم من أيام ديسمبر من العام 1984.
وفي انتخابات العام 2003 كان مزاجي متأثرا
ـ كعادته ـ بمزاج المدينة العام، ولقد كان ولد هيداله بالنسبة لي، في تلك
الانتخابات، هو المرشح الوحيد القادر على أن يخلص البلاد من نظام ولد الطايع
الغارق ـ وحتى التراقي ـ في الفساد.
ولقد تم اختياري من طرف إدارة الحملة
الرئاسية في ولاية الحوض الغربي، أثناء زيارة ولد هيداله لمدينة لعيون، لأن أرابط
في دار الضيافة المعدة لاستقباله، خلال فترة إقامته بالمدينة.
ولقد بقيت في دار الضيافة، رفقة عدد قليل
من الشباب، في انتظار قدوم ولد هيداله، بينما توجه مدير الحملة، وبكل طاقم حملته،
لاستقبال ولد هيداله، عند مدخل المدينة الغربي، أو في مطارها، فلم أعد أذكر الآن
إن كان المرشح ولد هيدالة قد وصل إلى مدينة لعيون في طائرة، أم أنه وصل إليها في
سيارة.
المهم أنه بعد طول انتظار، تم إشعاري بأن
ولد هيداله قد وصل إلى باب دار الاستقبال، ففتحت له الباب، هو الوفد المرافق له،
لأجدني، ولأول مرة في حياتي، أقف وجها لوجه مع ولد هيداله.
لم يكن اللقاء عاديا، ولم يكن مثل تلك
اللقاءات العابرة، التي تحدث يوميا، دون أن تترك أي انطباع، ولا أن تثير أية
مشاعر.
كان الرجل الذي يقف أمامي، هو الرئيس
السابق محمد خونا ولد هيداله الذي كرهته كرها شديدا يوم ألقى القبض على وكيلي، منذ
عقدين من الزمن. وكان الرجل الذي يقف أمامي هو أيضا المرشح محمد خونا ولد هيداله، الذي كان
يشكل، بالنسبة لي، في تلك اللحظات المرشح الوحيد القادر على إصلاح أوضاع البلاد التي
انهارت كثيرا.
مددت يدي اليمنى لأصافح مرشحنا للرئاسة ،
بينما وضعت يدي اليسرى على منكبه، وأخذت أقوده إلى المكان المعد لاستقباله، وكان
الرئيس في تلك اللحظات طيعا، لينا، بسيطا، متواضعا، أي أنه كان بعيدا كل البعد عن
صورته المحفورة في مخيلتي، منذ عقدين من الزمن.
وبينما كنت أرافق الرئيس إلى الصالة
المعدة له، أعادتني الذاكرة إلى النصف الأول من الثمانينيات، وتساءلت في نفسي،
ماذا لو كان هذا اللقاء قد تم في ذلك العهد البغيض؟ وماذا كان سيحدث لو أني
فتحت نفس الباب في يوم من أيام العام 1983، فإذا بالذي يقف خلف الباب
هو الرئيس محمد خونا ولد هيداله؟
أعتقد أني ساعتها كنت سأطلق ساقي للريح،
ولكني ومن قبل أن أطلق ساقي للريح، فربما كنتُ سأفكر في أن أغرز أظافري في وجه
الرجل، أو أرميه بحجر على الرأس.
والحقيقة أني لا أدري بالضبط ما ذا كنت سأفعل
حينها، وإن كان من المؤكد أني لو قابلته في العام 1983، لم أكن لأصافحه بيدي
اليمنى، ولم أكن لأضع اليسرى على منكبه، ولم أكن لأقوده إلى صالة للاستقبال، كما
أفعل الآن.
لقد أحسست بأن ولد هيداله الذي يسير بجنبي
في تلك اللحظات، يختلف كثيرا عن ولد هيداله الذي كان يقود البلاد في النصف
الأول من الثمانينات. كما أحسست أيضا بأني أنا في تلك اللحظات، كنتُ أختلف كثيرا،
عما كنتُ عليه في النصف الأول من الثمانينيات، والمدينة أيضا لم تعد هي المدينة في
عقد الثمانينيات، لقد تغيرت وتبدل الكثير من أهلها، ولم تعد هي المدينة التي
عرفتها في عقدي السبعينيات والثمانينيات، حتى وإن كانت لا تزال تحتفظ بروعتها
الأخاذة، وبفتنتها المتجددة، وبمزاجها المتقلب والمشاكس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق