شهدت الأيام الماضية تعيين شاعرين
كبيرين في وظيفتين استشاريتين، أحدهما عُيِّن مستشارا لوزيرة الثقافة، أما الثاني
فقد عُيِّن مستشارا أو مكلفا بمهمة لدى الرئيس. ولقد أثار تعيين الشاعرين نقاشا
حادا على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يكن هذا النقاش الجديد بأقل حدة من نقاش سابق أعقب تصريحات غير ودية عن
الشعر والشعراء كان قد أطلقها الرئيس في مقابلة مثيرة مع قناة أجنبية.
في تلك الفترة التي جرت فيها المقابلة
المثيرة كان الرئيس يُصِر دائما على أن يشيد بأصحاب التخصصات العلمية وينتقد أصحاب
التخصصات في العلوم الإنسانية. أما اليوم فهاهو الرئيس ـ أعانني الله وإياكم على
فهمه ـ يعين شاعرين في أسبوع واحد، وهو الأسبوع الذي كان قد شهد تنكيلا ومعاملة
غير لائقة بعاطلين عن العمل من جماعة "أنا علمي" كانوا قد تظاهروا أمام
الوزارة الأولى وأمام الرئاسة طلبا للتوظيف.
وكان من بين المتظاهرين العلميين من قضى
تسع سنوات يدرس في الخارج، كدس خلالها العديد من الشهادات في تخصص المعادن، ومع ذلك
فإنه لم يجد وظيفة في أي واحدة من شركات المعادن الأجنبية التي تستنزف ما يزيد على
90% من ثرواتنا المعدنية.
إن مأساة هذا الشاب المُعَطل عن العمل،
والمتخصص في المعادن، والذي قدمته قناة الجزيرة في حصادها المغاربي ليوم الخميس
لتؤكد بأن اهتمام الرئيس المعلن بأصحاب التخصصات العلمية لم ينعكس إيجابا على
أصحاب تلك التخصصات. ذلك استنتاج لم يكن من الممكن إلا أن أشير إليه بشكل عابر، في
بداية هذا المقال، حتى وإن كان ليس هو الذي دفعني لكتابة هذا المقال.
إن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو ذلك النقاش
المتسع الذي أعقب تعيين الشاعرين، والذي انقسم فيه المدونون إلى فسطاطين اثنين:
أحدهما يرى بأنه يجب علينا أن نقدر الشاعر وأن نحترمه على إبداعه، حتى وإن كان في
القضايا العامة لم يقدم ما يستوجب ذلك الاحترام. أما الفسطاط الثاني فيرى العكس،
أي أن القصيدة الرائعة لا تكفي لوحدها لأن تجلب الاحترام والتقدير لقائلها.
وبالموريتاني الفصيح : هل يجب عليَّ أنا
الذي أبغض الانقلابات بغضا شديدا أن أحترم وأقدر رئيس اتحاد الأدباء والكتاب
الموريتانيين لمكانته الأدبية مع العلم بأني كنت قد شاهدته ذات أربعاء صادم وهو
يتهجى بيانا انقلابيا خاليا من أي إبداع شعري أو نثري أو أخلاقي أو سياسي حتى؟
وهل يستحق أمير الشعراء أن أحتفظ له
بنفس المخزون الكبير من الاحترام الذي استحقه عليَّ يوم رفع رأسي ورؤوس كل
الموريتانيين في مسابقة أمير الشعراء؟ فهل يستحق أمير الشعراء أن احتفظ له بذلك
المخزون الكبير من الاحترام، وذلك بعد أن سمعته ذات يوم يمدح القذافي لمصالح آنية
وشخصية جدا؟
للإجابة على هذه الأسئلة دعونا نخلط
شيئا من تاريخ الشعراء في العصر العباسي، بشيء من حاضرهم في موريتانيا.
شيء من تاريخ الشعراء: لم يكن الشعراء
في زمن ازدهار الشعر العربي أصحاب قضية، ولا أصحاب رسالة. بل كانوا مجرد تجار
يبيعون أشعارهم بالدرهم وبالدينار، يمدحون من يدفع لهم، ويهجون من لم يدفع، يمدحون
بلا سبب، ويقدحون بلا وجه حق. فكان ذلك هو حالهم جميعا في العصر العباسي، ولم يسلم
من ذلك سوى الفيلسوف الشاعر أبو العلاء المعري الذي عاش بعيدا عن القصور، وكان له
شرف استنهاض الشعوب ودعوتها لمواجهة الظلم.
فمن المؤسف حقا أن لا يكون لشاعر كبير
كالمتنبي أية رسالة، فهذا الشاعر لم يكن يحمل هم أمة، الشيء الذي جعله يعيش حياة
بائسة تسكع خلالها بين الأمراء في مصر والشام والعراق وفارس طمعا في المال والجاه،
ليس إلا.
فلم يكن هذا الشاعر الكبير إلا مرتزقا
من الطراز الأول، يمدح من الأمراء من لا يستحق إلا الهجاء إذا ما حفن له ذلك
الأمير حفنة من مال، ويهجو من يستحق أن يُمدح إذا لم يجد عليه بمال.
مدح المتنبي ولمصالح شخصية تافهة سيف
الدولة الحمداني، وجعل منه شيئا مذكورا رغم أن سيف الدولة لم يكن غير أمير شيعي
يقود إمارة صغيرة جدا. وهجا المتنبي كافور الإخشيدي لأسباب شخصية، وذلك لأنه لم
ينفق عليه ببذخ، ولم يقتطع له إمارة.
لقد هجا المتنبي كافور بأشعار أستحي حتى
من قراءتها، وزور بذلك تاريخ مصر في عهد كافور، ومن لم يسمع عن كافور إلا افتراءات المتنبي فيُخشى عليه أن يكون من الغاوين، ذلك
أن كافور كان بطلا بحق، ولكن اللسان الظالم
للمتنبي كان قد ظلمه ظلما كبيرا.
فليس من الإنصاف أن ننتقد كافور لأنه
عبد بيع في مصر بثمانية عشر دينارا فقط. لقد بيع يوسف عليه السلام في مصر نفسها بدراهم معدودة، رغم أنه هو الكريم ابن الكريم
ابن الكريم.
فكافور الذي كان يلقب بالأستاذ لسعة
ثقافته، ويكنى بأبي المسك، كان شهما، شجاعا، حليما، عادلا. فكان يوزع الأضاحي على
الفقراء ليلة العيد. ويقال أن المتنبي كان يعلم بتلك العادة، لذلك فقد استغل
انشغال كافور بالفقراء ليلة العيد للهروب من مصر. وفي عهد كافور لم يكن الأغنياء يجدون
من يدفعون له الزكاة. ولقد استطاع كافور أن يوقف زحف الفاطميين، فكانوا كلما عزموا
على غزو مصر تذكروا كافور الإخشيدي فقالوا قولتهم الشهيرة: "لن نستطيع فتح
مصر قبل زوال الحجر الأسود"، أي قبل زوال كافور.
وكان كافور
محبوبا من طرف الشعب، وذلك بسبب عدله، وبسبب إدارته الحكيمة. ومن حب الناس له أنه كان يدعى له في الحرمين
الشريفين، وفي الكثير من المنابِر الإسلامية الشهيرة. ومن رجاحة عقل كافور أنه لم ينفق أموال المسلمين على
المتنبي، ولم يقتطع له أرضا حماية للعرض. ولو أن كافور فعل ذلك لما هجاه المتنبي
إطلاقا، ذلك أن المتنبي لم يكن ليهجو من يرميه بحفنة من دنانير.
لقد مدح المتنبي كافور الإخشيدي طمعا،
وذلك من قبل أن يهجوه تذمرا. وهناك بيت من الشعر ينسبه البعض للمتنبي، وقد قيل هذا
البيت بعد زلزال حل بمصر في عهد كافور:
ما زُلْزِلت مصرُ من كيدٍ أُريد بها ***
لكنها رقصت من عدلكم طرباً
فبالله عليكم هل يستحق قائل هذا البيت سواء كان
المتنبي أو غيره الاحترام، على الأقل، من طرف أولئك الفقراء الذين دَمََر الزلزال
مساكنهم، فإذا بهم من قبل أن يستفيقوا من الفاجعة يفاجؤوا بشاعر ينشد ذلك البيت
للسلطان، بدلا من أن ينشده شعرا يدعو لإغاثة الفقراء المتضررين من الزلزال؟
شيء من حاضر الشعراء: لقد أتيح لي أن أطلع صدفة وفي عام مضى، على كتاب
كان عبارة عن مجموعة من القصائد التي تمدح رجل أعمال موريتاني. وقد ظهر بعد نشر
الكتاب بأن ثروة رجل الأعمال التي اشترى بشيء من فتاتها تلك القصائد، لم تكن إلا حصيلة
لعمليات نصب وشعوذة وسرقة لأمراء خليجيين.
ولقد فوجئت أن في الكتاب المذكور قصائد لشعراء كبار ذًكِر بأنها أنشدت
مقابل عطاءات مالية كبيرة. فهل يستحق مثل أولئك الشعراء أن نحترمهم حتى وإن أبدعوا؟
ولو أنكم اطلعتم على الكم الهائل من القصائد العصماء التي مدح بها
شعراء كبار الرئيس معاوية، لصدمتم كثيرا.
الخلاصة:
علينا أن نميز بين ثلاثة أصناف من الشعراء.
الصنف الأول: وهو القليل جدا، وهو يمثل قلة من الشعراء يمكن عدها
بأصابع اليد، وهي قلة اشتهرت بالدفاع عن الوطن، وعن الشعب، ولم تُعرف بمدح
السلاطين. هذه القلة هي تاج علينا أن نفتخر بوضعه على رؤوسنا.
الصنف الثاني: شعراء لم يختزلوا الوطن في السلطان، ولكنهم في المقابل
لم يدافعوا عن الوطن ولا عن المستضعفين، وهؤلاء يستحقون أن نقدرهم إذا ما أبدعوا،
وأن نتجاهلهم إذا لم يبدعوا.
الصنف الثالث: وهذا الصنف يمثل الأغلبية من الشعراء، وهو الصنف الذي اختار
أن يختزل الوطن في سلطان أو في رجل أعمال أو في وجيه فتفرغ لمدح أولئك، وترك الوطن
وهمومه، وكأنه ليس معنيا بتلك الهموم. بل إن الكثير من شعراء هذا الصنف قد عُرفوا
بتشجيعهم وتبريرهم لفساد وظلم الرؤساء، رئيسا بعد رئيس. هؤلاء لا يستحقون ذرة
احترام، حتى وإن أبدعوا في قصائدهم.
حفظ الله موريتانيا، وحفظ الله شعراء الصنف الأول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق