في عام الدخان الذي جاء بعد عام الإحباط، زادت أوضاع الناس صعوبة، وواصلت
الأسعار ارتفاعها وصعودها، ولم يرافقها في رحلة صعودها تلك إلا أعمدة دخان مسيلات
الدموع، تلك الأعمدة التي شوهدت ـ أكثر من مرة ـ وهي تغطي سماء مدن وقرى لم تعرف
سماؤها من قبل دخان مسيلات الدموع، كما شوهدت وهي ترتفع في أوقات السحر فوق منارة
مسجد ابن عباس في سابقة هي الأولى من نوعها، على الأقل من حيث توقيت تصاعد الدخان.
وفي عام الدخان، اختلف الناس كثيرا، حول مصدر ذلك الدخان الكثيف الذي كان
يغطي السماء من حين لآخر، فمنهم من قال بأنه نتيجة لعملية احتراق حدثت في الماضي،
ولا تزال متواصلة حتى الآن، ومنهم من قال بأنه نتيجة لعملية احتراق تحدث الآن، في
حين قالت طائفة ثالثة كلاما عجيبا مفاده أن الدخان المتصاعد الآن هو دخان متحصل من
حريق كبير لم يحدث بعد !!!
ولكي نحدد مصدر الدخان المتصاعد، دعونا نتحدث قليلا في علوم اللغة والنحو والصرف، ودعونا نعد إلى
دروس النحو والصرف في المرحلة الابتدائية، وذلك لنتوقف أمام إعراب ثلاث جمل،
ترددها ثلاثة أطراف، وهذه الجمل هي: "أحرق الجنرال البلد"، "ستحرق
المعارضة البلد"، " احترق أو يحترق أو سيحترق البلد ".
(1)
"أحرق الجنرال البلد":
هذه جملة من فعل وفاعل سياسي واحد ومفعول به، والفعل هنا هو فعل ماض يمتد على طول
فترة زمنية تبدأ من فجر السادس من أغسطس من العام 2008، وستنتهي بيوم الرحيل
المنتظر، ذلك اليوم الذي سيتوقف فيه الحريق حسب المعارضة وأنصارها.
وتقول المعارضة في مجمل ما تقول بأن الجنرال أحرق كل شيء في البلد، أحرق
الديمقراطية، وأحرق أحلام الناس، خاصة منهم الفقراء الذي كان يعدهم ويمنيهم، وأحرق
القيم والأخلاق، وأحرق العدالة التي وعد بتوزيعها بين الناس، وأحرق حتى الأمل في
نفوس الناس، كل الناس، أغنياء وفقراء، معارضين و موالين، نساء و رجالا، شبابا و شيوخا.
ولقد حاول أن يغطي على عملية حرقه للأمل بالإكثار من استخدام الكلمة، فأطلق كلمة "أمل"
على أكثر برامجه فشلا "أمل 2012"، وأطلقها أيضا على أكثر المناطق تضررا
في فترة حكمه "مثلث الأمل".
(2)
"ستحرق المعارضة
البلد": هذه أيضا جملة من فعل وفاعلين سياسيين كثر، في محل فاعل، ومفعول به، والفعل هنا هو فعل مضارع يمتد زمنيا من
أول مسيرة مطالبة بالرحيل ( مسيرة 12 مارس) وسينتهي بتوقف المعارضة عن المطالبة
بالرحيل، حسب أنصار النظام طبعا.
ويقول أنصار النظام بأن المعارضة تحاول جاهدة أن تشعل البلد من أجل
الوصول إلى السلطة، في حين تقول المعارضة بأن الجنرال وأنصاره على استعداد لإشعال
البلد ـ كل البلد ـ من أجل البقاء في السلطة، وهناك من يقول صدقت المعارضة، وصدقت
الأغلبية، فالأغلبية على استعداد لحرق البلد للمحافظة على الكرسي، و المعارضة على
استعداد لحرق البلد للوصول إلى الكرسي.
(3)
" احترق أو يحترق أو سيحترق البلد "، هذه الجملة ترددها
غالبية الناس، وإن كان الخلاف سيظل قائما حول الفعل، فهل الأصح أن نقول احترق
البلد، أو البلد يحترق الآن، أو نقول سيحترق البلد.
ومهما يكن من أمر، فإن الفاعل في الجملة الأخيرة هو البلد، أي أن البلد
هو الذي يحرق نفسه، وهذه واحدة من الحالات الشاذة التي حيرت علماء النحو السياسي،
فالبلد لا يكون عادة فاعلا، ولا مفعولا
لأجله، وإنما يكون مفعولا به، أو مفعولا فيه. والبلد بالمعنى السياسي تعني الرئيس
وأنصاره، والمعارضة المحاورة، والمعارضة المقاطعة، والأغلبية الصامتة في هذا
البلد، وحركة "إيرا"، وحركة لا تلمس جنسيتي، وحركة لا تلمس إقامتي،
والتي كانت هي أول حركة سنغالية خالصة تظهر في البلاد. إن كلمة البلد، أي الفاعل
الشاذ، تعني هنا ثلاثة ملايين وزيادة من الموريتانيين مع ملحقاتهم طبعا.
وكلمة البلد تعني: أنا، وأنت، وأنتِ، وهو، وهي، ونحن، وأنتم، وأنتن، وهم،
وهن. فنحن جميعا نشارك ـ بوعي أو بغير وعي
ـ في عملية حرق البلد، أنا أشارك في عملية الحرق، وأنت تشارك، وأنت قد تكون مواطنا
اختار أن يظل يتفرج على بلده يحترق دون أن يفعل شيئا ـ أي شيء ـ لإنقاذه، وكأن
الذي يحترق هو إقليم التبت. وأنت قد تكون طبيبا جشعا يمارس التجارة وهو يلبس ثوبا
أبيض. وأنت قد تكون معلما ترك الدرس وذهب ليبيع الهواتف أو بطاقات التزويد في نقطة
ساخنة. وأنت قد تكون إطارا يستنفر قبيلته بكاملها لكي تحميه حتى لا يحاسب على مال عام سرقه. وأنت
قد تكون فقيها مالكيا ينتصر دائما للمذهب، ولكنه ينسى أن يتشبه بمالك إذا ما قابل
السلطان، ولا يستطيع أن يقول ما كان يقوله مالك أمام الخليفة القوي هارون الرشيد. وأنت قد
تكون طالبا يغش في الامتحان. وأنت قد تكون مغتربا أو مغتربة تشوه سمعة الوطن في
بلاد الغربة. وأنت قد تكون لصا خطيرا ولكن في ثوب رجل أعمال، أو فقيه، أو وجيه
وقور. وأنت قد تكون مواطنا فقيرا لم يرتكب من الأخطاء إلا أنه كان يقول زورا وبهتانا
بأنه على خير كلما قابل وسيلة إعلام رسمية. وأنت قد تكون صحفيا يناضل من أجل زيادة
60% وينسى أن كل راتبه حرام لأنه لم يقدم
يوما ما يهم الناس الذين يدفعون له راتبه من الضرائب. وأنت قد تكون المدير
الناشر لجريدة أو لموقع مستقل يقول بأن موقعه أو جريدته مفتوحة للجميع، ولكن العكس
هو الصحيح، فهو لا ينشر إلا ما يوافق مزاجه أو مصالحه الخاصة، شخصية كانت أو
حزبية. وأنت قد تكون شاعرا بائسا يمدح من يدفع، ويهجو من لا يدفع. وأنت قد تكون
شابا ما شاء الله عليك تتحمس للقضايا العربية و الإسلامية أكثر من تحمسك لقضايا
وطنك. وأنت قد تكون ابن القبيلة أو ابن الشريحة أو ابن الجهة من قبل أن تكون ابن
الوطن. وأنت قد تكون غنيا ينافس الفقراء في أرزاقهم. وأنت قد تكون، وقد تكون، وقد
تكون أيضا....
لنقلها بصراحة، نحن جميعا نشارك ـ
وإن بدرجات متفاوتة طبعا ـ في عملية حرق البلد، ولكن الاعتراف بتلك الحقيقة لا
يعني بأن من الحكمة أن نشتغل في مثل هذا الوقت العصيب بانتقاد
"الكومبارس" أي أنا، وأنت، وهو، وهي، بدلا من انتقاد من يمثل دور
البطولة في عملية إحراق الوطن.
وأن نتوقف أنا وأنت عن المشاركة في عملية إحراق البلد، فذلك بالتأكيد هو أول
ما يجب أن نفعله لإيقاف الحريق، وهو بلا شك عمل وطني عظيم، ولكنه لن يؤدي قطعا إلى
توقف الحريق، وحتى إن توقفت المعارضة بشقيها المحاور والمقاطع عن المشاركة في
إحراق البلد فالحريق لن يتوقف ما دام الرئيس لم يقرر بدوره أن يتوقف.
أما إذا قرر الرئيس أن يتوقف، فإن الكثير من أصحاب الأدوار الثانوية
سيتوقفون تلقائيا، وستكون السيطرة على عملية الحريق مسألة في غاية البساطة، وهذا
بالضبط هو ما يجعلني أتجاهل الكثير من أصحاب الأدوار الثانوية في عملية إحراق
البلد، وأركز على ما يقوم به الرئيس من قرارات وتصرفات وانفراد بالسلطة قد يسرع
عملية الاحتراق. وهذا هو أيضا ما يجعلني أقول وبأعلى صوتي: من أراد منكم أن ينتقد الآن فلينتقد الرئيس أو
ليصمت، ومن أراد منكم أن ينصح الآن فلينصح الرئيس أو ليصمت، ومن أراد منكم أن يوقف
الحريق فعليه أن لا ينشغل بأصحاب الأدوار الثانوية، حتى لا يشغله ذلك عن البطل الأول
في عملية الإحراق..
تصبحون في بلد مفعول لأجله....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق