تعودنا في هذا البلد أن نجيب على الأسئلة المطروحة بإلحاح، بإجابات خاطئة وقاصرة على طريقة الإجابة على السؤال الشهير : من ذا الذي ركل القطة؟
فالكثير منا يغمض العين عن تسلسل الأحداث في انتظار حدوث اللقطة الصادمة في المشهد، والمتمثلة في ظهور طفل غاضب يركل بعنف قطته المدللة التي عودها على أن يستقبلها بالحنان، إلا أنه في هذه المرة قرر أن يستقبلها بركلة قوية بدلا من احتضانها عندما جاءته كعادتها مسرعة لتستقبله عند باب المنزل.
فما الذي جعل الطفل في ذلك
اليوم يركل قطته التي يحبها حبا كبيرا؟
وهل حقا أن الطفل هو الذي ركل
القطة كما يقول المشهد الأخير من القصة؟ أم أن من ركل القطة حقا هم مجموعة من
الأشخاص الآخرين على رأسهم زوجة مدير الشركة التي تعمل بها والدة الطفل الذي ركل
القطة؟
تقول القصة في إحدى رواياتها
بأن زوجة المدير غضبت عليه في ذلك اليوم غضبا شديدا، فما كان من المدير إلا أن غضب
على مديره المالي، والذي غضب بدوره على السكرتيرة (والدة الطفل)، تلك السكرتيرة
التي لم تجد غير ابنها لتغضب عليه، والذي لم يجد هو بدوره إلا قطته ليركلها بقوة،
وذلك في محاولة منه لتفريغ شحنة الغضب التي استودعتها فيه والدته السكرتيرة، وهي
شحنة جاءت بها الوالدة من الشركة التي تعمل بها.
في العادة فإن الكثيرين
سيحملون جريمة ركل القطة للطفل الصغير لوحده، ولكن الحقيقة هي أن هنالك خمسة من
المجرمين قد تآمروا على القطة المسكينة فركلوها بلا سبب، وإذا ما حاولنا أن نرتب
أولئك المجرمين الخمسة حسب مشاركتهم في صنع الجريمة فسنجد أن الطفل يأتي في
المرتبة الخامسة في ترتيب المجرمين، حتى وإن كان هو الذي قام فعلا ـ وبدون أي
مشاركة ظاهرة من أي شخص آخر ـ بركل القطة المسكينة.
لا شك أن الطفل قد ارتكب
جريمة تستحق العقاب، وذلك لأنه ركل قطة مسكينة لم ترتكب ذنبا يستوجب تلك الركلة،
ولكن علينا من قبل أن نُعاقب الطفل الصغير، أن نعاقب من قبله أربعة شركاء
آخرين ساهموا ـ وبشكل فعال ـ في صنع الجريمة، وذلك لأنهم هم الذين أجبروا
طفلا مسكينا وبريئا، ودفعوه إلى أن يركل قطته المسكينة، والتي لا شك أنه
يحبها حبا كبيرا، حتى أثناء تلك اللحظة التي ركلها فيها بلا سبب.
و بالموريتاني الفصيح والصريح
أيضا، فيمكننا القول بأن العمال في ازويرات قد ارتكبوا جريمة نكراء عندما
أشعلوا النيران في مبنى الولاية وفي مقر الإذاعة الجهوية، ولكن بالعودة إلى قصتنا
السابقة فالعمال ليسوا إلا كالطفل الذي ركل القطة، فهم ليسوا وحدهم من ارتكب تلك
الجريمة النكراء، بل كان معهم شركاء أكثر جرماً، وهم على التوالي : زوجة المدير،
والمدير العام، والمدير المالي، والسكرتيرة، أي نفس الشركاء الأربعة الذين أجبروا
الطفل على أن يركل قطته المسكينة.
يقول تسلسل أحداث جريمة
ازويرات من قبل الوصول إلى لقطتها الصادمة التي شاهدتموها بالأمس بأن هناك الآلاف
من عمال الباطن بالشركة الوطنية للمعادن، كان قد وعدهم "رئيس الفقراء"
في حملته الانتخابية بأنه بعد نجاحه في الانتخابات سيقوم بحل كل مشاكلهم، خاصة
منها تلك المرتبطة بعملية الاستغلال البشعة التي تمارسها ضدهم حفنة قليلة من
الوسطاء الجشعين.
وتقول القصة في صفحة من
صفحاتها بأن الرئيس قام بتجديد ذلك الوعد للعمال في زيارة قام بها لمدينة ازويرات
بعد فترة من فوزه في الانتخابات. وتقول أسطر أخرى غير مشرفة من القصة بأن العمال
قد تعرضوا لعملية خداع كثيرة خلال سلسلة من المفاوضات العبثية.
المهم أن مأمورية الرئيس قد
أوشكت على نهايتها، ولكن مشكلة عمال الباطن ما تزال كما هي، ولم يظهر في سماء
ازويرات، ولا في أفقها المغبر بأن هناك أملا في أيجاد حل لتلك المعاناة التي بدأت
منذ عقود من الزمن.
والآن، لنترك زوجة المدير،
ودعونا نتحدث عن المدير العام للشركة، وعن شركائه المباشرين: وزير الداخلية الذي
لا يتقاعد أبدا، ووالي الولاية أو جنرالها الذي لا يتعظ أبدا.
فالمدير العام للشركة ظل يُصر
دائما على أن يغلب مصلحة مجموعة من الوسطاء الجشعين، والتي لن تشبع أبدا حتى ولو
ابتلعت كل معادن الشمال، على مصالح آلاف العمال الذين يرجع لهم الفضل في وصول
الشركة الوطنية للمعادن إلى ما وصلت إليه.
أما الوزير الذي لا يتقاعد
أبدا، والوالي الذي لا يتعظ أبدا فيكفيهما جرما أنهما رفضا أن يستمعا للعمال، في
لحظة حرجة، ولو أنهما استمعا للعمال في تلك اللحظة الحرجة، لما حصل ما حصل.
ترك الوزير والوالي المدينة
وهي تغلي، تركاها وذهبا في رحلة بلا معنى إلى مدينة أطار.
أما الشريك الثالث في الجريمة
فهو المدير المالي في الشركة، والذي نعني به كل الأسباب الخفية التي أدت إلى حدوث
الجريمة، والتي لن يتوقف عندها أي أحد.
فمنذ عامين تقريبا، تحركت
مجموعة من نشطاء نواذيبو ونظمت قافلة مظالم قطعت مئات الكيلومترات مشيا على
الأقدام، وكانت تلك القافلة واحدة من بين الاحتجاجات الأكثر سلمية في كل
تاريخ الاحتجاجات بالبلد.
استقبل الرئيس نشطاء نواذيبو
ووعدهم بتحقيق مطالبهم، ولكن، وإلى حد الآن، فلم يتحقق أي مطلب من تلك المطالب،
حتى النساء المشاركات في القافلة بخل عليهن الرئيس بقطعة أرضية لتعويض القطع
المنتزعة منهن.
أيضا تحركت جماعة "كواس
حامل شهادة"، وجماعة "أنا علمي" بشكل سلمي، ووعدهم الرئيس بتلبية
مطالبهم، ولكن ذلك ظل مجرد وعد عابر تم إطلاقه في لقاء عابر بالمجموعتين.
تحرك شباب كرو بشكل سلمي، وتحرك شباب كثير من المدن والقرى الموريتانية طلبا لتوفير
الماء في هذا الصيف الساخن. فهل تمت الاستجابة لمطالبهم؟
إن هذا التجاهل المستمر
للاحتجاجات السلمية والمتحضرة هو الذي قد يدفع بالبعض بأن يُحدث صخبا أو يرتكب
جريمة ليلفت الانتباه لمعاناته، ويبدو أن النظام القائم يشجع ـ بقصد أو بغير قصد،
بوعي أو بغير وعي ـ ارتكاب مثل تلك الجرائم.
أكاد أجزم بأن كل مطالب
العمال في ازويرات ستتم تسويتها بعد أن احترقت مباني الولاية، ولكن ألم يكن
بالإمكان أن يتم تسوية هذه المطالب خلال أربع سنوات من الاحتجاج السلمي الذي نظمه
العمال في عهد الرئيس الحالي؟ نفس الشيء حصل مع الحمالين الذين لم يفكر النظام
القائم في البحث عن حلول لمشاكلهم إلا بعد أن صاحبت احتجاجاتهم أعمال عنف وشغب، و
نفس الشيء حصل في فصالة التي تم فيها السطو على مبنى المقاطعة، وإشعال النار في
سيارة الإسعاف الوحيدة، ويحصل الآن شيء من هذا النوع مع احتجاجات الناقلين
في مدينة لعيون.
إن النظام يكاد يقول علنا،
ومن خلال أسلوبه هذا، بأن على كل من يريد أن يُستمع له، أو تُحل مشاكله أن لا
يكتفي باحتجاجات سلمية، وإنما عليه أن يقوم بعمل تخريبي حتى يثبت جدارته وأهليته
للتفاوض مع السلطات المعنية.
أما الشريك الرابع في
الجريمة، أو السكرتيرة في قصة الطفل والقطة، فأقصد به كل أولئك الذين ناموا سنين
عددا ولم يستيقظوا إلا يوم أمس لينددوا بجريمة حرق المباني الإدارية في مدينة
أزويرات، وذلك من قبل أن يعودوا إلى نومهم الثقيل في انتظار حدوث فاجعة أخرى
توقظهم من جديد.
لقد استمرت احتجاجات العمال
في ازويرات عدة سنوات، وظلت سلمية، ولكن مع ذلك لم يقف مع العمال أي واحد من كل
هؤلاء الذين استيقظوا فجأة يوم أمس، لينددوا بالجريمة، وذلك من قبل أن
يعودوا إلى نومهم الثقيل.
فيا أيها النائمون دائما
وأبدا إن الجريمة التي حدثت يوم أمس، كان من الواضح ـ ومنذ سنوات ـ بأنها ستحدث في
يوم قادم لا محالة، ولو أنكم استيقظتم من قبل حدوثها، ولو أنكم أظهرتم أي تعاطف مع
العمال المظلومين لكان بالإمكان أن نتفادى وقوعها. ولو أن الإذاعة الجهوية (وهي
واحدة من النائمين الكثر في هذا البلد) استيقظت ولو للحظة من قبل حدوث الفاجعة،
ولو أنها تحدثت ـ ولو لمرة ـ عن معاناة العمال، لما حصل ما حصل، ولربما ساعدها ذلك
في أن تحصن مقرها من أن تلتهمه النيران يوم أمس.
أما الشريك الخامس في
الجريمة، فهو الطفل الذي لن أحدثكم إطلاقا عنه، وذلك لأني على يقين بأنكم ستجدون
الكثير من النائمين الذين سيقولون لكم، من قبل أن يستيقظوا، وقد يقسمون على ذلك،
بأن ذلك الطفل هو وحده من ركل القطة المسكينة يوم أمس في مدينة أزويرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق