رسائل عديدة وواضحة وغير مشفرة أبرقتها الجماهير الغفيرة التي خرجت في الحادي عشر من مارس في واحدة من أضخم المسيرات التي نظمتها المعارضة الموريتانية في السنوات الأخيرة. هذه الرسائل التي أبرقتها مسيرة الحشد الأكبر توجد الآن في صناديق بريد مختلفة، ويبقى السؤال : هل سيتم تجاهل هذه الرسائل أم أنها في هذه المرة ستحظى بالقراءة وبالرد المناسب؟
رسالة في صندوق بريد الرئيس
لعل الرسالة الأهم من بين هذه الرسائل هي تلك
التي وضعت في صندوق بريد الرئيس، وهي الرسالة التي تقول بلغة سياسية فصيحة وصريحة
جدا بأن الشعب الموريتاني يرفض العبث بدستوره، ويرفض ـ وبكل مكوناته وأعراقه ـ
تغيير علمه الوطني.
اللافت في مسيرة الحشد الأكبر أن حجم الحضور كان
مميزا من حيث الكم والكيف، ولاشك أن المخابرات التي كانت تبرق الرسائل من داخل
المسيرة قد أبرقت في هذه المرة رسالة تقول بأنها لاحظت وجود مشاركين في هذه
المسيرة لم تتعود رؤيتهم في مثل هذه المسيرات. إن التهديد بتغيير العلم الوطني قد
استقطب جمهورا جديدا إلى ساحات الاحتجاج، كما أنه قد استقطب جمهورا آخر وجره أكثر إلى
قضايا الشأن العام. يمكنكم أن تلاحظوا بأنه في الأيام الأخيرة قد عبر فقهاء
وشخصيات ثقافية وفنية بالإضافة إلى شخصيات سياسية كانت ـ وما زالت ـ تحسب على
الموالاة عن رفضها لتغيير العلم، وتعبير هؤلاء عن رفضهم لتغيير العلم بالإضافة إلى
خروج جماهير غفيرة في مسيرة حاشدة في يوم حار للتعبير عن رفضها لتغيير العلم، إن
كل ذلك ليؤكد بأن التعديلات الدستورية قد تم رفضها شعبيا، وبأن الشعب الموريتاني
قد قال كلمته الحاسمة في هذا الموضوع، وبأنه لم تعد هناك أي حاجة لتنظيم استفتاء
شعبي من أجل معرفة رأي الشعب الموريتاني حول التعديلات الدستورية.
رسالة في صندوق بريد الجمعية الوطنية
تقول هذه الرسالة بلغة شعبية فصيحة وصريحة جدا
بأن "النوائب" في واد وأن الشعب الموريتاني في واد آخر، وأن الفجوة
بينهما قد اتسعت كثيرا. فأن يصوت 121 من أصل 147 نائبا لصالح التعديلات الدستورية،
وأن تخرج من بعد يومين فقط على ذلك التصويت جماهير غفيرة بحجم جماهير مسيرة الحشد
الأكبر لتعبر عن رفضها للتعديلات الدستورية، فإن ذلك ليعني بأن النوائب في واد أن
الشعب في واد آخر.
إن 121 التي صوتت للتعديلات الدستورية لا تمثل
الشعب، وإنما تمثل السلطة، ولذلك فلم يكن غريبا أن تسمعوا بأن نائبا يرفع شعار
المعارضة قد وكل نائبا من الموالاة للتصويت نيابة عنه. فلو أن هذا النائب كان
يحترم منتخبيه الذين صوتوا له بوصفه مرشحا معارضا لما وكَّل نائبا من الموالاة
للتصويت عنه في قضية تعتبر من أخطر وأهم القضايا التي عرضت على البرلمان
الموريتاني منذ تأسيسه. الكارثة الأكبر أن النائب كان قريبا من الجمعية الوطنية
لحظة التصويت نيابة عنه!! نائب آخر لم نسمع باسمه، ولم نسمعه خلال السنوات الماضية
يتحدث ولو بشطر كلمة عن مشاكل مقاطعته أو عن مشاكل موريتانيا بصفة عامة، وكانت
المرة الأولى التي سمعنا فيها صوته، هي تلك المرة التي سمعناه فيها وهو يطالب
بتأسيس مملكة في هذه البلاد، وتنصيب الرئيس ملكا!!
نائب آخر سمعناه منذ أقل من شهرين يقول ومن تحت قبة
البرلمان وبالحرف الواحد: "سأتحدث بالفرنسية لأن هذا المشكل يمسني في
القلب" ، وكأن لغاتنا ولهجاتنا الوطنية أصبحت كلها عاجزة عن التعبير عن كل ما
يمس قلب النائب. هذا النائب الذي أساء إلى لغاتنا الوطنية ورفع من مكانة لغة
المستعمر هو نفسه النائب الذي سيطالب بتغيير العلم، وسيقول وبالحرف الواحد: "إن
المستعمر هو من أعطانا هذا العلم ولم نستشر في اختياره"!! . فعن أي
مُستعمر يتحدث السيد النائب، فهل يعني به ذلك الذي تملكت لغته القلب والوجدان؟ وهل
يعتقد النائب بأننا سنصدقه عندما يقول بأنه يريد تغيير العلم لأن المستعمر هو الذي
اختاره لنا؟ نائب آخر يسيء إلى اللغة العربية، ويهين المادة السادسة من الدستور
الموريتاني، وبعد ذلك يصوت لتغيير العلم الوطني حتى يكون أكثر تعبيرا عن روح
المقاومة!
شيءٌ آخر هل سمعتم عن نائب واحد من نوائب الجمعية الوطنية عاد إلى مقاطعته
واستشار ناخبيه في هذه القضية الجلل التي تتعلق بتغيير بعض ثوابت ورموز الوطن؟
بالتأكيد لم تسمعوا بشيء من ذلك، ولكنكم في المقابل سمعتم عن نواب ترددوا فرادى
وجماعات على القصر الرئاسي، وسمعتم عن لقاءات فردية وعن قطع أرضية وعن تعيينات وعن
أشياء أخرى. من هنا يمكن القول بأن 121 "نائبة" ( من نوائب الدهر) التي
صوتت على التعديلات الدستورية لم تعبر عن رأي الشعب، وإنما عبرت عن رأي السلطة
التي توزع القطع الأرضية، وتجود بالأموال، وتتكرم بالتعيينات.
ومن قبل أن أختم هذه الجزئية يبقى أن أقول بأن
القضايا التي تتعلق بتغيير الثوابت ورموز الوطن لا يجوز عرضها على البرلمان
الحالي، حتى وإن افترضنا جدلا بأن البرلمانيين سيعبرون عن رأي ناخبيهم. إن القضايا
التي تتعلق برموز الوطن يجب أن لا تعرض إلا على برلمان يمثل كل أطياف المجتمع
كالبرلمان السابق. أما البرلمان الحالي فلا يمثل كل الشعب الموريتاني، وقد غابت
عنه أحزاب وازنة، ولذلك فإنه ليس في الأصل
مؤهلا لمناقشة قضايا قد يترتب عليها المساس برموز الوطن وبثوابته.
رسالة إلى مجلس الشيوخ
إن هذه المسيرة الحاشدة التي تم تنظيمها قبيل عرض
التعديلات الدستورية على مجلس الشيوخ قد أبرقت رسالة عبر البريد السريع إلى مجلس
الشيوخ مفادها أن هناك ظهيرا شعبيا قويا لمجلس الشيوخ ، إن قرر هذا المجلس، أن
يرفض التعديلات الدستورية.
إن على مجلس الشيوخ أن يعلم بأنه عندما يرفض
التعديلات الدستورية، فإنه بذلك سيكون قد حقق مصالح وطنية كبرى، هذا بالإضافة إلى
المصالح الخاصة التي سيحققها لهيئته، ومن هذه المصالح العامة والخاصة يمكنني أن
أذكر:
1 ـ أن يسد بابا كان سيأتي منه شر كبير لهذا
الوطن، فأي شر أخطر من أن يستيقظ الموريتانيون على علمين للبلاد: علم خاص بالسلطات
الرسمية ، وعلم آخر خاص بالشعب الموريتاني، وأي شر أخطر من أن يفتح الباب أمام
تغيير الرموز الوطنية في غياب التوافق والإجماع؟ لقد أصبحنا نسمع بمن يطالب بتغيير
اسم البلاد من تحت قبة البرلمان، ولقد أصبحنا نسمع بمن يطالب بجعل اللغة الفرنسية
لغة رسمية للبلاد، ومن المؤكد\ بأننا سنسمع في حالة تغيير العلم بأصوات جديدة
تُطالب بضرورة إضافة رموز وصور أخرى للعلم الجديد حتى تجد كل الشرائح والفئات
والأعراق والمكونات نفسها في هذا العلم الجديد، وقد أصبحنا نسمع بالفعل بشيء من ذلك كالمطالبة بإضافة قلم ودواة للعلم
الجديد حتى تمثل المقاومة الثقافية، وبإضافة رموز تعبر عن لحراطين وأخرى تعبر عن
لمعلمين، وستسمعون قريبا عن المطالبة بإضافة رموز وصور لهذا العلم للتعبير عن
الزوايا ولعرب، وعن البولار والولف والسنونكي، وعن أهل الشرق والكبلة وعن أهل
الساحل وعن أهل الضفة وعن كل من سيكن في هذه البلاد من إنس وجان.
إن تغيير العلم سيفتح على هذه البلاد الكثير من
أبواب الشر، وإذا ما تمكن مجلس الشيوخ من سد باب الشر هذا، فإنه بذلك سيكون قد حقق
مصلحة وطنية كبرى.
2 ـ إن مجلس الشيوخ إذا ما صوت ضد التعديلات
الدستورية فإنه بذلك يكون قد رد الصاع صاعين إلى الحزب الحاكم وإلى الحكومة، فمن
المعلوم بأن قيادات حزبية ووزراء في حكومة ولد حدمين قد أساؤوا في وقت سابق إلى
هذه الهيئة الدستورية خلال حملة شرح مضامين خطاب النعمة. ولقد بلغ الأمر بأحد الوزراء
بأن وصف مجلس الشيوخ في مهرجان جماهيري بمجلس العجزة. إن الفرصة متاحة للمجلس للرد على إهانات
الحكومة والحزب، فرفض التعديلات الدستورية سيؤدي في أغلب الظن إلى إقالة الحكومة
وإلى نزع الثقة من قادة الحزب الحاكم.
3 ـ من المصالح الخاصة التي ستتحقق لمجلس الشيوخ
إن صوت هذا المجلس ضد التعديلات الدستورية هو أن ذلك الرفض سيعيد الاعتبار لهذه
الهيئة الدستورية التي كان ينظر إليها من طرف نوائب الجمعية الوطنية على أنها هيئة
طفيلية لا قيمة لها. فأن يمرر نوائب الجمعية الوطنية التعديلات الدستورية بتلك
الطريقة المهينة التي شاهدنا، وأن يرفض مجلس الشيوخ تمريرها، فإن ذلك سيرفع كثيرا
من مكانة الشيوخ وسيهوي بالنوائب إلى الحضيض.
4 ـ إن رفض التعديلات الدستورية من طرف مجلس
الشيوخ سيحول دون إلغاء هذا المجلس بطريقة مذلة ومهينة كهذه التي تراد له من خلال
إجبار الشيوخ على التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، وهي التعديلات التي ستشطب على
مجلسهم لتزيله نهائيا من الوجود.
يبقى أن أقول في الأخير بأني قد فكرتُ كثيرا في
السر الذي يدفع بالرئيس إلى الإصرار على تغيير العلم الوطني في مثل هذه الظروف
الصعبة التي تمر بها البلاد، ولم أجد من تفسير مقنع غير تفسير واحد أتمنى أن يكون
غير صحيح.
يقول هذا التفسير بأن الرئيس الذي فشل في تشريع
مأمورية ثالثة، والذي يبدو أنه يجد صعوبة شديدة في توريث الحكم لخليفة مؤتمن، قد بدأ
ـ ومنذ فترة ـ يفكر في طريقة أخرى للبقاء في الحكم، وتتمثل هذه الطريقة في جر
البلاد إلى حافة حرب أهلية، وحينها سيضطر الموريتانيون لأن يختاروا التضحية
بديمقراطيتهم مقابل عدم تفكك البلاد وحمايتها من حرب أهلية بذل النظام القائم جهدا
كبيرا في إشعالها، وذلك من خلال صناعة متطرفين في كل الأعراق والشرائح ، وفتح المنابر
لهم لبث خطاباتهم المسمومة.
إن تصويت الشيوخ ضد التعديلات الدستورية سيساهم
في إفشال هذا المخطط الخطير في حالة وجوده.
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق