لو أن النظام الحاكم كان يسعى حقا لبناء دولة المؤسسات، ولو
أنه كان يحترم القانون، ولو أنه كان يحارب الفساد فعلا لمنح للسيناتور محمد ولد
غدة أعلى الأوسمة لجهوده الكبيرة التي بذلها في محاربة الفساد.
اقترح السيناتور محمد غدة تشكيل لجنة في مجلس الشيوخ
للتحقيق في الصفقات، ومنحت رئاسة تلك اللجنة للسيناتور، ولكن ما حدث بعد ذلك كان
معروفا. لقد تجاهلت السلطات الحاكمة ملفات الفساد الكثيرة، وخاصة منها تلك التي ترتبط
بأسرة الرئيس، والتي كان موقع وكالة الأخبار المستقلة قد أثار حالة منها في الأيام
الأخيرة، تجاهل النظام ذلك الملف بشكل كامل، وقرر في ردة فعل عجيبة وغريبة أن
يختطف رئيس أول لجنة برلمانية يتم تأسيسها للتحقيق في الصفقات، وأن يلقي به في
غياهب سجن روصو.
نحن إذن أمام آخر صيحة من صيحات الإبداع في محاربة
الفساد..نحن أمام نظام يحارب الفساد بمحاربة من يحارب الفساد!!
ولو أن النظام الحاكم كان يسعى حقا لبناء دولة القانون والمؤسسات
لسارع إلى توقيف الوزير الأول ورئيس الحزب الحاكم وكل أولئك الذين يدعون اليوم نهارا جهارا إلى الاعتداء على الدستور وإلى
تجاوز المواد المحصنة التي حددت عدد المأموريات الرئاسية.
لقد بارك الرئيس تلك الدعوات بدلا من معاقبة أصحابها،
وزادنا من الشعر بيتا، فقرر أن يلقي بالسيناتور
الذي شكل رأس الحربة في الدفاع عن الدستور في السجن.
نحن إذن أمام آخر صيحة من صيحات الإبداع في بناء دولة القانون
والمؤسسات..نحن أمام نظام يسيء إلى الدستور ويخطط لانتهاك مواده المحصنة، ويُحارب
كل من يدافع عن هذا الدستور وعن مواده المحصنة!
المخجل في الأمر أن الغرفة السفلى من البرلمان الموريتاني
لم تستطع أن تصدر بيانا، حتى ولو كان خجولا، للتضامن مع شيخ تم اختطافه من منزله
بهذه الطريقة المستفزة، ودون أي سند قانوني مقنع. أما المستفز في الأمر فهو أن
هناك حوادث سير وقعت على الطريق نفسها، وتسببت في حالات وفاة، ومع ذلك فلم يسجن
المتسبب فيها، ولم يقدم إلى المحاكمة، وهناك أمثلة عديدة يمكن تقديمها عن منتخبين
وعن موظفين، وعن مواطنين عاديين تم التعامل معهم بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة
التي تم التعامل بها مع السناتور.
لو كانت هذه الإجراءات المتخذة ضد السيناتور ولد غدة تدخل
في إطار سياسة حكومية جادة للحد من حوادث السير لكان كاتب هذه السطور من أول المرحبين
بها، ولكن، وللأسف، فإن ما يجري الآن هو تصفية حساب وعقاب للسناتور على مواقفه
السياسية. والحقيقة أن تصفية الحساب مع هذا السيناتور كانت قد بدأت منذ سنوات، ولذلك
فقد حُرم السيناتور من مشروعه الطموح الذي بذل فيه الكثير من الجهد والوقت والمال،
ففتح فصولا لتدريس أبناء الفقراء، وأطلق مراكز للتكوين، بل إنه تقدم بملف متكامل
للبنك المركزي من أجل الترخيص لفتح مؤسسة لتقديم القروض الصغيرة للعاطلين عن العمل،
ولكن البنك المركزي رفض أن يرخص لتلك المؤسسة التي كانت قد استوفت الشروط المطلوبة.
كل تلك الجهود الكبيرة قدمها السيناتور في إطار مشروع "تيار الفكر الجديد"،
حتى اسم المشروع قد انتزع من السيناتور انتزاعا، وتم منح ترخيص حزب تحت هذا الاسم
لجماعة أخرى، وذلك على الرغم من أن السيناتور كان قد ضيع وقتا طويلا وهو يتردد على
وزارة الداخلية طلبا لترخيص لجمعية أو لحزب تحت هذا الاسم.
إن اختطاف السيناتور من منزله، واقتياده إلى سجن روصو، لم
يكن بسبب حادث سير، فلا أحد بإمكانه أن يصدق ذلك، ولو افترضنا جدلا بصحة ما جاء في
بيان النيابة العامة، أليس من حقنا أن نسأل عن العلاقة بين الحادث وهاتف
السيناتور؟ ولماذا تم استنفار السلطات الأمنية للبحث عن هاتف السيناتور؟
إن هذه الجهود المضنية التي تبذلها السلطات في البحث عن
هاتف السيناتور تشرع لنا طرح أسئلة أخرى من قبيل: هل وصلت إلى السلطات معلومات
تقول بأن هاتف السيناتور عندما يفرك سيخرج منه مارد يقول لها " شبيك لبيك
المارد بين أيديك"..أطلبي وأنا سأنفذ في غمضة عين..هل تريدين مثلا أن أخفي عن
جميع الموريتانيين الباب الحادي عشر من الدستور الموريتاني؟ أم تريدين أن أمحو من
الدستور الموريتاني المادة 28 التي حددت عدد المأموريات الرئاسية؟ أم تريدين أن
أصلح لك طريق روصو في غمضة عين حتى لا يشقى جمهور المطبلين عند عودتهم من روصو؟ أم
تريدين أن أنظم لك مبادرة مؤيدة للتعديلات الدستورية يحضرها كل الموريتانيين
الأحياء منهم والأموات على أن تتولى تنظيمها القوى الثمانية المناهضة للتعديلات
الدستورية؟ أم تريدين أن أنفخ لك نسب الناجحين في الباكالوريا حتى تصل إلى 80%؟ أم
تريدين أن أوفر لك مليون فرصة عمل تمنحيها للشباب الموريتاني الذي يعاني من أعلى
نسبة بطالة في العالم؟ أم تريدين أن أقنع المغاربة والسنغاليين والتونسيين بأن لا
يعالجوا مرضاهم إلا في مستشفيات بورات وأنبيكت لحواش؟ أم أنك تريدين أن أجعل هذه
البلاد كألمانيا التي لم تنقطع عنها الكهرباء لدقيقة واحدة خلال ما يزيد على ثلاثة
عقود من الزمن؟ أم تريدين أن أجعل لك قناة الموريتانية كقناة الجزيرة وأن آتي إلى
الرئيس بمال وفير يضاعف احتياطات دولة قطر من العملات الصعبة عشر مرات؟
وتبقى كلمة
لقد أتيح لي في هذه السنوات الأخيرة أن أكون قريبا من
السيناتور محمد ولد غدة، وأن أعمل معه في قضايا عديدة، ويمكنني أن أقول الآن، وبكل
اطمئنان، بأنه لو تمثلت الوطنية في شخص، ولو تمثل النضال الواعي والصادق في إنسان،
لتمثلا في شخص السناتور محمد ولد غدة.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق