هذه القصاصة تبين أن العمل الخيري قد لا يحتاج في كل الأوقات إلى كثير من المال، ففي أوقات كثيرة قد لا يحتاج إلا لوجود روح المبادرة، وإلى قطعة صابون.
ففي عام مضى، أخبرني أحد الأصدقاء عن وجود حالة إنسانية صعبة جدا في المستشفى المعروف حينها بمستشفى الصباح، وهو المستشفى الواقع غرب المستشفي الوطني.
صديقي هذا طلب مني أن أكتب عن تلك الحالة الإنسانية، وهو ما فعلته حينها، ولأنني موريتاني حتى النخاع فلم أفكر في أي شيء آخر غير كتابة بضع كلمات ميتة، ونشرها في واحدة من الجرائد التي كانت تصدر في ذلك الوقت.
كانت الحالة صعبة جدا : مواطن موريتاني يعاني من أمراض متعددة، جيء به من السجن المدني، لأنه كان سجينا، وألقي به في إحدى غرف مستشفى الصباح، وتُرك هناك وحيدا بلا رفيق.
كانت الروائح الكريهة تنبعث من الغرفة التي يوجد بها النزيل، حتى أصبح أصحاب الغرف المجاورة يتضررون منها، وكانت تلك الروائح الكريهة، أكرمكم الله، تنبعث من الرجل، ومن فراشه، فهو من شدة المرض لم يكن قادرا على أن يقضي حوائجه في الحمام، فظل يقضيها على فراشه، ولأنه كان وحيدا بلا رفيق، ولأن الرأفة غائبة في مستشفياتنا، فقد ظلت حالة الرجل تتفاقم، حتى وصلت الروائح إلى درجة أصبح فيها مجرد المرور من أمام غرفة هذا المريض مجازفة كبرى.
كانت حالة الرجل تزداد سوءا، ومع ذلك فلم يفكر أي واحد من الملايين الثلاثة وزيادة من إخوة هذا الرجل بالتطوع بمرافقته في المستشفى حتى يشفى من مرضه، أليس المسلم أخ المسلم؟ أليس المواطن أخ المواطن؟ ألم يعلمونا ذلك نظريا أما عمليا فإنهم لم يعلمونا أي شيء مفيد.
كانت حالة الرجل تزداد سوءا، ومع ذلك لم نسمع عن أي منظمة غير حكومية من آلاف المنظمات المرخصة حاولت أن تغيث ذلك الرجل المريض.
كانت حالة الرجل تزداد سوءا، ومع ذلك لم نسمع عن أي عالِم أو عن أي سياسي، أو عن أي وجيه، أو عن أي تاجر، أو حتى عن أي عابر سبيل فعل شيئا ـ أي شيءـ لهذا المريض المسكين الذي يجمعه بنا، وطن واحد، ودين واحد.
كانت حالة الرجل تزداد سوءا، ومع ذلك فقد ظلت موريتانيا تتفرج على معاناة ذلك الرجل دون أن تفعل شيئا، وكأنه ليس أحد أبنائها.
ظلت موريتانيا ـ كعادتها ـ تتفرج، في انتظار أن يأتي مغيث ليغيث ذلك الرجل المسكين.
ذلك هو الوجه البائس من المشهد، فدعونا نتأمل الوجه "المضيء" من المشهد :
فتاة أمريكية في مقتبل عمرها (21 سنة)، تربت في بيئة أكثر "نظافة" من بيئتنا، جاءت من بعيد إلى هنا، وبالتأكيد فإن في بلدها ما يمكن أن يشغلها عن المجيء إلى هنا، فإن كانت تريد علما فالعلم هناك، وإن كانت تريد مناظر سياحية فالمناظر السياحية أكثر هناك، وإن كانت تريد حياة لهو وبذخ وفحش ففي بلدها من البذخ والفحش ما لا يخطر على بال.
جاءت، ولابد أنها جاءت لغاية...
المهم أنها جاءت إلى هنا، وعَلِمت ـ ولا أدري ممن ـ بقصة المريض الذي يعاني في مستشفى الصباح.
جاءت، وهي ولا تحمل معها سوى قفازات وقطعة صابون وغطاء من قماش رقيق (بالمناسبة هذا هو ما بخلت به موريتانيا على أحد أبنائها المرضى).
وضعت القفازات على يديها، وأخذت تنظف ثوب وفراش وجسد المريض بالماء والصابون، ثم وضعت عليه غطاء القماش، وبعد ذلك أخذت تصرخ، وتصرخ، فجاءت إدارة المستشفى لتهتم بالمريض، وذلك من قبل مجيء أحد العاملين في إدارة السجن بكيس مملوء بشتى أصناف الفواكه!!!
بالمختصر المفيد: لقد اهتم الجميع بهذا المريض لأن أمريكية لا يتجاوز عمرها واحد وعشرون سنة اهتمت به، وأوصتهم عليه، وكأنهم قد فاتهم أن ربهم ورب الأمريكية كان قد أوصاهم من قبل ذلك بذلك المريض، وبغيره من المرضى والضعفاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق