بدءا لابد من الاعتراف بأن هذا السؤال هو من ذلك النوع
من الأسئلة التي يمكننا أن نجيب عليه بإجابتين متناقضتين تماما دون أن يجعلنا ذلك
نبتعد عن جزء من الحقيقة. فإن قلنا بأن المعارضة قد أخطأت بموافقتها على مبادرة مسعود فإنه لن تنقصنا أدلة وجيهة ندعم بها ذلك
القول، وإن قلنا بأنها قد أصابت فلن تنقصنا أيضا حججا قوية نغزز بها رجاحة هذا القول الأخير.
وستظل الحيرة قائمة ما لم نحصل من المعارضة على إجابة
على السؤال التالي، فبالإجابة على هذا السؤال سيكون بإمكاننا أن نستبعد إجابة
لصالح أخرى، وأن نعرف إن كانت المعارضة قد أصابت في قبول مبادرة مسعود أم أنها قد أخطأت
بقبولها.
والسؤال هو : هل موافقة المعارضة على مبادرة مسعود قد
جاءت في إطار رؤية واضحة لفرض الرحيل أم أنها مجرد موقف مرتجل لا صلة له بأي إستراتيجية
جديدة لفرض الرحيل؟
فإذا كانت المعارضة قد قررت أن توافق على مبادرة مسعود
في إطار رؤية جديدة لفرض الرحيل فأعلموا بأن المعارضة بموافقتها على مبادرة مسعود
تكون قد اتخذت أفضل قرار يمكن أن تتحذه في مثل هذا الوقت.
وهنا يمكن للبعض أن يطرح السؤال التالي: ولكن كيف يمكن
لهذه الموافقة أن تكون في إطار رؤية جديدة وهي تتناقض تناقضا صارخا مع الشعار
الطويل والعريض الذي رفعته المعارضة منذ ما يزيد على عام، أي شعار فرض الرحيل؟
لا تناقض إطلاقا بين شعار "فرض الرحيل"
والموافقة على مبادرة مسعود بشرط أن تكون هذه الموافقة تدخل في إطار إستراتيجية
جديدة تعتمد على أساليب ووسائل نضالية جديدة لفرض الرحيل.
ولكن متى يمكننا القول بأن هذه الموافقة تدخل في إطار
رؤية جديدة أو إستراتيجية جديدة لفرض الرحيل؟
للإجابة على هذا
السؤال علينا أن نعود قليلا إلى الوراء، وذلك لنبين بأن إستراتيجية المعارضة السابقة لفرض الرحيل، لم تكن هي
المناسبة لفرض الرحيل، وذلك لأسباب عديدة أذكر منها:.
1 ـ أن المعارضة لم توفق في اختيار "اللحظة
المناسبة" لرفع شعار الرحيل، بل بالعكس فقد خذلت الشباب الذي قرر أن يتحرك في
اللحظة المناسبة لرفع ذلك الشعار (مطلع العام 2011).
كان مطلع العام 2011 هو أفضل توقيت لرفع شعار الرحيل،
فقد كان الشعار حينها مغريا وجذابا لغالبية
المواطنين، ولم يكن يحتاج فرض الرحيل في ذلك الوقت إلا أن تتبناه أحزاب المعارضة
من خلال الانضمام لحراك شباب 25 فبراير كما فعلت أحزاب المعارضة في كل من تونس
ومصر، وفي غيرهما.
تقاعست أحزاب المعارضة وانتظرت حتى تكشف للكثير من
المواطنين مدى الصعوبات التي تواجهها الثورات العربية، وحجم الفوضى الذي يمكن أن
ينتج عن تلك الثورات، فإذا بالمعارضة في مثل ذلك الظرف تقرر أن ترفع شعار الرحيل.
2 ـ لقد اتضح لغالبية أنصار المعارضة بأن المعارضة لم
تكن لها إستراتيجية واضحة لفرض الرحيل، لما رفعت ذلك الشعار في الربع الأول من
العام 2012. فكل ما في الأمر هو أن المعارضة قد قررت حينها ـ وبشكل مرتجل ـ أن ترفع شعار
الرحيل، وذلك في انتظار "شيء ما" يحدث . وفي انتظار ذلك الشيء قررت
المعارضة أن تستغل فترة الانتظار بتنظيم مسيرات ومهرجانات متباعدة تَحَمَّس لها
الجمهور في البداية تحمسا شديدا، ولكنه بدأ يشعر بالملل عندما أيقن بأن الأمر لا
يتعدى : دعوة لمسيرة، فمهرجان بساحة ابن عباس، فتبادل للخطب، فتفرق، فسبات، فموعد
جديد.
والآن دعونا نتحدث بصراحة: فما الذي كانت تنتظره
المعارضة؟
في اعتقادي أن المعارضة كانت تنتظر أن تتكلل تحركاتها
ومسيراتها بانقلاب، أو ربما بعملية اغتيال للرئيس لتحقيق مطلب الرحيل، ولا أعتقد
بأن الانقلاب أو الاغتيال سيكون هو أفضل طريقة للتغيير.
صحيح.. هناك شيء آخر ربما كانت المعارضة تتوقعه، وهو أن
يستقيل الرئيس، ولكن لا أعتقد بأن المعارضة كانت تتوقع بأن عددا من المسيرات
والمهرجانات المتباعدة سيجعل الرئيس محمد ولد عبد العزيز يستقيل، خاصة أن هذا
الرئيس لم يُرسل في أي يوم من الأيام إشارة توحي بأنه من الزاهدين في السلطة، أو أنه
من أولئك الذين يمكن لهم أن يفكروا في الاستقالة، ولو للحظة عابرة، حتى وإن طالبته
أغلبية الشعب الموريتاني بذلك.
الاستقالة التي كان يمكن أن تحدث هي تلك التي تُفرض على
الرئيس فرضا، أي تلك التي تفرض من خلال الاستعداد للموت على أسوار القصر الرئاسي.
فهل كان المعارضون على استعداد للتضحية بأرواحهم لإجبار
الرئيس عزيز على الاستقالة؟
هناك شيء حدث الساعة الرابعة فجرا عند مسجد ابن عباس في
أول اعتصام للمعارضة للمطالبة بالرحيل (03 ـ 06 ـ 2012) لا يؤكد بأن المعارضة كانت
على استعداد للتضحية بأرواح مناضليها لفرض الاستقالة.
ولكن هل يعني هذا الجواب بأننا كنا أمام عمل عبثي استمر لما يزيد على عام
كامل، رفعت خلاله المعارضة شعار الرحيل دون أن تكون على استعداد لدفع فاتورة كلفة
الرحيل؟
يصعب أن نقول بأن نضال المعارضة لعام كامل كان مجرد نضال
عبثي لم تكن له أي نتيجة، يصعب قول ذلك، ولكن في المقابل يصعب أيضا أن نقول بأنه
كانت لذلك النضال أي نتيجة يمكن تقديمها في هذا المقام. ومهما كان الخلاف على
الحصيلة، فإن هناك أسئلة لابد من طرحها:
أوَ ليس الجهد النضالي اللازم لفرض انتخابات شفافة والتي
ستؤدي حتما إلى الرحيل أقل بكثير من الجهد النضالي اللازم دفعه لإجبار الرئيس على
الاستقالة ؟ أَوَ ليس الجهد النضالي الأول أكثر ملاءمة للمعارضة الموريتانية ولجمهورها،
من الجهد الثاني الذي لابد له من أرواح تبذل في سبيل تحقيقه؟
والآن لنعد إلى سؤالنا السابق: متى يمكننا القول بأن موافقة
المعارضة على مبادرة مسعود تدخل في إطار رؤية جديدة أو إستراتيجية جديدة لفرض الرحيل؟
يمكننا أن نقول ذلك إذا كانت المعارضة قد فكرت عند
قبولها لمبادرة مسعود بالاحتمالين التاليين، وأن تكون قد أعدت لكل احتمال ما
يناسبه:
الاحتمال الأول: أن لا يوافق الرئيس عزيز على المبادرة،
فعلى المنسقية في هذه الحالة أن يكون لديها تصورواضح لكسب الرئيس مسعود وجذبه إلى صفها، خاصة وأنه لن تكون لديه حجة ـ بعد
قبول المعارضة لمبادرته ورفض النظام لها ـ للبقاء صامتا ومنعزلا في
معتكفه السياسي.
الاحتمال الثاني: أن يوافق الرئيس على المبادرة، وفي هذه
الحالة على المعارضة أن تكون جاهزة لفرض الرحيل من خلال صناديق الاقتراع، ولن يتم
ذلك إلا إذا بشرطين أساسيين:
1ـ أن تعمل المعارضة كلما في وسعها من أجل فرض انتخابات
شفافة، وأن تكون على استعداد كامل لدفع ما يحتاجه ذلك.
2ـ أن تتفق
المعارضة على مرشح واحد من خارج قياداتها الحالية، بل ومن خارج أحزابها، وأن تبحث
من الآن عن ذلك المرشح التوافقي الذي يجب أن يكون شخصية وطنية مستقلة ومعروفة
بالكفاءة وبالاستقامة وقابلة للتسويق، حتى يكون بالإمكان أن يتسع الإجماع عليها ليشمل أحزابا قد لا تكون منخرطة الآن في
المنسقية، بل وليشمل هيئات ومنظمات ونقابات وشخصيات ذات مرجعية، وكل ما من شأنه أن
يساهم في نجاحه.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، هو أن الفرص لن
تكون كبيرة بالنسبة للمرشح عزيز في أي انتخابات رئاسية قادمة، وذلك لأن شعارات
المعارضة التي نجح في الاستيلاء عليها في الانتخابات الماضية (الحرب على الفساد، تجديد
الطبقة السياسية، القضاء على الفقر) لن يكون بإمكانه أن يرفعها في الانتخابات
القادمة، وحتى ولو رفعها فإنها لن تجذب إليه الداعمين كما جذبتهم في الانتخابات
الرئاسية الماضية. كما أن المترشح عزيز لن يكون قادرا على جذب شخصيات وازنة وذلك
بعد أن أثبت بأنه مرشح غير وفي لداعميه، فأكبر داعميه في الانتخابات الماضية أصبح
اليوم من أشرس معارضيه، وذلك بالتأكيد سيجعل كل الشخصيات الوازنة تفكر كثيرا من
قبل أن تقرر دعمه في أي انتخابات قادمة. ثم إن ضعف أداء الرئيس عزيز خلال مأموريته
الحالية سيكون ضده في أي انتخابات تنظم مستقبلا.
ومما يجب أن نشير إليه هنا هو أن اختيار شخصية وطنية من
خارج قيادات المعارضة سيثبت للشعب الموريتاني بأن المعارضة الموريتانية لا تسعى إلى
السلطة، بقدر ما تسعى لفرض ديمقراطية
حقيقة من خلال تناوب سلمي وسلس على السلطة.
ثم إن مثل هذا المرشح الموحد سيحقق مكاسب لقادة المعارضة
أنفسهم، لأنه سيغطي على التراجع في شعبية رموز وقادة المعارضة. فمثلا فإن الرئيس
مسعود لن يحقق في أي انتخابات قادمة نسبة مساوية لما حققه في الانتخابات الماضية،
ولن يكون بإمكان الرئيس أحمد داداه أن يحقق نسبة تقترب من نسبه السابقة.
إن الشعب الموريتاني، ولأسباب عديدة ليس المقام مناسبا
لبسطها، أصبح يتعطش إلى أوجه جديدة من خارج الطبقة السياسية التقليدية. ولقد عبر
الشعب الموريتاني عن ذلك في رئاسيات 2007 من خلال رسالة قوية لم تجد حتى الآن من
يوفق في قراءتها.
لقد صوتت نسبة هامة ولافتة من الشعب الموريتاني، خاصة من الشباب، للمرشح "الزين
ولد زيدان" رغم أن ماضي هذا المرشح الوظيفي لم يكن ناصعا، ولكن فقط لأنه كان يمثل وجها جديدا من خارج الطبقة
السياسية التقليدية.
وعندما نعود إلى تلك الانتخابات فسنجد بأن موريتانيا
ليست فعلا مثل تونس ولا مصر، فقد كان بإمكان الموريتانيين أن يسقطوا النظام من
خلال انتخابات 2007.
ففي رئاسيات 2007 كان من المحتمل جدا أن يحصل ذلك التغيير
من خلال الانتخابات، ولكن المعارضة ـ ومن خلال بعض مكوناتها ـ وقفت ضد حصول ذلك
التغيير.
إن احتمال حدوث التغيير من خلال الانتخابات لا يزال
قائما، حتى ولو كان ضعيفا، وإن فرض ذلك لا يحتاج إلا لفرض انتخابات شفافة، وعندما
يتم فرض انتخابات شفافة، وتتقدم لها المعارضة بمرشح واحد من خارجها، فإن الرحيل حينها سيتحقق بأكثر الأساليب أمانا،
وبأكثرها ديمقراطية أيضا.
حفظ الله موريتانيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق