يشكل شهر فبراير ومن قبله شهر
يناير مناسبة هامة للتوقف مع الثورات العربية، ولأخذ الدروس والعبر من تلك
الثورات، ويتأكد ذلك في هذا العام الذي يعد هو العام الخامس من عمر تلك الثورات.
ومع أن الوقت لا يزال مبكرا للحكم على ما بات يعرف بالربيع
العربي، إلا أنه ورغم ذلك فيمكن القول بأن التحدي أو السؤال الأبرز الذي على أي
معارضة طامحة إلى التغيير أن تطرحه بعد هذه السنوات الخمس هو : ما السبيل الأمثل لتخليص
البلاد من الاستبداد ومن حكم العسكر دون إدخالها في الفوضى والفتن؟
هذا هو السؤال الأبرز الذي على المعارضة الموريتانية أن تبحث
له عن إجابة شافية، خاصة وأن السنوات الخمس الماضية كانت قد تركت انطباعا خاطئا
لدى عدد من المهتمين بالشأن العام مفاده أن الخيارات قد باتت محدودة، وأن دول هذه
المنطقة من العالم قد حكم عليها بأن تعيش إما في ظل دكتاتورية "آمنة" أو
في ظل ديمقراطية الفتن والفوضى. إنه على
المعارضة الموريتانية أن تبحث عن إجابة شافية لهذا السؤال، ومن المؤكد بأن الإجابة
عليه لن تأتي أبدا من معارضة تعمل على إطالة عمر الاستبداد من خلال مساهمتها في
تشريع ديمقراطيته الشكلية، سواء كان ذلك من خلال المشاركة في حوارات عبثية أو في
انتخابات غير شفافة، ولن تأتي أيضا تلك الإجابة من معارضة ينحصر دورها في تأزيم
الأوضاع من أجل خلق الظروف المناسبة لحدوث انقلاب عسكري جديد، أو لاندلاع ثورة لا تتحكم تلك المعارضة في مسارها، ولا في مآلاتها.
لا خير في "المعارضة التجميلية" فهذا النوع من
المعارضة لن يؤدي إلا لتشريع الاستبداد وإطالة عمره، ولا خير أيضا في "معارضة
التأزيم"، فهذا النوع من المعارضة لن يؤدي إلى تغيير حقيقي، هذا النوع من
المعارضة لن يؤدي إلا لتهيئة الظروف لحدوث انقلاب عسكري جديد أو لانفجار فوضى لا تبقي
ولا تذر.
إننا بحاجة إلى معارضة واعية وراشدة لا تقبل من جهة بأن
تستخدم كمساحيق تجميل تطلى بها هياكل "مؤسسات دستورية" ميتة أفرزتها
ديمقراطية شكلية، ولا تقبل من جهة ثانية بأن تكتفي بلعب دور "المؤزم" الذي
يتوقف دوره عند تهيئة الظروف المناسبة لحصول انقلاب عسكري أو لاندلاع ثورة لا يمكن
التحكم في مسارها.
إننا بحاجة إلى معارضة واعية وحذرة تدرك بأنها كلاعب السرك
الذي يسير على حبل مشدود معلق في الهواء، مما يعني بأن أي حركة أو أي خطوة غير
محسوبة قد تؤدي بها إلى السقوط في الهاوية، ولا يهم إن كانت تلك الخطوة غير المحسوبة
في اتجاه تلميع ديمقراطيتنا الشكلية، أو كانت في الاتجاه الآخر، أي في اتجاه تأزيم
الأوضاع دون أن تصاحب ذلك التأزيم خطة مدروسة ومحكمة تضمن التحكم في زمام المبادرة
في اللحظة الحاسمة، بدلا من ترك زمام المبادرة
بيد ضابط كان يتحين الفرص، وكان ينتظر بفارغ الصبر قدوم تلك اللحظة الحاسمة للانقضاض على السلطة.
إنه على المعارضة ـ ومن الآن ـ أن ترسم خطة إستراتيجية واضحة
المعالم للتعامل مع هذا النظام القائم، والذي تقول كل الدلائل بأنه قد دخل في المرحلة
الحرجة من عمره.
نظام يحتضر
إن كل الدلائل تقول بأن نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد
دخل في مرحلة سكرات الموت، ولا يعني هذا بطبيعة الحال بأن هذا النظام سيتم نعيه
بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين . إن سكرات الموت عند الأنظمة الحاكمة تختلف عن
سكرات الموت عند الكائنات الحية، فسكرات الموت عند الأنظمة قد تستمر لسنوات، وهنا
تكمن الخطورة، فمن المعلوم بأنه كلما طالت سكرات الموت بالنسبة لأي نظام حاكم، فإن
ذلك سيؤدي حتما إلى مزيد من ضعف الدولة وربما يؤدي إلى انهيارها، لا قدر الله.
إن كل الدلائل تشير بأن النظام القائم قد دخل في مرحلة
الاحتضار، ومرحلة الاحتضار هذه قد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة، ومن العلامات
الدالة على أن النظام القائم قد دخل في مرحلة الاحتضار يمكننا أن نذكر:
1 ـ لقد استنفد النظام القائم كل الأوراق التي كانت بحوزته،
ولم يعد بإمكانه أن يلوح بورقة جديدة، فالحرب على الفساد، والاهتمام بالفقراء، وتجديد
الطبقة السياسية، والاعتناء بالشباب، كل هذه الأوراق قد احترقت، وحتى ورقة الحوار
ـ آخر أوراق هذا النظام ـ فإنها هي أيضا
قد بدأت تحترق. إن سكرات الموت عند الأنظمة تبدأ في الظهور عندما يتم إحراق كل
الأوراق التي كانت تمتلكها تلك الأنظمة، وهذا هو بالضبط ما حدث مع النظام الحالي.
2 ـ إن من أهم المؤشرات التي تؤكد بأن نظاما ما قد دخل في
مرحلة سكرات الموت، هو أن تبدأ الأزمات التي يعاني منها ذلك النظام تتحول من أزمات
صامتة إلى أزمات ناطقة. لقد عرف النظام القائم العديد من الأزمات في السنوات
الماضية، ولكنها في مجملها ظلت أزمات صامتة، من قبل أن تتحول في الفترة الأخيرة
إلى أزمات ناطقة، وإن من أخطر هذه الأزمات الأزمة الاقتصادية التي بدأت تنطق، بل
وتصرخ في كل مكان : في الوزارات؛ في المؤسسات العامة؛ في الشركات الخاصة؛ في قصور
الأغنياء؛ في أكواخ الفقراء،؛ في المتاجر؛ في المزارع؛ في المصانع؛ في الشواطئ؛ في
المدن؛ في القرى؛ في الأرياف..
3 ـ إن انحسار
الموارد وركود القطاعات هو أقوى دليل على أن النظام القائم قد دخل في مرحلة
الاحتضار، فقطاع الصيد قد تم تنظيم جنازة له في الأيام الماضية في مدينة
"نواذيبو"، ولم تتم عملية الدفن بسبب الديون المتراكمة على هذه الجنازة،
والقطاع الزراعي يعاني، وقطاع المعادن يعاني، وشركة "اسنيم" مهددة
بالانهيار، والقطاع المالي والمصرفي يعاني هو الآخر. إن انحسار الموارد قد جعل
السلطة القائمة تفرض المزيد من الضرائب، وتصر على الاستمرار في سرقة المواطن من
خلال بيع المحروقات السائلة بأسعار خيالية رغم الانهيار الذي تشهده أسعار النفط في
الأسواق العالمية. لقد أصبحت ميزانية الدولة تعتمد في الأساس على الضرائب، وعلى
الأرباح الخيالية المتحصلة من المحروقات، وتحول الفساد من فساد كان يكتفي بنهب
الموارد والثروات في الأنظمة السابقة إلى فساد أصبح اليوم ينهب المواطن ويسرقه،
وذلك على أساس أن هذا المواطن قد تحول إلى مورد اقتصادي لا ينضب. إن فرض المزيد من
الضرائب على المواطنين سواء كانوا أغنياء أو فقراء في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة
هو مظهر آخر من مظاهر دخول هذا النظام في مرحلة الاحتضار.
4 ـ إن من أقوى الأدلة
على دخول الأنظمة في مرحلة الاحتضار هو أن تفقد تلك الأنظمة القدرة على إطلاق
مشاريع جديدة، وأن تكتفي بإدارة وتسيير الأزمات حتى لا تجرفها تلك الأزمات، ومن
الملاحظ بأن النظام القائم لم تعد لديه القدرة على إطلاق وتنفيذ مشاريع كبرى، ولم
يعد لديه من شغل غير إدارة وتسيير الأزمات والمصائب التي تعددت أشكالها في الفترة الأخيرة
(ملف المخدرات؛ ملف "ماسينا"؛ ملف هروب السجناء؛ ملف مدرسة نسيبة1...).
5 ـ إن من علامات احتضار الأنظمة هو أن يدب اليأس في نفوس
الأنصار والمطبلين. ومن المعروف بأن النظام القائم كان قد قاد في سنواته الأولى
هجوما شرسا وكاسحا على المعارضة وعلى قادتها الذين كان يصفهم بأنهم مجرد شرذمة من
المفسدين ومن رموز الأنظمة السابقة. في تلك السنوات وجدت المعارضة صعوبة كبيرة في
الدفاع عن نفسها، أما اليوم فقد تغير الأمر تماما، وأصبحت المعارضة هي من يتهم
النظام القائم بالفساد، وبأنه امتداد للأنظمة السابقة. ولقد ظل أنصار النظام، وإلى
وقت قريب، يدافعون عنه، ولكنهم في الفترة الأخيرة رفعوا الراية البيضاء وتملكهم
اليأس والإحباط (تحضرني الآن أسماء العديد من الكتاب والمدونين الموالين الذين لم يكتب
أي واحد منهم ومنذ فترة ليست بالقصيرة أية كلمة للدفاع عن النظام القائم).
6 ـ إن من مظاهر دخول الأنظمة الحاكمة في مرحلة الاحتضار هو
أن يظهر النظام الحاكم وكأنه لا يدرك خطورة الأزمات التي يتخبط فيها، ولا يعي حجم
المخاطر التي تحيط به، ولذلك فقد يتصرف النظام الذي يحتضر بتصرفات غريبة، قد تزيد من حجم ومخاطر الأزمات والمصائب التي
تحيط به. إنه من الملاحظ بأن النظام القائم لا يعي حجم المخاطر المحدقة به، ولو أن
هذا النظام كان يدرك حجم تلك المخاطر المحدقة به لسارع إلى الحوار، ولهيأ الظروف
المناسبة لحصول توافق وطني لعل ذلك يساعده في الخروج من الأزمات الكثيرة التي
يتخبط فيها.
7 ـ إن تشظي النواة الصلبة لأي نظام حاكم، وتحولها إلى مجموعة
من الأقطاب والشظايا المتصارعة فيما بينها، والقابلة للمزيد من التشظي لهو أقوى
دليل على أن لموت الأنظمة سكرات. لا أعتقد بأني بحاجة لأن أقول لكم بأن ظاهرة
التشظي قد بدأت في الفترة الأخيرة تصعد إلى أعلى الهرم، وأنها قد بدأت في تفكيك
النواة الصلبة للنظام القائم.
إنه يمكننا أن نقول وبكل اطمئنان بأن النظام القائم قد دخل في
مرحلة الاحتضار، ولكن يبقى السؤال المطروح هو : ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع
نظام يحتضر؟
من قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال قد يكون من المهم
التوقف بشكل سريع مع قضيتين أثارتا في الفترة الأخيرة جدلا كبيرا:
المنتدى والحوار
لقد كنتُ من الذين بذلوا في الفترة الماضية جهودا كبيرة من
داخل المنتدى ومن خارجه من أجل تجاوز العراقيل التي قد تعيق انطلاق الحوار، ولقد
كنتُ من الذين طالبوا بمنح فرصة جديدة للوزير الأمين العام للرئاسة إن كان يفكر
حقا في تقديم رد مكتوب على وثيقة الممهدات. ولقد تبين لي في نهاية المطاف، وكما
تبين لغيري من المتحمسين للحوار من داخل المنتدى، بأن السلطة تتعامل مع ملف الحوار
بطريقة هزلية وبسلوك صبياني طائش. لستُ نادما على أني كنتُ من الذين طالبوا بمنح
الوزير الأمين العام للرئاسة كل الفرص الممكنة، ففي اعتقادي بأن ذلك، وفي المحصلة النهائية، قد كشف للشعب الموريتاني
بأن السلطة هي من يعرقل فعلا إطلاق الحوار. لقد بذل المنتدى كل ما في وسعه من أجل
إطلاق الحوار، ولقد تعامل مع مكالمات الوزير الأمين العام للرئاسة بشيء كثير من
الإيجابية، وهو الشيء الذي جعله ـ أي المنتدى ـ يظهر للرأي العام وكأنه يتسول
الحوار من السلطة. فبعد هذا كله، لم يعد لدى المنتدى ما يفعله الآن في ملف الحوار
سوى أن يعلن للشعب الموريتاني عن فشل المسار السابق، وأن يسحب من بعد ذلك وثيقة
ممهداته، فإن قررت السلطة من بعد ذلك أن
تدعو إلى حوار جديد فلتفعل، ولكن عليها في هذه الحالة أن تعلم بأنها ستبدأ من
الصفر، وعليها أن تتوقع من المنتدى أن يطالب بضمانات أقوى من تلك الضمانات التي
كان قد سطرها في وثيقة ممهداته.
مهرجان الوفاء والصمود
لستُ هنا بصدد الحديث عن نجاح مهرجان الوفاء والصمود، فنجاح
هذا المهرجان ليس محل نقاش. ما سأتوقف عنده هنا هو ذلك التعهد الذي قدمه رئيس حزب
التكتل خلال المهرجان، والذي التزم بموجبه للرئيس محمد ولد عبد العزيز بعدم
المحاكمة وبعدم مصادرة الأموال إن هو قرر الاستقالة. لقد أثار هذا التعهد نقاشا
حادا في مواقع التواصل الاجتماعي، ولذلك فقد يكون من المهم تقديم ثلاث ملاحظات
سريعة:
الأولى: أن البعض كان قد استغرب تقديم رئيس حزب التكتل لضمانات
باسم الشعب الموريتاني، والغريب أن كل من استغرب ذلك لم يتجنب هو أيضا أن يتحدث
باسم الشعب الموريتاني، وأن يعلن باسم هذا الشعب رفضه لتلك الضمانات. دعونا نتفق من
حيث المبدأ بأنه لا أحد يمكنه أن يتعهد باسم الشعب الموريتاني، وإذا كان هناك من
يحق له التعدي على ذلك المبدأ، والتحدث بالتالي باسم الشعب الموريتاني، فسيكون
رئيس حزب التكتل هو الأولى بذلك لأنه على الأقل، كان في تلك اللحظة التي تعهد فيها
باسم الشعب الموريتاني يتحدث باسم جماهير
غفيرة من هذا الشعب ضاقت بها ساحة مسجد ابن عباس.
الثانية: إن هذه النازلة لا يمكن أن يفتي فيها إلا فقهاء
القانون الدستوري، ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن المنطق يقول بأنه لو تخلى الرئيس
محمد ولد عبد العزيز عن السلطة لسبب أو لآخر، ولو تم الإصرار من بعد ذلك التخلي
على محاسبته، مع ترك من سبقه من الرؤساء دون محاسبة (الرئيس سيدي؛ الرئيس أعل؛ الرئيس
معاوية..) فإن تم مثل ذلك لوجدنا أنفسنا أمام
تمييز ظالم وغير إيجابي في مجال المحاسبة والعقوبة، ولو أننا حاسبنا هؤلاء
الرؤساء الأربعة وتركنا الوزراء ورجال الأعمال وكبار الموظفين وصغارهم ممن نهب
وأفسد خلال فترة حكم هؤلاء الرؤساء الأربعة، لو فعلنا مثل ذلك لكنا أيضا قد مارسنا
تمييزا ظالما وغير إيجابي في مجال المحاسبة والعقوبة. ولو أننا فكرنا في أن نحاسب
كل من أفسد ونهب في تلك العهود، لوجدنا أنفسنا أمام مشكلة عويصة، ستفرض علينا
استيراد قضاة وسجانين من خارج موريتانيا ليتولوا محاسبة شعب كامل قل من نجا منه من
"صغائر" النهب والفساد خلال العقود الثلاثة الأخيرة. إن عامة هذا الشعب
قد لا يرضيها في هذا المجال الأخذ بمبدأ "عفا الله عما سلف"، ولكن عدم
الأخذ بهذا المبدأ قد يوقع الكثير من العامة تحت طائلة الحساب والمعاقبة، ومن هنا
يظهر أننا أمام مشكلة في غاية التعقيد.
الثالثة : إن مناقشة
ما جاء في تعهد رئيس حزب التكتل ستعيدنا إلى عبر ودروس الثورات العربية، فهناك
درسان هامان قدمتهما الثورات العربية يجب علينا في هذه البلاد أن نتوقف معهما
كثيرا، فالدرس الأول موجه إلى المعارضة وهو أن التغيير قد لا يكون آمنا، ومن هنا
يجب الحذر دائما حتى لا يتحول التغيير المنشود إلى تغيير غير آمن. أما الدرس
الثاني فهو موجه إلى السلطة القائمة وهو أنه عليها أن تعمل من أجل ضمان الخروج الآمن
من السلطة، وما كل خروج من السلطة سيكون بآمن. إن السؤال الذي علينا أن نطرحه هنا
هو كالتالي: هل يجوز للمعارضة الموريتانية أن تقايض التغيير الآمن بالخروج الآمن
من السلطة؟ في اعتقادي بأن تلك المقايضة ستحقق مصلحة وطنية كبرى، خاصة إذا ما
علمنا بأننا قد ابتلينا في هذه المنطقة من العالم برؤساء على استعداد لأن يدمروا
ويخربوا كل شيء في سبيل البقاء في السلطة. إن من الأخطاء التي وقعت فيها الثورات
العربية هو أنها لم توفر مخرجا آمنا للرؤساء الذين ثارت عليهم شعوبهم، ولعل
الاستثناء الوحيد هو الرئيس التونسي الذي تمكن من الهروب الآمن إلى السعودية،
وربما يكون ذلك قد ساهم مع أسباب أخرى في قبول الرئيس المصري للتنحي في وقت مبكر،
ولكن ما تعرض له من بعد ذلك الرئيس المصري من إذلال ومن محاكمة قد جعل الرؤساء من
بعده يتمسكون بالسلطة أكثر (القذافي، بشار، وإلى حد ما على عبد الله صالح)، ولذلك
فقد دمروا بلدانهم وخربوها بعدما أيقنوا بأن الثورة لما تنتصر ستحاكمهم على تاريخ حافل
بالجرائم والخيانة والفساد.
إنه من السذاجة بمكان أن نتوقع من رئيس فاسد أن يقبل بالخروج
من السلطة إلى حبل المشنقة، وإنه من اللعب بالنار أن تضيق الخناق على رئيس مفسد،
وأن لا نترك له مخرجا آمنا، خاصة وأننا نعلم بأنه يملك من وسائل التدمير والخراب الشيء الكثير،
وبأنه قد لا يتورع عن استخدام تلك الوسائل إذا ما تمت محاصرته من كل الجهات.
إن هذه الملاحظات الثلاث ستقودنا إلى جواب السؤال الذي طرحناه
في وقت سابق، والذي يقول : ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع نظام يحتضر؟
في اعتقادي بأن الجواب على هذا السؤال يجب أن يأخذ بعين
الاعتبار النقاط الخمس التالية:
1 ـ أن تستغل المعارضة كل الأزمات التي يتخبط فيها النظام
استغلالا ذكيا، وأن توظف تلك الأزمات في نضالها، وذلك من خلال الرفع من حجم
احتجاجاتها في الفترة القادمة إلى أن يتيقن الرئيس بأن البقاء في السلطة لم يعد
مريحا، وبأنه سيكون مستحيلا عليه وعلى أي خليفة له من بعد اكتمال المأمورية
الثانية.
2 ـ أن تحسم المعارضة موقفها من مسألة مقايضة التغيير الآمن
بالخروج الآمن، وأن تعلن عن ذلك الموقف بلغة صريحة وفصيحة.
3 ـ أن يتم الإعلان
عن إلغاء مسار الحوار السابق، مع إبداء الاستعداد الكامل لإطلاق مسار جديد بسقف
أعلى في الشق السياسي والانتخابي على أن يتحول ما تبقى من المأمورية الثانية إلى
فترة انتقالية حقيقية لتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسة في ظروف شفافة.
إن وثيقة الممهدات قد حملت في طياتها العديد من الأخطاء، وفي
اعتقادي بأن الفرصة قد حانت للتخلص من هذه الوثيقة. إن ما تضمنته هذه الوثيقة من
مطالبة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية لم يكن موضوعيا، ولو كان النظام القائم قادرا
على تلك الإصلاحات لما كانت هناك أصلا ضرورة للحوار. كما أن النقطة المتعلقة
بضرورة إعلان الرئيس عن ممتلكاته لابد وأنها ستثير مخاوف الرئيس، وستجعله يتأكد
بأن هناك نية سيئة لمحاسبته بعد تركه للسلطة، وهذا مما قد يعرقل الخروج الآمن من
السلطة في مقابل التغيير الآمن.
يبقى أن أشير في الأخير بأن الشق السياسي والانتخابي في وثيقة
الممهدات، والذي كان يجب التركيز عليه في هذه المرحلة، لم يكن على المستوى الذي
تتطلبه المرحلة، ولذلك فهناك حاجة ماسة لرفع سقفه.
4 ـ من المهم أن تضع المعارضة خطة واضحة للتعامل مع أي انقلاب
عسكري قد يحصل في الفترة القادمة، على أن تشمل تلك الخطة وضع آليات محكمة لمنع عودة
النظام المنقلب عليه، وكذلك لمنع بقاء الانقلابيين الجدد في السلطة حتى ولو كان
ذلك البقاء لمجرد فترة انتقالية قصيرة جدا. هذه النقطة لا تعني بأنه على المعارضة
أن تحذر كل ضابط يفكر في الانقلاب مما يفكر فيه، ولا تعني أيضا بأنه على المعارضة
أن تحرم أي ضابط قاد انقلابا على هذا النظام الانقلابي من التوشيح والتكريم. إن
الأمر هنا يتعلق فقط بالحرمان من التمسك السلطة، أو البقاء فيها، حتى ولو كان ذلك
لفترة انتقالية قصيرة جدا.
5 ـ على المعارضة وبكل أطيافها أن تحاول أن تتجمع من جديد في
إطار موحد مع العمل على الاستفادة من تجارب وأخطاء الماضي. ربما يكون لهذا الحديث
بقية..
حفظ الله موريتانيا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق