هناك
قصص كثيرة نسمع عنها، ومشاهد عديدة نشاهدها بشكل متكرر تبرر طرح هذا السؤال، ولأن
القصص كثيرة والمشاهد عديدة فسأكتفي هنا بمشاهد أو بلقطات سريعة من طوابير طويلة شاهدناها
جميعا في الفترة الأخيرة، وأتحداكم أن تأتوني بتفسير منطقي ومقنع تستبعدون فيه
الجشع وتفسرون به تزاحم الناس في تلك الطوابير .
الانتساب للسراب
يقول
المنطق السليم بأن من أسوأ القرارات التي يمكن لأي سلطة راشدة أن تتخذها هو أن
تدعو هذه السلطة إلى الانتساب إلى حزبها الحاكم في عام شدة يعاني فيه المنمون من
الجفاف مع غياب أي تدخل حكومي يذكر، وتعاني فيه أغلب المدن والقرى من عطش شديد،
هذا فضلا عن الارتفاع الصاروخي للأسعار، وتفشي البطالة، إلى غير ذلك من المشاكل
والتحديات التي يعاني منها المواطن. بالمنطق السليم فإن أسوأ قرار يمكن أن تتخذه
أي حكومة راشدة كانت أو غير راشدة هو أن تدعو إلى الانتساب إلى حزبها الحاكم في
مثل هذا التوقيت وفي مثل هذه الظروف، وقرار مثل ذلك يمكن أن يؤدي ـ إن تحدثنا
بمنطق سليم ـ إلى احتجاجات قوية في وجه
الوزراء وكبار الموظفين الذين شاركوا في حملات التحسيس، كما يمكن أن يؤدي إلى تكرر
الاعتداءات الجسدية على القائمين على الانتساب في أكثر من مركز وفي أكثر من مدينة.
ذلك
هو ما يمكن أن يُتوقع في مجتمع طبيعي، ولكن بالنسبة للمجتمع الموريتاني فإن الذي
يحدث هو العكس تماما، حيث يتزاحم الناس
على مكاتب التسجيل في كل بقاع الوطن، فتجدهم يستيقظون باكرا ليحتلوا مكانا متقدما
في الطابور، وتجدهم يتأخرون ليلا عند المكاتب في انتظار التسجيل.
نحن
أمام ازدحام غير مسبوق على عملية انتساب لم تعرف لها البلاد مثيلا من قبل، تلك
حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن هناك أيضا حقيقة أخرى لا يمكن إنكارها، وهي أن هذا
الحزب الحاكم الذي تزدحم الناس عليه اليوم هم نفسه الحزب الحاكم الذي هجره الناس
في الأسابيع والأشهر الماضية، وبشكل لم تعهده الأحزاب الحاكمة من قبل، وذلك لدرجة
أنك قد تمر في بعض الأحيان بالمقر الرئيسي لهذا الحزب صباحا أو مساء فلا تجد أمامه
من السيارات إلا عدد ما تجد من سيارات أمام مقر حزب معارض قاطع الانتخابات
الماضية.
فبِأي
منطق يمكننا أن نفسر أن هذا الحزب الحاكم قد شهد في فترتين زمنيتين متقاربين
هجرانا غير مسبوق وإقبالا غير مسبوق؟ وبِأي منطق يمكننا أن نفسر عزوف المواطن عن
الذهاب إلى مكاتب التصويت في الاستفتاء الماضي وإقباله المنقطع النظير على مكاتب
تسجيل الحزب الحاكم؟ وبأي منطق يمكننا أن نفسر الرقم الفلكي الكبير الذي سيعلن عنه
بعد أيام على أنه عدد المنتسبين للحزب الحاكم، والذي سيكون بالمناسبة أكبر من
الرقم الذي صوت للرئيس محمد ولد عبد العزيز في آخر انتخابات رئاسية، والطبيعي هو
أن يكون أقل منه، وذلك على اعتبار أن كل منتسبي الحزب الحاكم قد صوتوا للرئيس مع
عدد كبير آخر من المصوتين الذين صوتوا من خارج الحزب الحاكم.
هذه
التناقضات لا يمكن أن نفسرها بمنطق سليم إذا ما استبعدنا الجشع. لقد قيل للوجهاء
وللموظفين ولرجال الأعمال وللسياسيين بأن قيمة المناضل في الحزب ستقاس بما جمع من
منتسبين وبما حصل عليه من وحدات، وبأنه سيحصل على الصفقات إن كان رجل أعمال، أو
على الترقية إن كان موظفا، أو على الترشيح إن كان سياسيا، بقدر ما جمع من منتسبين
ومن وحدات، وذلك هو ما أدى بالوجهاء ورجال الأعمال والموظفين بالدخول في منافسة
غير مسبوقة لتسجيل أكبر عدد ممكن المنتسبين.
بعد
حين سيكتشف أولئك بأن جشعهم هو الذي أوقعهم ضحية لخديعة كبرى، وسيكتشفون بأن جهودهم
وأموالهم قد ضاعت بلا مقابل..طبعا ستكون هناك استثناءات قليلة سيستفيد أصحابها،
ولكن الأغلبية ستتكبد خسائر كبيرة، ولن تستعيد 10% مما أهدرت من جهد وأنفقت من مال
على عمليات الانتساب.
أرباح
من سراب
لقد
تزاحم الكثير من الموريتانيين أمام مكتب الشيخ علي الرضا لبيع منازلهم، وكان مالك
العقار يأتي طوعا لبيع عقاره، وبعد عملية البيع يعود المالك بورقة يمكن الطعن فيها
قانونيا، وبها وعد بتسديد مبلغ كبير بعد سنتين.
أقبل
ملاك المنازل بكثرة على مكتب الشيخ علي الرضا، وفرطوا في منازلهم وعقاراتهم فباعوها
بتلك الطريقة المشبوهة. ومن العجيب ـ وهنا يبلغ الجشع ذروته ـ أن الشيخ علي
الرضا لما أعلن توبته، ووعد بإغلاق مكتبه بعد خمسة أيام من إعلان التوبة لم
يتوقف إقبال ملاك العقارات، بل إن إقبالهم ازداد وتحدثت حينها بعض المواقع
الإخبارية عن ازدحام ملاك العقارات على المكتب الذي سيغلق بعد أيام، وكان الازدحام
من أجل بيع المزيد من العقارات بتلك الطريقة المشبوهة!
سراب
الذهب
في
مثل هذا الشهر من العام 2016 عرفت بلادنا موجة جديدة من الجشع ومن الجنون الجماعي،
وكانت هذه الموجة الجديدة من الجشع قد بدأت بكذبة كبيرة تقول بأن الذهب قد أصبح
يغرف غرفا في صحاري إنشيري وتيرس.
تزاحم
الموريتانيون على مكاتب بيع رخص التنقيب السطحي عن الذهب فباعت حكومتنا الجشعة عشرات
الآلاف من الرخص، وكانت كل رخصة تباع بمائة ألف أوقية قديمة، وأخذت في جمركة أجهزة
التنقيب عن الذهب، وكان كل جهاز تدفع عنه ثلاثمائة ألف أوقية كرسوم جمركية، واختفت
تلك الأجهزة من الأسواق العالمية بسبب إقبال الموريتانيين على شرائها.
أثناء
موجة الجشع تلك قرر الكثير من الموريتانيين أن يبيع ممتلكاته وأن يهجر عمله، وهناك
من عاد من الخارج بعد أن صفى أملاكه ، وذلك مخافة أن تفوته عملية جمع قطع الذهب
المتناثرة في صحاري إنشيري وتيرس.
خسر
الكثيرون، وجن جنون البعض بعد أن اكتشفوا بأن الذهب لم يكن موجودا بتلك الكثرة.
صحيح أن نسبة قليلة من المنقبين عن الذهب استفادت من العملية، وصحيح أيضا أن
الذهب يوجد منه في صحاري إنشيري وتيرس الزمور ما يكفي لأن يوفر دخلا مقبولا لعاطل
عن العمل، ولكن الصحيح أيضا هو أن النسبة الكبيرة من المنقبين عن الذهب قد تكبدت
خسائر فادحة، ويتأكد الأمر بالنسبة لأولئك الذين قرروا أن يهجروا أعمالهم وأن
يبيعوا ممتلكاتهم لتوفير مستلزمات رحلة التنقيب عن الذهب.
إن
الجشع هو الذي دفع بعشرات الآلاف من الموريتانيين إلى شراء رخص وأجهزة تنقيب عن
الذهب لم تعد لها اليوم أي فائدة،
فالتنقيب أصبح يمارس اليوم دون الحاجة لتلك الرخص ولا لتلك الأجهزة، وإن الجشع
أيضا هو الذي دفع بالكثير من الموريتانيين لأن يخاطروا ببيع منازلهم التي تحصلوا
عليها بشق الأنفس لمكتب يمارس تجارة مشبوهة، وهو الذي يدفع اليوم بالكثير من
الموظفين والوجهاء والسياسيين ورجال أعمال إلى أن ينفقوا أموالهم ويضيعوا جهودهم وأوقاتهم
في جلب المنتسبين إلى حزب حاكم بدأ نجمه في الأفول.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق